قطرات ملونة تتساقط على الماء لترسم وردة أو زهرة

«الأبرو».. فن الرسم والإبداع على الماء

ت + ت - الحجم الطبيعي

قطرات ملونة من الأحمر والأصفر والأخضر أو ما تشتهي العين أن ترى من ألوان تتساقط بعد ضربة خفيفة لتلك الفرشاة التي انغمست بها على سطح الماء الذي تحتها، وبمجرد أن تلمسه تفترش عليه بخطى ثابتة في شكل دائري ينتظر تلك الحركة الخاطفة لتظهر هذه الوردة أو الزهرة أو تلك الكلمة التي وُضعت في المخيلة منذ النظر إلى سطح الماء، وإذا كان الوضع أشبه بالدوامات التي صنعها حجر قد تكون قذفته يوماً في ماء نهر أو بحر لتخفي به الانعكاسات التي تشكلت على سطحه، إلا أن ذلك الحجر غير كفيل بتشويش أو إفساد الصورة الظاهرة في حدود هذا الماء طالما كان الورق هو الأسرع بسحبها من على سطحه..

لم يكن ذلك سوى جزء من عملية رسم لوحة بطريقة بدأت منذ قرون عديدة، والمختلف فيها أنها اختارت الماء للرسم عليه، إنه «فن الرسم على الماء»، أو «الأبرو» الذي يقوم مركز ثقافي تركي بالقاهرة بالعمل على إحيائه ونشره بالمنطقة، فإلى التفاصيل..

قبل أشهر قليلة، أقيمت دورة لتعليم فن الأبرو بمركز «يونس أمرة للثقافة التركية»، تبعها إقامة أول معرض للوحات الأبرو تحت إشراف المركز أيضا.. ومركز يونس أمرة بالقاهرة، ذلك المبنى ذو الثلاثة طوابق لا يخلو ركن فيه من وجود لوحة أبرو وجميعها في الغالب تمثل أشكال ورود وأزهار، حيث يعد هذا الفن أحد الأنشطة الأساسية التي يقدمها المركز منذ افتتاحه حديثاً في 2010 .

فن تراثي تركي

يقول سليمان سيزر مدير مركز يونس أمرة للثقافة التركية بالقاهرة: فاجأنا بإتقانه للغة العربية، حيث إنه يعيش في مصر منذ عشرة أعوام، وعندما سألناه عن المركز وسبب تسميته بمركز يونس أمرة، قال: إن أمرة هذا هو رائد الشعر التركي، عاش في الفترة ما بين القرن 13 والنصف الأول من القرن 14والمعروفة بفترة انهيار دولة السلاجقة بالأناضول، وأكثر ما كان يميز يونس أمرة كما قال سيزر وكما يوجد في النشرات التعريفية بالمركز بأنه استخدم أسلوبا بسيطا ولغة فصيحة في أشعاره التي تناولت العشق الإلهي وحب الإنسان والعدل.

أما عن نشاط مركز يونس أمرة بالقاهرة فقال سيزر: إنه الأول على مستوى العالم الذي يهتم بفن الأبرو باعتباره فنا تراثيا تركيا. والأبرو كلمة أصلها فارسي، لكنها عند الأتراك تعني حاجب العين والورق الملون أو القماش الملون بألوان مختلفة بشكل مموج يشبه حاجب العين، وتأتي الأبرو في التركية بمعنى الورق أو القماش الملون الذي يستخدم في تغليف الكتب والدفاتر «هكذا كان تعريف» بيرول بيجر، أستاذ فن الأبرو بتركيا كلمة الأبرو في مقاله المنشور بمجلة حراء الفصلية، مضيفا أن هذا الفن بدأ في القرن التاسع الميلادي بآسيا الوسطى وجنوب القوقاز، خاصة في مدينتي بخارى وسمرقند لينتقل إلى إيران وعند قدوم الأتراك إلى هضبة الأناضول انتقل معهم هذا الفن الذي عرفوه في القرن الرابع عشر وأخذوا في تطويره حتى أصبح هذا الفن يتحلى بطابع عثماني أو طابع تركي .

أكبر لوحة

وعلى الرغم من اختلاف الآراء حول أصل فن الأبرو لكن هناك تواريخ أساسية في حياة هذا الفن ففي عام 6461م ظهر أول كتاب عن فن الأبرو في مدينة روما الإيطالية بعنوان «الورق التركي»، وفي القرن 61 أخذت رسوم الأبرو مكانة مرموقة بين الأمتعة الثمينة للغرب بعد قيام الرحالة الأجانب برحلات إلى الأراضي العثمانية التي بلغت في ذلك الوقت أقصى ازدهارها في الفن والثقافة والعلم والتكنولوجيا، وتحول عند الأوروبيين في القرن الثامن عشر إلى موضة لا يستغنى عنها، وطبعت رسومات الأبرو على معظم مجلدات الكتب الأوروبية، على حسب قول بيجر في مقاله.

لكن في العام 1923م حيث زوال الدولة العثمانية، تراجع اهتمام السلاطين والبشوات والأميرات بالفنون بشكل بارز ما أدى إلى تراجع فن الأبرو وتعرضه للإهمال، وفقا لما ذكرته موسوعة الخط العربي.. غير أن مرحلة التسعينات شهدت عودة الاهتمام بهذا الفن بإنشاء قسم لفن الأبرو في أكاديمية الفنون الجميلة وإقامة أول مؤتمر دولي للأبرو باسطنبول عام 1997، وكان اللقاء الأهم لهذا الفن مع التاريخ عام 2003 عندما صنعت أكبر لوحة في تاريخ فن الأبرو على شكل ستارة ووضعت كخلفية في حفل زفاف نجم الدين بلال بن رجب الطيب أردوغان رئيس الحكومة التركية.

أشبه بالسحر

وإذا كان مجرد سماع فكرة الرسم على الماء أشبه بشيء خرافي يستحيل تحقيقه فإنه بوجود مادة يقترب لونها من البياض «الكتره» المستخرجة من عشب يعرف باسم «عفان» أو التي يمكن تحضيرها من السحلب - بذور الكتان- بذور السفرجل أو زيت الغار جعل إمكانية الرسم شيء طبيعي، وإن كانت حركة الرسم السريعة أشبه بالسحر.

وكل ما تحتاج إليه كأبروزّن أي صانع الأبرو هو الصبر والتأني فهو فن يتميز بعدم تكرار نماذجه ويصعب تقليده كما قال بيجر في مقاله، اضف إلى ذلك بعض الأدوات التي ترسم بها بدءًا من حوض مليء بالماء عرضه 40-50 سم وارتفاعه 5-6 سم، توضع فيه «الكتره»، ثم ترش الألوان التي لا تذوب في الماء بعد إضافة «مرارة العجول» إليها، وهي التي تجعلها تبقى على سطح الماء ولا تترسب، ليأتي دور الفرشاة ذات شعر ذيل الحصان أو السلك الرفيع البديل عنها لتشكيل الصورة التي في المخيلة.

ولكن هنا لابد أن تتذكر أنه «لا تكون كلمة الفصل إلا للحوض»، ذلك المصطلح الذي وضعه فنانو الأبرو، وفسره بيجر أستاذ الأبرو في مقاله «لأنه في بعض الأحيان يحصل الفنان على نتيجة فوق التي كان يتوقعها، لعله ينساق وراء الأشكال أو الصور التي تتكون، أي أنه لا يستطيع أن يتصرف بالألوان والأشكال كيفما يريد، ولا يستطيع أن يضع الشكل النهائي الذي وضعه في مخيلته إلا بعد اقترابها من الإنتهاء». فإذا حدث ذلك تأتي بالورقة الخاصة الماصة للألوان وتضعها على سطح الماء فوق الأشكال، ثم تمسك الأطراف وترفعها بحذر وتتركها تجف لعشرة دقائق . بهذا تكون أبروزّن «صانع أبرو».

هوية مستقلة

يصنف فن الأبرو على أنه أحد الفنون التراثية الإسلامية التركية، وعن ذلك قال بيجر في مقاله: «اعتنى الأتراك بفن الأبرو ومارسوه مدة طويلة في الخط والتغليف، ولكن لم يحظ بهوية ذاتية حتى أواخر القرن 02، وتم استخدامه من قبل أقلية من الدراويش المتصوفة، وعلى رأسهم منتسبو التكية الأزبكية في منطقة أسكدار باسطنبول لإشباع جانبهم الروحي والمعنوي، وهذا حفظ هويته وساعده على الرقي والازدهار، كما أدى إلى إحياء فن الأبرو من جديد واكتسابه هوية مستقلة بين الفنون الإسلامية الأخرى.

وحلل بيجر ارتباط الأبرو بالجذور الإسلامية بأنه فن يريح النفس يسعى الفنان خلاله إلى التعبير عن الأشياء وتجرد نفسه من كافة القيود الخارجية محاولا إيجاد سبيل إلى المعنى والتعبير عن القدرة الإلهية في إبداع هذه الجماليات التي تحلت بها الكائنات، وقد حملت الفنون الإسلامية هذه الروح أيضا .

وأضاف بيجر أن زهرة الزنبق والياقوتة وغيرها من الأزهار اكتسبت روحا جديدة بهذا الفن، ليس برسمها في حوض الأبرو، ولكن بإدراك القيم الثقافية والمبادئ التراثية الإسلامية التي انتمت إليها، على حد قوله.

وفسر الفكرة التي تمثلها الوردة في فن الأبرو بـ«الوحدة»، فالوردة المتفتحة تدل على «الكثرة»، وأيضا على تمام الكمال وسمو الروح، فالأشكال المرسومة على سطح الماء هي تعبير عن الفناء كالحياة، وعند نقلها إلى الورق إنما يدل ذلك على البقاء كالآخرة، بينما يمثل الحوض الكائنات، والمادة البيضاء الصمغية «الكتره» تمثل عالم الشهود والفرشاة والألوان تمثل دائرة الأسباب والفنان يمثل الإرادة والقدرة الإلهية التي أوجدت في هذا الفن سمة الفناء .

القاهرة ـــ دار الإعلام العربية

Email