تراث

(النهمة) أناشيد تختزن ذكريات الفرح والحنين والحماسة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تراثنا كنزنا. الجذر الذي مهما علت شجرة الأيام وتزينت واختلفت ألوان اوراقها، يظل يشدنا الى التربة والأصل. التراث ليس حديثا مضجرا، انه حكايات لا تزال تنبض بالحياة، تماما كما الجذور تنبض بماء الحياة.

وكثيرة هي التقارير التي تتحدث عن تراث الامارات، وقليلة هي المقاربات التي لا تقع في فخ الاطالة او الضجر، في زمن انصرف فيه الشباب عن كتب التاريخ، الى محادثات »التويتر« و»الفيس بوك« وال»يوتيوب«.»الحواس الخمس« اراد في رمضان أن ينبش في خزانة تراث الامارات، أن يذهب في زيارات خاصة تستقصي وتسأل وتتذكر، مع المعنيين. جلنا في جبال، وتمشينا على شواطئ. استمعنا الى نغمات كادت أن تندثر لولا حرص مجموعة من المتحمسين الى التراث، وجهدهم في الحفاظ عليها ونقلها من جيل الى آخر. جالسنا صيادين وحرفيين وشعراء، وتوغلنا في ذاكرتهم الفردية والجماعية، في ذاكرة الحنين. في رمضان نفتح كتاب الحنين الى الماضي الجميل.

في عرض البحر وعلى سفينة مكتظة بالبشر يعيش البحارة على وجبة واحدة من الأرز وبعض حبات التمر لفترة أربعة شهور، تقف السفينة ويبدأ البحارة الغوص في أعماق البحر بحثا عن اللؤلؤ في أماكن ليست بعيدة عن سمك القرش وغيرها من المخاطر، اعتاد هؤلاء البحارة على ذكر الله من خلال بعض الأغاني والمواويل التي تحفزهم على تحمل المشقات أثناء عملهم، وأصبح لكل عمل الأغنية الخاصة به. واليوم كان »للحواس الخمس« وقفة مع النهمة®.

عند حديثنا إلى البحار الوالد سرور مسعود وهو يستعيد ذكرياته فيقول بعبارات تملؤها الشوق والحنين لتلك الأيام: مازال صوت النهام يدور في مخيلتي وأنا أتأمل البحر ونحن في عرضه بالرغم من المصاعب والمشاكل التي كنا نواجهها من تغير في الأحوال الجوية والموج المرتفع الذي كان يداهمنا، وبعبارات صامتة تملؤها الحزن يقول:

لقد فقدنا الكثيرين من أصحابنا أثناء فترة البحث عن اللؤلؤ وحزنا كثيرا من أجلهم خلال رحلات الغوص المتكررة ولا يسعنا إلا أن ندعو لهم بالرحمة، لكن بشكل عام تعتبر رحلات الغوص ذكريات لا تنسى.

وبدأ الوالد سرور بتعريف النهام قائلا: هو المنشد الذي يقوم بإلقاء الأهازيج للترفيه عن البحارة أثناء رحلة الغوص، بأناشيده هذه يبث الحماس في نفوس البحارة ويشجعهم على العمل ويمتاز بالصوت الجهوري وأحيانا يكون النهام هو أحد الغواصين أو السيوب على السفينه. تعتبر »النهمة« أنشودة دائمة للمبحرين مع خط الأفق البعيد تعتبر النهمة النشيد الذي يتغنى به البحارة وسط مياه البحر الممتدة بعيدا عن الديار والأهل والأصحاب.

ولكل مرحلة من تلك المراحل المبحرة (شلة) يتقنها خبير متمرس وتعرف أغاني البحر بفن (النهمة) التي واكبت رحلات الغاصة ويرددها العاملون على ظهر سفنهم كباعث قوي للتفاؤل والأمل كي لا يتسرب من نفوسهم.

وأغاني البحر عديدة وما يردده البحارة قبيل إقلاع السفن والقوارب أو حين العودة أو خلالهما فترات الخطيفة وهي الفترة التي تسبق وصول الغاصة إلى المغاص الموجود به محار اللؤلؤ ومن الأغاني التي يرددها البحارة جماعيا :

هو يالله يالله باولم هو يالله يالله باولم

هويالله يالله بولم يدور خلوني بابدع فن

شلو بي عن محبوبي وذنوبي على من

أما عندما يرتفع شراع السفينة ليعانق الهواء فإنهم ينتقلون إلى غناء آخر ليعلنوا عن رهبة المبحرين من غدر البحر العميق فيصيحون بأعلى صوت : دامنة دامنة البحر لا تامنه.

أما حين يرتفع الشراع بصورة تامة وتزداد سرعة انطلاق السفينة فان الغناء يزداد مع سرعة الصوت المتفائلة :

يا مال يا مال أووه يا مال يا عمه الخير لا تستعين بالفرقة

بين وبين الأهل لابد من الفرقة أول شبابي بليت بعمه قشرة

وأثناء عثور الغاصة على أماكن عثور اللؤلؤ (الهيرات) فان البحارة يطلقون عقيرتهم مغنين بصوت مرتفع :

فوق عتاد®.نهم النهيم®. بالله بالله®. بالتيسير®. إن شاء الله®. بأمر الله تسير®.

أو أنهم يقولون جماعيا :

دار الهوا شامي®.يا ابو عبدالله®.سنارينا سافر®. وأتوكل بالله

صاروخ صوتي

فالنهمة، مصطلح عرفه البحارة بإطلاق الصفة على أغاني البحر والنهمة كما عرفها أصحاب اللغة، تعني الناهم، وهو الراهب والصاروخ، والمصوت، قولهم (والنهامي، الراهب لأنه ينهم أي يدعو) والدعاء في هذه الحالة ينطبق تماماً على ما يدعو إليه الناهم في البحر لإنجاز حالة من الحالات في شتى مناحي العمل.

والنهمة، وإن كانت غناء واكب سير العمل في السفينة، إلا أنها تخضع لقواعد معينة من الألفاظ والترانيم والاستهلال والنحب والهمهمة (النحب والهمهمة: أن يردد كلامه في صدره ولا يخرجه) ، بجانب ما يكتنف ذلك من حكم وأمثلة وأدعية درج على سماعها البحارة، فكانت بالنسبة لهم جزءا لا يتجزأ من سير حركة العمل بمصاحبة نوع من الغناء الذي لا يستغنى عنه بأي حال من الأحوال.

والنهمة في أبسط صورها تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

1- اليامال، وهو نوع من الغناء يختص بالسرد الإلقائي (ريسيتاتيف) على ظهر السفينة وخارجها.

2- الخطفة، وهي نوع من الغناء، يختص برفع أشرعة السفينة لإبحارها باتجاهات مغايرة.

3- الحدادي، وهو ما يفتقر إليه البحارة لاستعادة نشاطهم وقت الراحة في الوقت المناسب.

وهذه الأنواع الثلاثة يقوم كل منها بوظيفة معينة من الضرب والغناء في حين أن كل واحد منها ينقسم إلى عدة فروع، أهمها:

اليامال

(يامال بدينة)، (ياهي يامال)، (يامال محرقي)، (يامال راكد) .

وكلمة يا مال هي نوع من التعبير الجماعي عما يجيش في صدور البحارة من الوجد والألم والفراق، كتعبير أصحاب اللغة ، قولهم (ياهي يامال) ،(وياشي يامال) ، معناه كله الأسف والتلهف والحزن، وهذه تتم بواسطة السرد الإلقائي، كل بطريقة سرده ومخالفة أداء نحبه ، بجر المجاديف على نمط واحد بشعر من الزهيري.

الخطفة

تنقسم الخطفة إلى عدة فروع مختلفة في الضرب والغناء، أهمها: (خطفة العود)، (وخطفة دواري القلمي) و (خطفة الجيب)، (وخطفة الكابية)، (وخطفة البومية)، (وخطفة الشومندي)، وهذه المسميات تطلق على نوعية الأشرعة بحسب مقاييسها من (العود) وهو الشراع الأكبر لتنتهي إلى (الشومندي) وهي أصغر الأشرعة حجماً وهذه ترتفع على (دقالة) السفينة حاملة هذه الأشرعة، كما تطلق أيضاً على (الدقل) نفسه قولهم، الدقل العود، والدقل القلمي، وهكذا من كبيرها حتى صغيرها.

وهكذا أطلق البحارة من مرادفات اللغة، كل ما يتصل بأجزاء السفينة وأشرعة دقالتها وضروب أغانيها، كقول أصحاب اللغة في صفة (الدقل) قولهم، وهو دقل السفينة الذي ينصب في وسطها قائماً ويقوم عليه الشراع.

وهكذا لكل خطفة شراع أو إنزال شراع من أشرعة السفينة نوع خاص من المصطلحات بجانب ما يصاحب ذلك من ضرب إيقاع وغناء وتصفيق معين يماثل ما يقع في الزفن من هز للأكتاف وحركة الرؤوس وطرقعة الأصابع واللسان بصورة تتناسب وحركة الضرب بالقدم وبمشاركة ما يصدر عنهم من أصوات النحب والهمهمة ، لخطف الشراع وارتفاعه للمكان المناسب لدفع السفينة نحو جهة معلومة، في الوقت الذي يقوم فيه البحارة بخطف بقية الأشرعة كما خطف العرب الأولون، وكما يقول أصحاب اللغة ، وجملة الأداة من الخطاف والمحور والبكرة والنعامتين وحبالها علق.

الحدادي

ينقسم الحدادي إلى عدة ضروب مختلفة في الأدوار والإيقاع أهمها : (الشبيثي، الياملي، السيملي، جفت الشراع، الحدادي، الحدادي الحساوي، الحدادي الحجازي، الحدادي المسروق، السنكني، الفجري، لمة المجيب ، والحداد كما يقول العرب (البحر).

وهذا النوع من الغناء، وإن اختلفت فيه بعض الضروب وتباينت فيه الأسماء إلا أنه يشكل وحدة فنية قائمة بذاتها ، تندرج تحت قائمة ما أسميناه الفنون البحرية الخفيفة، لذلك قام الباحث بوضع كل ما يتصل بهذه الفنون تحت اسم ما قدمناه (الحدادي).

تقسيم الغناء البحري

يمكن تقسيم الغناء البحري إلى نوعين، وذلك حسب الغرض من الغناء، فهناك أغان تؤدى على ظهر السفينة لمصاحبة العمل الذي يقوم به البحارة، ويمكن تسميتها بأغاني العمل التي تحافظ على إيقاعه بشكل جماعي، وكذلك الترفيه عن البحارة أثناء العمل وتشجيعهم على مواصلة الأعمال الشاقة التي تحتاج إلى قوة عضلية وصبر، فمن خلال الأغاني يمكن انشغال البحار بعض الشيء عن الإحساس بالتعب.

دور النهام

لا يمكن أن يكون لأي نمط من أنماط الغناء البحري وجود دون النهام، فهو العنصر الرئيسي والأساسي لهذا الفن، والمحور الذي يرتكز عليه غناء وأداء باقي البحارة، لذا فانه من البديهي أن يتسابق النواخذة إلى اجتذاب النهامين الجيدين إلى سفنهم وتقديم اكبر الأجور لهم.

وذلك يرجع إلى أثرهم الكبير في نفوس البحارة وحسن سير العمل، فالنهام في السفينة يكون بمثابة الحافز لاستمرار البحار في العمل دون الإحساس بالتعب، فمشاركته مع النهام في الغناء ننسي البحار المشقة وتساعده على الصبر، وكلما كان غناء النهام أفضل كلما زاد الحماس في العمل، ومن هنا يكون النهام العنصر المحرك والموجه للعمل، ولذلك لم ت.

دبي - مريم إسحاق

Email