أدب ابن زَمْرك.. هل أمرَ بحفر شِعره في جداريات قصر الحمراء؟

■ قصائد ابن زَمْرك تسيدت جدران الحمراء

ت + ت - الحجم الطبيعي

القصائد المحفورة على جداريات قصور الأندلس أغلبها ليست للملوك، كما يظن البعض، بل لشعرائهم في القصر وحُجّابهم ووزرائهم ورؤساء البلاط هناك، وهي نصوص في غالبيتها عبارة عن مديح للملك وتاجه وحسن خلقه، وما يجلس عليه من أثاث، ثم الدعاء له، بالإضافة إلى تلك القصائد التي تعبر عن بهجة الانتصار بعد الحرب، مروراً بوصف عجائب القصر وإبداعه الفني المعماري المتمثل في أخشابه وجصه وسقفه المشغول والجدران المزينة والحديقة الغناء ونافورتها المميزة، انتهاءً بوصف الجواري، إلى آخر تلك القصائد التي لم تعد تنشد الآن على الألسنة، لرتابتها. أما موضوعنا اليوم تحديداً فهو عن شاعرٌ يدعى ابن زمرك، الذي تسيّدَ شعره أغلب جداريات القصر، فلمَ يا ترى؟

الكلمة في المعمار

يعد قصر الحمراء من أكثر قصور العالم الذي استُخدمَ على جدارياته الخط العربي كزينة ونقش وحفر في خط عربي بديع، حتى أخذ هذا الخط المحفور هناك يقارن بجمال العمارة، والعمارة بالخط العربي، وإلا ما الذي يميز القصر لولا الخط والكلمة، فمعظم قصور العالم تم تخطيط زخرفتها، ما عدا الحمراء، فإننا نستطيع مقارنة هيكل البناء بالحروف الباقية فيه من خط كوفي ونسخ في كتابات وأشعار التصقت بجدرانها وأبوابها ونوافذها وأعمدتها وأقواسها.. والتي بقيت مع الهيكل ولم تُمح إلى الآن.

تشكيلات قواعد الجدران

أصبح القصر شعرياً بامتياز بعد أن حفرت تلك المحاور الشعرية في كل الزوايا، لتتخلد الشاعرية وحس الأدب بين جدرانه التي لم تصمت في معانيها بعد مرور كل تلك القرون، هذا المكان الذي لا يحتوي على مكتبة، أصبح في حقيقته كتاباً يُقرأ، فبعد المرور على فنون معماره المتنوعة، وسرد تاريخه، فإنه لا يغيب هذا الكتاب الكبير في فضاء المكان بما فيه من وصف ومقارنات وتصوير.

تلميذ «جادك الغيث»

ومن أكثر قصائد القصر المحفورة هي لشاعر يدعى محمد بن يوسف التصريحي المعروف والمشهور بابن زمرك، شاعرٌ كبير، دخل القصر والديوان بثقة بعد أن تميز في الكتابة وتذوق الأدب، وقال الكثير من الأبيات المعبرة، ليصبح بمرور الوقت أمين سر ووزيراً لبني الأحمر حكام القصر وغرناطة، لنرى بعد ذلك أنه من أهم الذين تخلد شعرهم على الجدران.

كان ابن زمرك تلميذاً للسان الدين ابن الخطيب، الذي كان مؤلفاً ومعلماً وشاعراً وفيلسوفاً وطبيباً وسياسياً ومترجماً وفقيهاً، وهو «الخطيب» صاحب الأبيات الشهيرة:

جادك الغيث إذا الغيث همى

                       يا زمان الوصل بالأندلس

شعر الاستعارات

كان عصراً ذهبياً لابن زمرك، ففي القصائد الجدارية التي اتسعت له، كثرت الاستعارات الملكية بجانب الاستعارات الفردوسية، خاصة في فناء الريحان الكبير بالقصر، بهندسته المستطيلة، أتت موشحة لابن زمرك من جديد والمستلهمة للأعراسْ عند مدخل ساحة البركة:

قُدوماً من باحة الريحانِ

أنا مَجلاةُ عَروسٍ

ذاتُ حُسْنٍ وكمالِ

فانظر الإبريقَ تعرفْ

فضلَ صِدقي في مقالِ

وهكذا يكمل القصيدة حتى يصل إلى:

رَقمَت أناملُ صانعي ديباجي

                 من بعدِ ما نظمتْ جواهرَ تاجي

وحَكيْتُ كُرسيَّ العروس وزِدْتُهُ

                    أني ضمنتُ سعادةَ الأزواجِ

الخط الكوفي

نتنقل بين جدران القصر لنجد قصيدة أخرى، بالأخص عند باب الكباش وهو في أحد أطراف الحديقة المقابلة لقصر يدعى «جنة العريف» الذي بني لاحقاً قرب قصر الحمراء كملحق استراحة بحدائق غناء. وسميت قصيدته هذه المحفورة هناك «جنة الجنان»:

قصرٌ بديع الحسن والإحسانِ

                 لاحت عليه جلالة السلطانِ

ترميز

نعبر المزيد من شعره المحفور، ليستبين لنا الترميز الشعري لدى ابن زمرك الواضح في قصيدته التي أوجزها، وحُفرت على إحدى الأبواب:

يا منصب المُلكِ الرفيع

               ومحْرز الشكل البديع

فُتحت للفتح المبين

              وحُسنِ صُنع أو صنيع

تختلف الملامح كل حين ونجد أنه يخاطب التاج ويصف مكانته، في أبيات كتبت على برج «قمارش»:

منصبي تاجٌ وبابي مَفرقُ

            يَحسدُ المغرب في المشرقُ

والغني بالله أوصاني أنْ

              أسرعُ الفتحَ لفتح يطرقُ

فأنا مُنتظرٌ طلعتهُ

            مثلما يُبدي الصباح الأفقُ

بين الأمر والتقدير

وفي النهاية نتساءل عن كل هذا الشعر المنتشر في القصر لابن زمرك، هل حُفر نقشاً في الأروقة والأبراج والقاعات بأمره، لكونه في مكانةٍ كانت تَسمح له بالأمر والطاعة، أم أن الحفر كان بعد وفاته، خاصة أنه تم تجميع أعماله الشعرية وموشحاته وأعماله كلها من قبل السلطان ابن الأحمر، ووضعت في مجلد كبير بعنوان: «البقية والمَدْرَك من كلام ابن زَمْرَك»، ليتم اختيار أبياته ويُزين بها القصر؟

هذه التساؤلات تميل بين الإجابتين، في أن السلطان الأحمر قد قدر أدبه فيما بعد، أو أن ابن زمرك الذي ولد في حي البيازين بغرناطة كان بسيط الحال، فبعد أن تنبه المعلمون لنباهته، وأخذ يتدرج في مناصب القصر، أخذ يمارس النفوذ، وذكرت كل الكتب المؤرخة عنه بأن فعاله تحولت إلى دسائس، ورغم أن قصته طويلة مع معلمه لسان الدين الخطيب صاحب قصيدة «جادك الغيث»، وأحاديث الدس لقتل معلمه، ليتحول بسبب جبروته وبطشه إلى أخذ مكانة معلمه.

ابن الجياب وبرج الأسيرة

من الشعراء الأندلسيين الذين خلدوا قصائدهم حفراً على جدران القصور الأندلسية، والحمراء تحديداً، وعلينا عدم إغفاله، وهو الشاعر الغرناطي أبو الحسن علي بن محمد الأنصاري، المشهور بابن الجياب الغرناطي، والذي كان شاعراً وسياسياً محنكاً، فبعد ثقة الملوك فيه لإخلاصه، اشتغل وزيراً، كما ترأس ديوان الكُتاب، لِما له من معرفة بلاغية وأدبية، وكتابته القصائد النثرية الجميلة جعلتهم يعتمدونها حفراً على الجدران، احتراماً وتقديراً له ولمكانته، لنراها في ممرات القصور حتى يومنا هذا، خاصة في قصر جنة العريف وقصر الحمراء، وفيها مثلاً تلك القصيدة التي تحمل وصفاً لبرج القصر الذي يسمى بالأسيرة:

برجٌ عظيم الشأن في الأبراجِ

                  قد باهت الحمراء منه بتاجِ

قلعة ظهرت لنا واستنبطت

                 قصراً يضيء بنوره الوهاجِ

من آل سعدٍ من بني نصرٍ ومَن

              نصروا وآووا صاحبَ المعراج

ومن الجدير بالذكر أن ابن الجياب له مؤلف بعنوان «الإحاطة في أخبار غرناطة» يعتبره الكثيرون أشبه بموسوعة تاريخية وأدبية. كما أن العالم اللغوي والكاتب والشاعر لسان الدين بن الخطيب، كان أحد تلامذته، ليأتي الشاعر ابن زمرك كتلميذٍ لتلميذه، ووَضع أو وُضع معمار القصر بشعره أكثر من أساتذته، ويبقى هؤلاء الثلاثة أهم شعراء الأندلس، خاصة في فترة ملوك الطوائف.

سمات أدب ابن زمْرك

شعر النقوش لابن زمرك في القصر يجعلنا نتمعن في وصفه وتعابيره، حيث إنها ارتبطت في أغلبها بشعر المدح والوصف، من خضرة وأزهار وقطرات الندى، لنجد أنها سمة واضحة في أدبه، ويبرز جمال القصر كأرض خصبة للتغني به ونعته بقصر السلام:

سلام الله يا قصر السلام

                    على أرجائك الغر الوسام

فكم من روضك للأماني

                        ينمُ بعرفهِ زهرة الكمام

أبيات على حافة حوض السباع

لابن زمرك قصيدة يصف فيها بهو السباع، حيث حفرت أبياته على حافة الحوض، يقول فيها:

ضراغم سكنت عرين رئاسة

                   تركت خرير الماء فيه زئيراً

فكأنما غش النضار جسومها

                      وأذاب في أفواهها البلورا

وتشير الأبحاث الإسبانية إلى أن الأسود التماثيل نحتت على شكل تمثال لأسد أتوا به من منزل أندلسي يهودي كان وزيراً، يدعى يوسف بت ناغريلا، ورغم أن النحت المجسد محرم في الفنون الإسلامية، لكنهم وضعوا الأسود الإثني عشر ليعبروا عن الزمن والساعة، بينما المصادر اليهودية تقول إنهم يمثلون القبائل الإسرائيلية الاثنتي عشرة.

قوافي الشاعر في قاعة «الأختين»

هذه القاعة المثالية التي تبدو كالحلم في قبتها النبيلة والفاخرة في نقشها، وكأنها مستمدة من نخالة العسل في خلاياها الصغيرة، إلى نوافذ مقوسة، وجدران تنساب شعراً ونقشاً، ويدخل أدب القصيد لابن زَمْرَك هناك، ويقبع في هذا المكان الذي يبدو كالأوبرا، والذي يكفي أن تسمع المسمى «الأختين» لتلعب المخيلة في تفاصيل تاريخه القصصي الذي مضى لتلك الأميرتين اللتين سكنتا هذا المكان.

وخلدت قصيدة قاعة الأختين لابن زمرك التي اخترنا منها ما يلي:

أنا الروض قد أصبحت بالحسن حاليا

                       تأمل جمالي تستفد شرح حاليا

ولم نرَ قصراً منه أعلى مظاهراً

                           وأوضح آفاقاً وأفسح ناديا

1333

ولد ابن زمرك في هذا العام من أبٍ حداد، في إمارة غرناطة التي تأسست على يد الغالب بالله ابن الأحمر، وهو من السلالة الأموية الحاكمة.

1371

في هذا العام أصبح ابن زمرك أميناً للسر بأمر من ملك غرناطة الغني بالله، بعد أن ترقى من منصب إلى منصب، وبانت موهبته الأدبية.

1372

تحولت العلاقة بين ابن زمرك وأستاذه الوزير لسان الدين الخطيب في عام 1372م، إلى عداوة، إذ أخذ مكانه في الوزارة بعد أن هرب معلمه خوفاً على حياته.

Email