سياحة

قصر عابدين.. 500 غرفة من السحر الملكي

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يبقى المكان ويغيب السكان، مهما كانوا ملوكًا احترفوا صناعة التاريخ، يرحلون وتبقى آثارهم شاهدة على ما فعلوه.. فهذا قصر عابدين، تحفة ملكية باقية على أرض مصر، أثر فريد من آثار أسرة محمد علي باشا، باني مصر الحديثة، أمر ببنائه حفيده الخديو إسماعيل، ليكون واحدا من أشهر القصور في مصر، ومقرًا للحكم منذ العام 1872 وحتى قيام الثورة المصرية عام 1952.

وهو القصر الوحيد الذي تعاقب عليه 6 ملوك، وشهد تحول مصر من الملكية إلى الجمهورية.. «عابدين».. قصر تتحدث عنه الأيام، ويرويه التاريخ. فور توليه حكم مصر عام 1836؛ أمر الخديو إسماعيل ببناء قصر عابدين ليتم تشييده بدلا من قصر «عابدين بك»، أحد القادة العسكريين في عصر محمد علي، الذي كان يمتلك قصرًا صغيرًا في المكان نفسه، وبعد وفاته اشتراه الخديو إسماعيل من أرملته ثم هدمه، وضم إليه أراضي واسعة، ثم بدأ في تشييده، وكان بناؤه بداية ظهور القاهرة الخديوية؛ حيث أمر الخديو آنذاك ببناء القصر وتخطيط القاهرة على النمط الأوروبي، وذلك من خلال عمل ميادين فسيحة، شوارع واسعة، قصور، جسور على النيل، حدائق تملؤها الأشجار.

وتضم أنواعا نادرة من النخيل والنباتات، ليكون تحفة معمارية وواحة خضراء تختلط فيها اللمسات المصرية مع الأوروبية والأفريقية، حتى أصبحت القاهرة تحفة حضارية ينبعث منها عبير الشرق الساحر، وبعد الانتهاء من تشييد القصر مباشرة، انتقل إليه الخديو إسماعيل للإقامة به مع أسرته، حاشيته، خدمه.. تاركًا القلعة التي كانت مقرًا للحكم في مصر منذ أن شيدها صلاح الدين الأيوبي عام 1171. افتتاح قناة السويس صَمم قصر عابدين المهندس الفرنسي «كوريل روسو» بمشاركة عدد كبير من الفنيين والنقّاشين المصريين والإيطاليين والفرنسيين والأتراك؛ وبلغت تكاليف إنشائه آنذاك 700 ألف جنيه مصري، وتكلف الأثاث وحده مليوني جنيه.حيث حرص الخديو على تشييده ليواكب افتتاح قناة السويس، وليكون مقرًا للاحتفال، لكن الأعمال الإنشائية، والتشطيبات تأخرت كثيرًا، فاضطر إلى إقامة الاحتفالية بقصر الجزيرة، الذي أقيم مكانه حاليا فندق (ماريوت)، ثم توالت على القصر التحسينات، الإصلاحات، التبديل.

إضافة الأثاث والأجنحة بتعاقب الحكام الستة، الخديو إسماعيل، الخديو توفيق، الخديو عباس، السلطان حسين كامل، الملك فؤاد، وكان آخرهم الملك فاروق، ثم تحول القصر بعد ذلك إلى النظام الجمهوري، وجاء الرئيس محمد نجيب تلاه جمال عبدالناصر ثم السادات وأخيرًا الرئيس حسني مبارك، ليشهد القصر أهم الأحداث في تاريخ مصر الحديث.

جولة ملكية

ضم القصر عند إنشائه 500 غرفة وقاعة، خلاف الممرات، التي كانت أرضياتها من الرخام الملون المنقوش والمعروف آنذاك بالمرمر، وكانت أبوابه ونوافذه من الزجاج الملون الذي رسمت عليه لوحات ملونة لأشجار، بحار، طيور، واحتوت الأسقف على نقوش هندسية فنية دقيقة بارزة، مذهبة، تحتوي على زخارف عربية، إسلامية، إيطالية..

أما السلالم فكانت تتسم بالفخامة، وتم فرشها بالسجاد الأحمر، كما يحوي قاعات وصالونات تتميز بلون جدرانها، فالصالونات الأبيض والأحمر والأخضر تستخدم في استقبال الوفود الرسمية أثناء زيارتها لمصر، إضافة إلى مكتبة القصر التي تحتوي على 55 ألف كتاب، كما يضم القصر مسرحًا يضم مئات الكراسي المذهبة، علاوة على أماكن مخصصة للسيدات معزولة بستائر، ويستخدم المسرح في العروض الخاصة للزوار والضيوف.

جناح بلجيكي

يوجد داخل القصر العديد من الأجنحة، مثل الجناح البلجيكي الذي صُمم لإقامة ضيوف مصر المهمين، وسمي بذلك؛ لأن أول من أقام به ملك بلجيكا؛ حيث يضم هذا الجناح سريرًا يعتبر من التحف النادرة نظرًا لما يحويه من زخارف، ورسوم ليس لها مثيل في العالم.

مداخل القصر عديدة، وأهمها باب باريس الذي يقع وسط السور الشرقي للقصر، وقد أطلق عليه هذا الاسم؛ لأنه كان من المفترض أن تدخل منه الإمبراطورة أوجيني زوجة الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث، لكن الظروف لم تسعفهم في الانتهاء من إنشائه، ووضع اللمسات الأخيرة التي استغرقت 4 أعوام.

وبمواجهة المدخل الباريسي توجد قاعة محمد علي، التي تعتبر أكبر قاعات القصر وأفخمها على الإطلاق، وعلى الجانب الآخر توجد قاعة العرش، وهي عبارة عن ميدان فسيح به قاعة ذات طراز عربي، أرضيتها من الباركيه.

ويوجد باب يفصلها عن قاعة مجاورة، وهي قاعة «الحرملك» التي لا يسمح لأحد بالدخول إليها إلا لمن يحمل علامات متميزة، ثم يبدأ منها ممر طويل يقود إلى جناح الملك، المفروش بأفخر أنواع السجاد، ويتكون الجناح من عدة غرف إحداها مكتبة وأخرى صالون ثم حجرة النوم، الحمام، حجرة الملكة نازلي، في حين أن الدور الأرضي الذي يقع أسفل هذا الجناح يضم بعضًا من حديقة القصر، صيدلية تحتكر الأدوية النادرة.

وفي مواجهتها المطبعة الملكية، بالإضافة إلى مكتب للملك فاروق كان يتناول فيه أشهى المأكولات الساخنة، ويضم كذلك ورشة «المكوجية» الحكومية والخاصة.

متاحف

يتسم القصر بالطراز المعماري والهندسي الفخم نظرًا لولع أبناء وأحفاد الخديو إسماعيل الذين حكموا مصر من بعده بوضع لمساتهم على القصر، وعمل الإضافات التي تناسب ميول وعصر كل منهم.

حيث قام الملك فؤاد الأول، ابن إسماعيل، والذي حكم مصر في الفترة من 1917 إلى عام 1936 بتخصيص بعض قاعات القصر لإعداد متحف يعرض مقتنيات الأسرة من أسلحة، ذخائر، أوسمة، نياشين، وغيرها، ثم قام ابنه الملك فاروق، الذي حكم مصر من عام 1936 إلى عام 1952، باستكمال المتحف.

وإضافة الكثير من المقتنيات، خاصة الأسلحة بأنواعها المختلفة، وألحق بالمتحف مكتبة متخصصة في هذا المجال، وهناك عدد كبير من المتاحف أهمها متحف هدايا الرئيس مبارك، وهو خاص بمقتنيات الرئيس من هدايا تلقاها في المناسبات الوطنية المختلفة أثناء جولاته في بلدان العالم.

متحف الفضيات، خاص بمقتنيات أسرة محمد علي، من الفضة، الكريستال، البللور الملون، وغيرها من التحف النادرة، وهكذا يعد قصر عابدين مجمعا للمتاحف المتعددة يربطها خط زيارة واحد يمر من خلاله الزائر بحدائق القصر، ما يتيح للزائر المتعة الثقافية والترفيهية معًا، فيرى التحف، اللوحات الفنية الأصلية النادرة التي لا تقدر بثمن، بعد أن تسابق في تجميعها وشرائها كل الحكام الذين سكنوا القصر من جميع أنحاء العالم، والتي لو بيعت لما ساوتها المليارات.

بعث جديد

على الرغم من كل المقومات الفنية، المعمارية، التاريخية للقصر، فإن يد الإهمال طالته؛ حيث اقتطعت أجزاء كبيرة منه لبعض المؤسسات الحكومية لمحافظة القاهرة، وبعضها للاتحاد الاشتراكي الذي صار مقرًا للحزب الوطني فيما بعد، كما تم بناء مدرسة بشكل عشوائي داخل حدوده ما أثر سلبًا على حالة القصر، وإغلاقه فترة من الزمن،.

لكن في عهد الرئيس الراحل أنور السادات عادت الروح إليه مرة أخرى، بعد أن قرر الاعتناء بالعديد من القصور، وإعادة الحيوية إليها، من بينها قصر عابدين، كذلك في عصر الرئيس حسني مبارك استمرت أعمال الترميم، وأمر الرئيس بإعادته إلى ما كان عليه من رونق وجمال باعتباره أحد كنوز مصر التاريخية، فتم تجديده.

وتحديث جميع المتاحف الموجودة به لأهميتها التاريخية، منها متحف الملك فؤاد الأول، والعائلة المالكة، الذي يضم كل مقتنيات الأسرة المالكة من فضيات وكريستالات وصيني، بالإضافة إلى الوثائق الأثرية منذ عصر محمد علي، وحتى الملك فاروق، كذلك ترميم متحف الأسلحة، الأوسمة، النياشين، وتم افتتاح هذه المتاحف للجمهور والسائحين وذلك منذ عام 1998.

نيو كلاسيكي

د. فتحي صالح، مدير مركز التوثيق التراثي والحضاري بمكتبة الإسكندرية، يقول إن قصر عابدين تم تصميمه على الطراز الفرنسي «نيو كلاسيكي»؛ ليكون دار السكن الرسمي، ومقرًا للحكم في عهد الخديو إسماعيل الذي أمر بتشييده على مساحة شاسعة في موقع رئيسي في قلب الخطة الجديدة التي وضعت لتحويل القاهرة إلى عاصمة أوروبية.

آثار نادرة

من أهم القطع النادرة في قصر عابدين سيف السلطان العثماني سليم الأول، سيف وفأس قتال للسلطان العثماني سليمان القانوني، سيوف وخناجر خاصة بمحمد علي باشا وأخرى خاصة بنجله إبراهيم باشا، هناك أيضًا سيف خاص بسليمان باشا الفرنساوي، ناظر مدرسة الحربية، وآخر خاص بنابليون بونابرت.

وثالث خاص بالملك الإيطالي «جليوم»، خنجر خاص بالقائد الألماني روميل، ويوجد أيضًا نصب تذكاري يمثل الملك الألماني «فريديك»، وهو يمتطى جواده، ويحيط به عدد من الفرسان.

ويعتبر قسم الأسلحة النارية من أكبر أقسام المتحف الحربي، الذي يجمع بين السلاحين الأبيض والناري معًا، ومعروضاته عبارة عن أسلحة بيضاء من سيوف وخناجر محلاة بالذهب، ورقائق الفضة المزخرفة، كما أن بعضها مزود بكتابات لأدعية وأشعار، أما الأسلحة النارية فهي عبارة عن مسدسات، رشاشات، بنادق، بعضها محلّى بالذهب.

نقطة تحول

ويكتسب قصر عابدين أهمية بالغة في قلوب المصريين؛ حيث كان سببًا في نزول ملوك مصر من برجهم العاجي في القلعة إلى الحياة العادية، والإقامة بين الناس بعد سقوط حكام المماليك والأتراك؛ حيث تعد هذه نقطة تحول في حياة المصريين، كما أن القصر كان شاهدًا على كثير من الأحداث الساخنة في تاريخ مصر، وهذا ما يؤكده د.عبدالباري الشرقاوي، أستاذ التاريخ والحضارة بكلية دار العلوم جامعة الفيوم، قائلا:

العديد من الأحداث التاريخية شهدها قصر عابدين، من أبرزها مظاهرة 9 سبتمبر 1881 بقيادة الزعيم أحمد عرابي، التي قدم فيها أهم مطالب المصريين، ونزل الخديو توفيق على سلالم القصر، وطلب منه كبير «الياوران» النزول عن فرسه ويترجل، فرفض، وقال كلمته المأثورة «لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا».

القاهرة - دار الإعلام العربية

Email