تاريخ السينما العالمية: مفهوم التكوين وحب جريفيث للتصوير الزيتي

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 28 ذوالحجة 1423 هـ الموافق 1 مارس 2003 نتابع في هذه الحلقة من تاريخ السينما العالمية للكاتب ديفيد روبنسون كيف ان جريفيث اصبح سيد المهنة وهو لم يقدم اعماله الكبرى بعد. انكب ديفيد على العمل وكأنه لاعب رياضي حقيقي: كانت السينما مهنته وكان يقدسها»، كما تقول جريفيث في كتابها. خلال هذه السنوات لم يكن جريفيث، على ما يبدو، مدركا بشكل واع تماماً للثورة التي يصنعها في التعبير الفيلمي. والارجح انه كان يعتبر نفسه راوياً محترفاً يستخدم وسيطا فنيا جديدا وغريبا، بل ومتدنيا (من وجهة نظر رجل الادب او المسرح)، راوياً يكافح كي يحكي قصصه باكثر الطرق الممكنة تأثيراً، على ضوء ذائقته الخاصة وخبراته السابقة، وكانت تلك هي القاعدة التي تضبط افلامه. كانت ذائقة جريفيث تكمن في حبه الشديد لكتاب العصر الفيكتوري الكبار، وهي لم تمل عليه فقط موضوعات افلامه، التي حافظت على نغمة اخلاقية رفيعة وحس بالنظام الاجتماعي والكوني كما في الرواية الفيكتورية، بل املت عليه وايضا، اختياره للممثلين. ان ممثلات جريفيث ـ الاخوات جيش، ماي مارش، بلانش سويت، بيسي لف، ماري بيكفورد ـ البطلات النموذجيات لاشعار العصر الفيكتوري. لقد قالت جريفيث ان ممثلات الادوار البريئة او الساذجة ممن اردن ارضاء زوجها لم يكن عليهن سوى ان يخطرن ساهمات حالمات وبيد الواحدة منهن ديوان لتينيسون.لقد تطور تمكن جريفيث الفطري من تقنية السرد والاخراج بمعناه المسرحي من خلال اتصاله برواية القرن التاسع عشر ومسرح القرن التاسع عشر. وعبر اخراجه لمئات الافلام الصغيرة لشركة بايوجراف راح يكتشف تدريجيا، وبثبات، نطاق التعبير السينمائي كاملا وما يلزمه من وسائل بعينها لتطويره. وكان اكتشافه الاساسي هو تقسيم المشهد إلى اجزاء صغيرة، عناصر معزولة غير كاملة بذاتها، منها يعاد تركيب الكل: بينما كانت كامبرا بورتر تسجل الحدث بتجرد عن بعد (اي بلقطة عامة)، اوضح جريفيث ان الكاميرا يمكنها ان تلعب دورا ايجابيا في حكى القصة. وعن طريق تفتيت الحدث إلى اجزاء قصيرة وتسجيل كل منها بانسب وضع للكاميرا استطاع ان ينوع درجات التأكيد من لقطة إلى اخرى، متحكما بذلك في التركيز الدرامي للاحداث مع تطور القصة. من خلال العمل بهذه الطريقة وجد جريفيث نفسه مفتونا بما لديه من ذخيرة معقدة من التقنيات التي يمكنه بها تنفيذ قصته والسيطرة على تأثيرها الدرامي والانفعالي. كان يستطيع ان يؤكد ما يريد من خلال تكوين الصور واطارها، عن طريق مكان الكاميرا وحركتها، والاهم من خلال كيفية تجاور الصور وبسرعة وايقاع تقطيعها. قبل جريفيث لم يتجاوز تصوير الافلام الدرامية في اغلب الاحوال فكرة وضع الممثلين امام الكاميرا واستخدام مجال رؤية الكاميرا وكأنه مقدمة خشبة مسرح، وكان التقليد المقبول هو اظهار الممثلين بقاماتهم كاملة من الرأس إلى القدم. اما جريفيث. بعشقه للتصوير الزيتي الفيكتوري، فقد استخدم مفهوم التكوين، حيث رأى ان للصورة السينمائية مقدمة وخلفية ووسطا، ومنظوراً وحركة ثنائية الابعاد كذلك. كانت اللقطات القريبة معروفة وتستخدم منذ 1910، للكشف عن تفصيلات مهمة في المشهد أو في اداء الممثل، وكذلك اللقطات العامة شديدة البعد لاضفاء احساس بالمنظر العام وبالمسافة. بمعاونة بيتسر المصور الواسع الحيلة ابتكر جريفيث مؤثرات لحجب اجزاء من الشاشة لزيادة التأكيد البصري (اشهر امثلة هذه التقنية البصرية يوجد في «مولد امة» في واحدة من اللقطات الحميمة، حيث نرى منظرا لافراد اسرة صغيرة مجتمعين على جانب احد التلال، المنظر مؤطر بحجاب مقوس ينفتح بعد ذلك ليكشف عن منظر واسع لمعركة في الخلفية البعيدة). قبل جريفيث، كان من النادر ان يتطلب عمل المصور اي حذق في طريقة اضاءة المشهد، للاشارة إلى الليل او النهار كان يكفي على وجه العموم تظليل الفيلم بالازرق او الذهبي (وهو اجراء ظل متبعا لفترة طويلة بعد جريفيث). اما جريفيث، فقد توصل ومنذ 1909، إلى مؤثرات للنور والظل شديدة الواقعية (كما في فيلمه «إدجار ألن يو»). لقد بين بورتر، كما رأينا في الفصل الثاني، فكرة عمل قصته من مونتاج لبعض المشاهد. وتطوير جريفيث لمبدأ القطع خلال المشهد يؤرخ له، على ما يبدو، بفيلمه «بعد عدة سنوات» الذي اخرجه في نوفمبر 1908، بعد اربعة أشهر فقط من فيلمه الاول. وهو اعداد عن «اينوك اردن». وفيما يلي وصف جريفيث لشكوك مديري شركة بايوجراف بشأن هذا الفيلم. كان اول فيلم بلا مطاردة. وكان ذلك حدثا، ففي تلك الايام فيلم بلا مطاردة لم يكن فيلما. كيف يمكن عمل فيلم ليس فيه مطاردة؟!. كيف سيأتي التشويق او توجد الحركة؟ و«بعد عدة سنوات» كان ايضا اول فيلم بلقطات قريبة درامية ـ اول فيلم به قطع استرجاعي. عندما اقترح جريفيث مشهد «أني لي» وهي تنتظر عودة زوجها يعقبه مشهد اينوك ملقى بجزيرة مهجورة، شعر الجميع بالتشتت.. «كيف ستحكي القصة بهذه القفزات؟ الجمهور لن يعرف ما الموضوع». «حسن»، رد جريفيث «الا يكتب ديكينيز بهذه الطريقة؟».. «بلى، ولكن هذا ديكينز، انها رواية مكتوبة، الامر يختلف..» «ليس مختلفا كثيرا. فهي هي الاخرى قصص ولكن مصورة.. والامر لا يختلف كثيرا». كان القطع من لقطة قريبة «لأني لي» إلى الموضوع الذي تفكر فيه وثبة هائلة بالفعل: فالصورتان لا يربطهما منطق درامي ملموس، بل سباق التفكير. ان ادراك جريفيث في 1908، للتشابه بين المونتاج وطرائق الروائي في الكتابة له طرافته الخاصة، ولسوف يتبناه ويطوره بعد ذلك بكثير، في الاتحاد السوفيتي، سيرجي ايزنشتاين (1898 ـ 1948). وفي فيلم انتج عام 1909 بعنوان «الفيللا المنعزلة»، استخدم جريفيث حيلة «النجدة في آخر لحظة» التي جعل منها حيلة مشهورة، حيث وظف القطع المتداخل (المونتاج المتوازي) بين حدثين متوازيين بغرض التشويق والتأثير الدرامي ثم واصل تطوير هذه الحيلة في افلام اخرى بزيادة التشويق والاثارة عن طريق الايقاع المتسارع للتقطيع من لقطة إلى اخرى ومن حدث إلى آخر. وفي العام التالي استخدم جريفيث تقنية الاسترجاع بمزيد من الحرية في فيلم «قبعة نيويورك» (أول سيناريو تقدمه أنيتا لوس، وهي في الثامنة عشر). الآن وصلت عملية تركيب اللقطات إلى التمكن من عنصري الزمان والمكان. اضافة إلى تطوير لغة السينما فقد وسع جريفيث نطاق موضوعها بشكل كبير، فرغم ان انتاجه في السنوات الاولى كان متنوعا، مشتملا على الكوميديا البذيئة (وان لم يكن المرح ابدا احد سجاياه البارزة) والميلودراما ورعاة البقر والاثارة وقصص الحب والموضوعات التاريخية. الا انه روع منتجيه في شهور عمله الاولى بتقديم برواننج وتينيسون، بالاضافة إلى اسماء ادبية اخرى محبوبة ومأمونة مثل ديكينز وشكسبير وبو. ثم جرب جريفيث الموضوعات الاجتماعية في «اغنية القميص».

Email