بمناسبة إنشاء جمعية عالمية تـروّجها وتحتفي بمنجزاتها

الموشحات.. فاتنة نائمة يوقــــظـها جدل العاشقين

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لأننا في دبي، حيث خلايا النحل تبني صروح الحضارة، وحيث الدوائر الرسمية والمعرفية بصدد تبني مشروع «استئناف الحضارة» استشرافاً لمستقبل أجمل، وعودة بهذه الأمة إلى سابق ازدهارها، ولأن من بؤر ازدهارها تلك الحقبة الأندلسية العظيمة، التي قدمت للعالم أنموذجاً حضارياً فخماً في قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة وغيرها من فجاج شبه جزيرة أيبيريا «إسبانيا والبرتغال» بعد أن فتحها الأمويون عام 711م، بدخول القائد الشهير طارق بن زياد الذي ضمّها للخلافة الأموية واستمر وجود المسلمين فيها زهاء الثمانية قرون حتى سقوط مملكة غرناطة عام 1492م.

ولأننا من جانب آخر ننفعل بحدث تأسيس جمعية عالمية لفنون الموشحات التي كانت من أهم أيقونات الأندلس النادرة.. لذلك كله جاءت فكرة هذا الملف الخاص.

وسنبدأ فوراً بالقول إنه ورغم صراحة اللفظ الدال على المعنى«الموشحات الأندلسية» بما يفيد أنها أعمال فنية خضعت للتزيين والتزويق، ونسجت عليها الأوشحة الموشاة، الأمر الذي تجسده: صناعة النظم، من تقابل وتناظر واستعراض أوزان وقوافٍ جديدة استحدثها الموشح، إلا أن هذا الفن، رغم ذلك، لاقى كثيراً من التأويلات واللغط حول أصله وفصله، كالعادة في حال الظواهر العاصفة والمبهرة،إذ يعتقد كثيرون أن كلمة «موشحة» تعود إلى اللفظة السريانية «موشحتا» بمعنى «إيقاع» أو «ترتيلة من المزامير»، والبعض الآخر يزعم أن الموشحات إنما ظهرت في المشرق العربي في الأصل متأثرة بالموسيقى الكنسية السريانية.

واليوم فإن ثمة توجهاً قوياً نحو تبني قناعة مشتركة، سيجري تعميمها من خلال الجمعية الوليدة، مفادها أن الموشح ليس فناً خاصاً بحقبة الأندلس العربية، وإنما ثمة موشحات في كل مكان من العالم، يمكن ان تكون سابقة أو تالية لتجربة الأندلس ويمكن ألا تكون على تماس معها.

ومهما يكن فإننا في هذا الملف سنركز على فن الموشح بالصيغة الأندلسية وكمنجز عربي أندلسي، حيث يرتكز المفهوم على شعبتين أساسيتين هما: الفن الشعري ذو الخصوصية البنيوية، والشكل الموسيقي الذي له فرادته، وارتباط هاتين الشعبتين بفن الاستعراض والأداء الجماعي بما ينتج منجزاً إبداعياً متكاملاً لا يقل شأناً عن الأوبرا.

يقول ابن خلدون «أول من اخترع الموشحات في الأندلس» مقدم بن معافى القبّري، من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ عنه أبو عمر أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد. ثم برع في الموشحات عبادة بن ماء السماء المتوفى في عام 522هـ، وهو إمام الوشاحين الذي استطاع أن ينشر الموشحات في الأندلس، ثم تلاه مجموعة من الوشاحين الأندلسيين، من أشهرهم: يحيى بن بقي، والأعمى التطيلي، وأبو بكر بن زهر، وأبو بكر بن باجة، وابن سهل، ولسان الدين بن الخطيب.

ولعل من أشهر الموشحات الأندلسية التي انتهت إلينا تحفة لسان الدين بن الخطيب:

جادك الغيث إذا الغيث همى

يازمان الوصل في الأندلسِ

لم يكن وصلك إلا حُلما

في الكرى أو خُلسة المختلسِ

غير أن الأشهر منها موشحة الحصري القيرواني:

ياليلُ الصبُّ متى غده

أقيام الساعة موعدهُ؟

رقد السُّمَّارُ وأرّقهُ

أسفٌ للبين يردِّدُّهُ

نصبت عيناي له شركاً

في النوم فعزّ تصيدهُ

هذا مرتع خصب للأنس والجمال لا ينقضي، ولا تمله النفس، ولأنه فن أصيل، وله فلسفة ومنهاج وتاريخ عميق، فإننا نحتفي به هنا، في مناسبة تأسيس الجمعية العالمية للموشحات، أملاً في مزيد عناية ودراسة تجعل الموشحات جزءاً من ذوقنا ومزاجنا الفني، ولكن كيف يمكننا إحياء هذا الفن وعلى أية صورة تستوعب معطيات الراهن، شعراً وموسيقى، وأنى لنا الترويج له عربياً وعالمياً؟..

استنطقنا بعض المعنيين محلياً وعربياً فكان حصادنا التالي:

ميل النفوس

رئيس جمعية الفجيرة الاجتماعية الثقافية الشاعر والإعلامي الإماراتي خالد الظنحاني يقول: إن الموشحات فن شعري مستحدث، يختلف عن ضروب الشعر الغنائي العربي المعروف، إذ يلتزم قواعد تقنية تبتعد في الغالب عن بحور الشعر الخليلية، وتمتزج فيه المفردات الفصيحة بالعامية، وتعود نشأته إلى القرن الثالث للهجرة وكان مقدم بن معافى أول ناظم للموشحات، حسب الروايات، في حين أن أول من صنع قواعده في الأندلس هو محمد بن محمود القبّري، ويأتي ظهور الموشحات لعوامل عديدة، منها، تأثر الشعراء العرب بالأغاني الإسبانية الشعبية المتحررة من الأوزان والقوافي، إضافة إلى ميل النفوس للرقة والدعابة في الكلام والسهولة التي تكتنف الموشحات في الغناء والتلحين، فضلاً عن ذلك، فإن الأنماط التقليدية للقصيدة جعلت الأندلسيين يشعرون بالملل وهو ما أحدث خروجاً على التقليد من حيث الشكل والمضمون أيضاً، فقد استخدموا الألفاظ العامية في القصيدة.

ويرى الظنحاني أن أهمية فن الموشحات تأتي من كونه فناً أندلسياً عربياً خالصاً، وهو من أروع الفنون التي خلفها الأندلسيون كتراث أدبي عريق يفخر به العرب والمسلمون. الأمر الذي جعله يزداد تألقاً مع الأيام، حيث تأثر به العالم العربي وغير العربي أيضاً، إذ ظهرت على غرارها موشحات بلغات أخرى، لكنه في هذا الزمان قل وهجه وخفت صيته، لأسباب معلومة وأخرى مجهولة، وهو أمر لا يسر بطبيعة الحال، فنحن أهل ثقافة وأدب ويعز علينا أن يؤول حال هذا الفن الجميل إلى هذا المآل، وبالتالي ندعو المؤسسات الثقافية إلى إعادة الوهج له، من خلال إقامة الملتقيات والمهرجانات التي تحتفي به، فضلاً عن تنظيم ورش عمل ودورات تعليمية تعرّف به وتكرس وجوده في المشهد الثقافي العربي وفي وجدان الناس، وأنا بدوري سأعمل على ذلك من خلال جمعية الفجيرة الاجتماعية الثقافية، وغيرها من المؤسسات التي أشرف عليها.

الفن الأصيل

وعن تأسيس الجمعية العالمية للموشحات في المملكة المغربية قال الظنحاني: إن ذلك مدعاة للفخر، فهو يعكس حصر القائمين عليها في الحفاظ على هذا الكنز التراثي العربي الإسلامي، وهي كما تبين لي أنها الأولى من نوعها على مستوى العالم التي تتخصص في فن الموشحات بأنواعها كافة، وبالطبع فهي تهدف إلى الاحتفاء بقيم التسامح والمحبة والاعتدال والأفكار الإيجابية، كما تسعى بالتأكيد للحفاظ على الذاكرة التاريخية والحضارية لهذا الفن وصيانتها واستثمارها ، وأظن أنه لو وضعت دولة الإمارات ثقلها الثقافي في هذه الجمعية لسوف تحدث فرقاً ثقافياً وفنياً في أنشطتها لتصل دول العالم كافة، وبالتالي ينتشر هذا الفن الأصيل.

معمارها جديد

يرى الشاعر والباحث د. نزار أبو ناصر أن الموشحات الأندلسية هي إحدى ظواهر التجديد الفني الأصيل في الشعر العربي ولا سيما في شكلانية القصيدة العربية، فقد نبعت تلقائيا من التقدم الحضاري الشامل الذي تحقق في الحقب الأندلسية المتعاقبة، ولعل اهم مظهر فني حداثي في شكل القصيدة العربية هو معمارها الجديد الذي تخلى عن القافية الواحدة ليستخدم تعدد القوافي في عدد معين من الأسطر يلتزم فيها الشاعر، وقد اطلقوا على ملامح بنية القصيدة مجموعة من المفاهيم الهندسية المتعلقة بالايقاع مثل الخرجة والقفل والغصن، والجميل ان الموسيقيين استثمروا ذلك في قضية الألحان وتنوعها فظهرت اشكال متعددة مثل المواليا والكان كان وازدهار الدوبيت، وانتشر ذلك في الأقطار العربية حتى سمي في العراق مثلا الابوذية وفي الشام العتابا والميجنا، فهو تطور شكلي في البنية متبوع بتطور موسيقي، وتمتاز الموشحات بروحها العربية الطربية الشجية التي يتمايل على انغامها المستمعون، وكانت القفزة النوعية التي حدثت بوصول الموسيقي المتفرد «زرياب» إلى الأندلس وإحداثه لهذه الثورة في الأداة الموسيقية الرئيسية «العود» بإضافة الريشة «المضراب» والوتر الخامس والروح الشرقية الإيقاعية الشجنية الغنائية على الموسيقى الإنشادية التي كانت مزدهرة في الأندلس، أحدث في الموسيقى هذا الشكل الطربي المحبب المرغوب والذي تتلهف الأذن على سماعه، ولا ننسى فضل ابن باجه في تقنين الأشكال الموسيقية وسكبها في قوالبها المنظمة لتفرعاتها وتجلياتها، وكان بالأساس اعتماد الموشح الفصيح على الغناء القشتالي أو الرومي والاستعانة به بالقفلات.

صوت الحكمة

وأكد أبو ناصر أن على الموسيقيين والشعراء العرب إحياءها بصورة ما، على نحو تأسيس هذه الجمعية العالمية في المغرب.. فالموشحات لم تعد تراثاً اندلسياً عربياً محصوراً، بل هي في متناول الذائقة الغربية وخصوصاً في اسبانيا والبرتغال حيث الأجداد المؤسسون ورائحة الطبيعة الملهمة، فالموشحات لها تأثير كبير في شعراء التروبادور في اسبانيا وجاراتها، فمن الأجدر تأسيس برنامج عربي كبير لنشر ثقافة الموشحات في دول الخليج العربي ولا سيما دولة الإمارات، حيث تتوهج ملامح الثقافة العربية بصورة ساطعة، واختتم أبو ناصر مشاركته قائلاً: لا أجمل من صوت الحكمة الرقيق الذي ينفث في الروح من زوايا الكلمة العابقة واللحن الشجي، يقول الأندلسي ابن زمرك:

لو ترجع الأيام بعد الذهاب

لم تقدح الأيام ذكرى حبيبْ

وكل من نام بليل الشباب

يوقظه الدهـر بصبـح المشيب

جذور ضاربة

ومن مصر د. عبد الرحيم الجمل، أستاذ الأدب الأندلسي بكلية دار العلوم جامعة الفيوم بمصر، وصاحب المؤلفات العديدة التي تناولت فن الموشحات الأندلسية، يؤكد في البداية أن فن الموشح الأندلسي من أهم الألوان الفنية الأصيلة الضاربة الجذور في ذاكرتنا الفنية، لذلك فيجب إعادة الاهتمام والروح له، والبحث عن الوسائل التي ترسخه لتعريف الأجيال الجديدة به، خصوصاً أنه من الألوان الفنية شديدة الخصوصية.

ويرى الجمل أن الموشحات مازالت موجودة ولها ازدهار في بعض الدول العربية إلى اليوم.

ويرجع أستاذ الأدب الأندلسي ذلك الحضور للموشح حتى وقتنا الراهن، إلى ما يملكه هذا الفن من خصوصية ومميزات، ومنها نصوصه السهلة الميسرة التي مازال يفهمها المتلقي العربي اليوم بسهولة كما فهمها المتلقي العربي بالأمس، رغم أن الموشح فيه ألفاظ أعجمية وغيرها، ولكنها في النهاية ألفاظ عربية، هذا بالإضافة إلى أن الموشح يمنح الموسيقيين نغماً وموسيقى في غاية الروعة، باعتبار أن لغة الموشح في حد ذاتها بمثابة نغمة موسيقية.

ولفت الجمل أنه يكفي للاهتمام مجدداً بالموشحات والعودة إليها، شعراً وغناءً، هو ما تشيعه في النفس من الطرب الأصيل المتجدد والراقي ومن الاعتزاز بصفحة مجيدة من التراث.. فضلا عن أنه من شأن الاهتمام بالموشحات التغلب على مشكلة نصوص الأغاني، بعد أن أضرت النصوص الهابطة إضراراً شديداً بالأغنية العربية.

ويطالب أستاذ الأدب الأندلسي القائمين على الفضائيات والإذاعات العربية بالتوسع في بث الموشح، وتحديد مساحة زمنية أفضل للموشحات، كون ذلك سيؤدي إلى طرد النغمة الرديئة أو اللغة الرديئة التي باتت مسيطرة على الساحة الثقافية والغنائية حالياً.

النفخ في الماضي

ومن وجهة نظر أخرى، يرى الناقد د. صلاح فضل أستاذ النقد الأدبي والأدب المقارن، وصاحب العلاقة الوثيقة بالثقافة الإسبانية التي تشكلت عبر فترة البعثة التي قضاها في بلاد الأندلس، أن كلمة الموشحات تطلق على منظومات يتم غناؤها وإنشادها في قوالب موسيقية معينة، وهذه القوالب مازال الموسيقيون العرب يجيدون استخدامها بشكل كبير.

أما الموشحات كجنس أدبي - والكلام لفضل صاحب كتاب طراز التوشيح الذي يبحر في إبداعات الموشحات الأندلسية - فكانت مرحلة من مراحل تطوير القصيدة العربية، تم فيها الاعتماد على قالب معين لا يلتزم بالقافية، أو أنه يتم إرجاعها إلى نظام خاص تتعدد فيه القوافي وتتنوع الأوزان، وله نفس تقاليد الموشحات.

ويختلف د. صلاح فضل مع رأي د. عبدالرحيم الجمل في شأن أهمية إحياء فن الموشحات، موضحاً أنه لا جدوى من النفخ في الماضي، حيث يرى أن فن الموشحات الأندلسية لا يمكن بعثه حرفياً مرة أخرى، لأنه أدى دوره التاريخي وكان مرتبطاً بمرحلة معينة وانتهت.

وبالرغم من ذلك، يرى فضل أنه يمكن الحديث عن الإفادة من فن الموشحات الأندلسية في إنشاء الرباعيات وتلوين الأوزان وتنوعها وابتكار نظم كثيرة،ة. ذلك لأن المرونة في بنية الموشحة باتت هي الميراث الذي ورثته القصيدة من عصر الموشحات وإن كانت قصيدة النشر في الوقت الراهن قد نسفت كل هذا الموروث.

الشعر تجاوز الموشحات

وفي رأي الناقد والمترجم والشاعر رفعت سلام فإن فن الموشحات، مر عليه الزمان، وقد تجاوزه المشهد الابداعي العربي بمراحل، وبشكل خاص على مستوى الشعر، وبالتالي لا جدوى لإحيائه من جديد. وأوضح أن الشعر العربي ابتداءً من الخمسينيات تجاوز القصيدة التقليدية بكل تنويعاتها بما فيها الموشح الأندلسي... تجاوزها إلى قصيدة التفعيلة التي تعتمد وحدة للوزن الموسيقى، مع عدم الالتزام بعدد ثابت للتفعيلات ولا الالتزام بقافية موحدة، وبالتالي خرج الشعر العربي من بؤرة التقليد متجاوزاً كل هذه الأشكال القديمة.

6

يشير الشاعر خالد الظنحاني إلى أن الموشح يتكون من ستة أجزاء، الأول، المطلع والمذهب واللازمة وهو القفل الأول من الموشحات، وقد يحذف من الموشح ويسمى عند ذلك بالأقرع، ثانيها، القفل وهو الجزء المؤلف الذي يجب أن يكون متفقاً مع بقية الأقفال في الأوزان والقوافي، وثالثها، الدور ويتكون من البيت والقفل الذي يليه، ورابعها، السمط وهو كل جزء أو شطر من أشطر البيت، خامس هذه الأجزاء، الغصن وهو كل جزء أو شطر من أشطر القفل، وسادسها، الخرجة أي القفل الأخير من الموشح.

الجمعية العالمية للموشحات.. فكـرة وأهـــداف

في مبادرة تعد الأولى من نوعها لحماية تراث الموشحات، أسس إعلاميون وفنانون وباحثون مغاربة منتصف شهر أبريل الماضي أول جمعية في العالم مختصة في فن الموشح، وذلك حفظاً لذاكرة هذا الموروث العالمي المهم.

وقد جرى انتخاب الأستاذة الجامعية هاجر الجندي، رئيسة للجمعية العالمية للموشحات، وهاجر مخرجة ومؤلفة وشاعرة مغربية، حاصلة على شهادة الإخراج من معهد سينكور بكندا وهي مختصة في مجال قد يبدو غريباً في الوسط الأكاديمي العربي، حيث حصلت على درجة الماجستير ثم الدكتوراه في علم «الهندسة الثقافية» على مستوى العالم العربي والشرق الأوسط.

وفي تصريحات بهذه المناسبة اعتبرت هاجر الجندي أن الإعلان عن ميلاد هذه الجمعية هو بمثابة احتفاء بقيم الحب لما يحمله من قيم التسامح والعيش المشترك، موضحة أن «هذه المبادرة تعد الأولى من نوعها في العالم مختصة في فن الموشح؛ وذلك من أجل الارتقاء بهذا النمط الإبداعي».

وأضافت الجندي أن «الموشحات نمط فني له من جاذبية والعمق في تاريخ الفنون في العالم ما يجعله مكتملاً يهذب الأذن الموسيقية ويمتع عشاقه بروائعه الغنائية والموسيقية الأصيلة، لذلك فإن له أحقية الوجود»، واستطردت قائلة «هذا الفن الراقي راكم مدارس في جميع أنحاء العالم، بدءا بالمدرسة السورية والمصرية والمغربية، فما بالك على المستوى العالمي».

أكاديمية علمية

وعلى الرغم من اتخاذ الجمعية العالمية للموشحات صبغة فنية محضة، فإنها تعد أكاديمية علمية «ستعمل على مجال البحث والتوثيق لحفظ الذاكرة التاريخية والحضارية لهذا الفن كلمة ولحناً ومخطوطا واستثمارها عبر خطط ثقافية، إلى جانب مساهمتها في تنشيط المجال الثقافي، وإحياء فعاليات فنية مختصة في مجال الموشح»، تقول الجندي. من جهة ثانية، أبانت رئيسة الجمعية أن تعدد تيمات الموشح بين الغدر والحب والوفاء عبر العصور تجعل منه مادة خصبة وغير مستهلكة، وزادت «هذا المعطى لا يمكن أن يمر إلا عبر تكريم قامات فنية اشتغلت على هذا المجال كالسيدة فيروز، والمؤلف والموسيقار زياد الرحباني».

وعن حال فن الموحشات في زمن الأغنية الشبابية التي اكتسحت المغرب والعالم العربي، تقول المتحدثة: «فن الموشحات يملك خصوصياته وله الأحقية بأن يجد مكانه في السوق، التحدي هو إيجاد الصيغ الإبداعية والفنية لوصوله إلى أهل الذوق الفني، لأنه فن قادر على خلق المتعة والفرجة معا».

أهداف الجمعية

تهدف هذه الجمعية لإحياء تراث الموشحات وإقامة تظاهرات فنية لحفظ الذاكرة وإغناء الذوق الفني وتهذيب الأذن الموسيقية وإتاحة الروائع الغنائية والموسيقية الأصيلة.

ومن بين الأهداف الأخرى للجمعية العالمية للموشحات:

التنمية الفنية والثقافية عموماً وفنون الموشحات خصوصاً، والمساهمة في تنشيط المجال الفني العالمي من خلال فنون الموشحات، والحفاظ على الذاكرة التاريخية والحضارية لهذا الفن والمساهمة في صيانتها واستثمارها عبر خطط تنموية مستدامة، وتشجيع المبادرات الهادفة إلى التعاون وتكوين شبكات اتحادية مختصة في فنون الموشحات، وكذلك العمل على أرشفة وتوثيق فن الموشحات على مستوى اللحن والكلمة والمخطوط والآلات والصور واللوحات وكافة تطبيقات وأشكال التعبير في هذا الفن.

والعمل على إبراز ضرورة النهوض بهذا الفن من خلال إنتاج وإنجاز وتسويق أعمال فنية مسرحية وموسيقية واستعراضية وسينمائية وكذا مهرجانات عالمية للموشحات، فضلا عن إصدار كتب ودراسات حول فنون الموشحات، وأيضا تأسيس أول مركز عالمي للموشحات يتضمن متاحف قارة ومتنقلة ويحتضن ندوات وفعاليات ثقافية وفنية وعلمية متعلقة بفنون الموشحات، وتنظيم مهرجانات محلية وجهوية ودولية لفنون الموشحات، وإنشاء قنوات إعلام وتواصل مختصة في فنون الموشحات وتنظيم مسابقات محلية ودولية في فنون الموشحات، مع تشجيع المواهب والفرق العاملة في مجال فنون الموشحات في العالم.

علي عبيد : قصائد مكيّفة الهواء

يقول علي عبيد الهاملي، مدير مركز الأخبار في مؤسسة دبي للإعلام: أستعير رأياً لنزار قباني مفاده أن «القصيدة العربية عندما وصلت إلى إسبانيا كانت مغطاةً بقشرة كثيفة من الغبار الصحراوي، وحين دخلت منطقة الماء والبرودة وتغلغلت في بساتين الزيتون وكروم العنب في سهول قرطبة، خلعت ملابسها وألقت نفسها في الماء.

هذا هو تفسيري الوحيد لهذا الانقلاب الجذري في القصيدة العربية حين سافرت إلى إسبانيا في القرن السابع، إنها بكل بساطة دخلت إلى قاعة مكيفة الهواء، والموشحات الأندلسية ليست سوى قصائد مكيفة الهواء. وحين يمتزج الشعر بالغناء، يتحول الماء الذي ألقت القصيدة العربية نفسها فيه، إلى شلال هادر تغمر برودته المكان كله، وتصبح الموشحات قصائد مكيفة الهواء. وعلينا أن نعيد لهذا الفن وهجه كي ننعم بمزاياه.

وعن تأسيس جمعية عالمية للموشحات يقول الهاملي: إنها خطوة رائعة في طريق إحياء هذا الفن الأندلسي الجميل، والحفاظ على الذاكرة التاريخية والحضارية له، وإعادة الاعتبار له وسط طغيان بعض أنواع الفن والموسيقى التي تفسد الذائقة لدى محبي الغناء والموسيقى، وحبذا لو نحت دول عربية أخرى هذا المنحى، ليتشكل من هذه الجمعيات تيار قوي يصد تيار إفساد الذائقة العربية. وإن الإمارات مهيأة لإنشاء مثل هذه الجمعيات، فضلاً عن دور المعاهد والاعلام .

شريف الجيار: عمق حضاري وإنساني

يرى الدكتور شريف الجيار أستاذ النقد والأدب المقارن في جامعة بني سويف المصرية أن «الموشح» يعد واحداً من أشهر الصيغ الإبداعية الغنائية، الأصيلة، في تراث الموسيقى العربية، فهو شكل غنائي ساهم في تشكيل الذائقة الفنية العربية، فجاور فنوناً أخرى؛ مثل «القصيدة، والدور، والطقطوقة، والموال، والمونولوج، والثنائي "الديالوج"، والثلاثي "التريالوج"، وكلها بنى موسيقية أصيلة، حفرت وجودها في ذائقة المتلقي العربي، وشكلت وجدانه لعقود طويلة، فالموشح؛ يمتلك العمق الحضاري والإنساني، الذي يؤهله لحتمية الوجود، والانتشار، في دول العالم، رغم ما تعرض له من تيارات تغريب وتجريب وطغيان للموسيقى الزاعقة، التي تهيمن على المشهد الفني، عالمياً، وعربياً.

ويؤكد الجيار أنه حينما وصل الموشح، إلى نهاية القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، نراه يحافظ على صيغته القديمة، التي أخذت في التطوير، وفق مقتضيات الحاضر التاريخي، فأصبح الموشح جزءاً أصيلاً، من الوصلات الغنائية، التي انتقلت من الأوساط الشعبية، إلى القصور، مثلما نجد في ألحان محمد عثمان صاحب: اسقني الراح، وملا الكاسات وسقاني، ويا غزالاً زان عينيه الكحل،..وغيرها، إلى جانب ألحان كامل الخلعي "زارني المحبوب، ودع عنك هجري.. وغيرها"، فضلاً عن ألحان سلامة حجازي، وداوود حسني، وأحمد عبد الوهاب، حتى نصل إلى سيد درويش؛ الذي تطور بهذا الفن، بداية القرن العشرين، كما في ألحانه؛"يا صاحب السحر الحلال، وصحت وجداً، ويا غصين البان.. وغيرها"، لم يتطور فن الموشح، بعد سيد درويش، وأصبح فناً تراثياً، لا يسمعه أحد، حتى عاد مرة أخرى، إلى الحضور، في فترة الستينيات، من القرن العشرين.

إزاء تأسيس جمعية عالمية للموشحات، في المملكة المغربية أخيراً، يقول الدكتور الجيار: هي مبادرة جيدة، وطموحة، على الصعيدين العربي والعالمي؛ لأنها ستحفظ تراث الموشحات، الذي هو جزء أصيل، من الميراث العالمي، وهذه الجمعية برئاسة هاجر الجندي، ابنة الممثل المغربي الكبير حسن الجندي، تهدف إلى الارتقاء بفن الموشح.

برقيات

ثورة شعرية غنائية

غاني الموشّحات في الأندلس تأثرت بامتزاج الموسيقى الوافدة والمحلية، منتجة حالة إبداعية جديدة ذات قيمة فنية عالية الصياغة والتذوّق، حيث يكون اللحن متعدد المقامات والأوزان الإيقاعية.

الذوق العام استساغ تلك الثورة الشعرية الغنائية التي صمدت في الأندلس لأكثر من خمسة قرون إلى حين سقوط غرناطة عام 1492م، لكنها قبل سقوط غرناطة انتقلت إلى البلاد العربية في المغرب العربي ومصر والشام ووصلت إلى عدد من البلدان الأوروبية، وتركت أثراً على مؤلفات كلاسيكية لباخ وهايدن وموزارت، لكن هؤلاء وظّفوها في قوالب متميزة من خلال أسلوب الهارموني القائم على التوزيع الموسيقي الأكثر تنوّعاً وتعقيداً، وفق أصول المواءمة بين المقامات الموسيقية لتخرج في النهاية مقطوعة متناغمة.

الموشحات بهذا المعنى، وحيثما حلّت، تبقى فناً عربياً أصيلاً، ليست فيه عناصر دخيلة من الشرق أو الغرب، وهي تحتوي على كنوز من المقامات والأوزان والجماليات الموسيقية، ما يجعل أداءها حكراً على الفنانين المقتدرين غناء وعزفاً. وحتى زماننا الحالي، ورغم التطوير الذي أدخله بعض الموسيقيين على الموشّحات، إلا أنها حافظت على روحها الخاصة ونكهتها المميزّة، حيث إن المستمع العادي يميّزها فوراً حال سماعها.

وبما يشبه السهل الممتنع يبدو الموشح، في الأغلب، قصير المقاطع وسهل اللفظ، إلا أنه أكثر تعقيداً من القصيدة والدور وكل أشكال الغناء الأخرى، ولذلك فإنه يشكّل اختباراً حقيقياً لقدرات الملحنين، وهم قليلون في هذه الأيام، على أية حال.

ومما يميز الموشّحات أنها من القوالب الغنائية القابلة للغناء الجماعي، بل إن غناءها جماعياً يظهرها بصورة أبهى وأكثر جمالية وقبولاً وبعثاً على الطرب، وأكثر قابلية للتداول والتوارث والتحوّل إلى تراث متراكم للشعوب، لذلك فإن كماً هائلاً من الموشّحات لا يعرف أحد من هم ملحّنوه الأصليون.

فى أواسط القرن التاسع عشر وصلت الموشحات إلى بعض الموسيقيين العرب فتشرّبوا قيمتها الفنية ثم طوّروها وأنتجوا موشّحات جديدة ومن هؤلاء الموسيقار المصري محمد عثمان صاحب لحن موشّح «ملا الكاسات» المعروف بإيقاعه الرخيم الرزين والذي عادة ما يستخدم لاختبار الموسيقيين الجدد. وساهمت ألحان محمد عثمان وأداء المطرب عبده الحامولي في انتقال الموشّحات من الأوساط الشعبية إلى القصور.

وفي أوائل القرن العشرين ظهر على هذا الطريق فنانون مثل سلامة حجازي وداود حسني وكامل الخلعي، وصولاً إلى سيد درويش الذي أبدع في هذا المجال وترك إرثاً يعتد به في هذا الشأن، ثم سار على خطاه الفنان الراحل الشيخ إمام عيسى.

وقدّمت الفنانة فيروز للمستمع العربي العديد من الأغاني على قالب الموشّحات التي انتجها الرحابنة، وكذلك فعل الفنان اللبناني مارسيل خليفة الذي ألّف العديد من المقطوعات في هذا المجال، بل إنه أعد عملاً كاملاً بعنوان «كونشيرتو الأندلس»، وهو متنوّع بين الغناء والموسيقى في عمل واحد متناغم. ولا ننسى كذلك الفنان التونسي لطفي بشناق، أحد الفنانين القلائل الذين أبقوا على هذا الفن حيث يحمله معه في حفلاته.

أمجد عرار

مدرسة إيقاعية

تعد الموشحاتُ من القوالب الغنائية العربية الأصيلة، لارتباطها بأحد فنون الشعر وهو الموشح، وإذا كنا لا نعرف الكثير عن ألحان الموشحات القديمة جداً فإننا نملك ثروةً ضخمة من ألحان موشحات القرنين الماضيين ؛ حيث اجتهد الكثير من الموسيقيين العرب في وضع ألحان مختلفة ومتنوّعة للموشحات ؛ على مختلف ضروب الأوزان والإيقاعات وعلى مختلف المقامات الموسيقية المشهورة، من هنا يمكننا أن نتعرف بوضوح إلى القيمة الفنية والأدبية للموشح ؛ فهو يحفظ ويُفعّل جملةً كبيرةً من الأوزان الإيقاعية الشرقية الموروثة التي تشبه «مدرسة إيقاعية متكاملة»، ثم إنه قد حفظ لنا مسالك عدة في التلحين على المقامات الشرقية المتنوعة من مختلف فصائل المقامات.

فعلى سبيل المثال نجد موشحاتٍ من مقام الراست الأساسي وبتنويع من فصيلته أيضاً، فمن مقام الراست الأساسي هناك الموشح المشهور «يا من لعبت به شمول»، ومن فصيلته مقام سوزنَك وعليه موشح «العذارى المائسات» من ألحان الشيخ سيد درويش، ومن فصيلته أيضاً مقام يكّاه وعليه موشح «مبرقع الجَمال» من ألحان عمر البطش، وهكذا في بقية المقامات وفصائلها نجد أن التنويع في اختيار طبقة النغم في كل مقام أساسي يعطينا ثراءً كبيراً يحفظ لنا تراثاً سماعياً ضخماً، ويحفظ لنا تصرفات الموسيقيين في التلحين على مختلف طبقات الأنغام والتعبير بمختلف الأجناس الموسيقية.

وعلى سبيل تقريب صورة التعبير بتنويع الأجناس الموسيقية في الموشح أضرب مثلاً بموشح «يا بهجة الروح» للشيخ سيد درويش حيث لحّن الدور الأول والدور الثاني من هذا الموشح من مقام حجازكار كُردي، وحين أتت الخانة ببيتٍ فيه طربٌ ونشوة لحّنها بجنس راست على نغمة صول، ثم حين جاءت القفلة ببيتٍ فيه تعبيرٌ تأمُّلي لحّنها بجنس حجاز على الصول، وهكذا نلاحظ كيف تعامل الشيخ سيد درويش مع كل بيت من هذا الموشح بما يناسب معناه من المقامات والأجناس الموسيقية، وفي هذا فوائد تعليمية عظيمة لطلاب الموسيقى وكذلك لمؤلفي الموسيقى التصويرية.

من جانبٍ آخر نجد أن قالب الموشح قصيرٌ بالنسبة إلى الدور أو القصيدة أو المونولوج، وفي إيقاعه حيوية ؛ لهذا فإن الموشحات تُعد من أجمل القطع الموسيقية والغنائية المناسبة لكل الأوقات، ولكن مع الأسف أدت عوامل عدة إلى تراجع هذا الفن بمعنى عدم تطوره إلى مرحلةٍ جديدة، وهو على طرفي نقيض ؛ فإما هو مهجور من قبل الجيل الجديد الذي ضعفت لديه العربية الفصحى فلم يعد يهتم بما يُغنى بها كالموشحات والقصائد، وإما أنه يُعادُ ويُعادُ في صوره القديمة بألحانها القديمة التي تجمدت مع الزمن ولا يحصل أي تطور فيها، بل المطلوب حقاً أن تنشط حركة تأليف الموشح الأدبي بصفته فناً شعرياً رفيعاً ورائقاً، وأن ينشط أيضاً تلحين الموشح الغنائي بصفته الموسيقية وبمقامات متنوعة تلبّي مختلف مَناحي التعبير، ولعل الجمعية العالمية لفن الموشحات التي أسست أخيراً في المملكة المغربية تقوم بالعمل على تحقيق هذا الأمل العربي.

علي العبدان

Email