شاهد عيان على قصص الحب والانتحار وجسر لمختلف الثقافات

كباري القاهرة.. ملتقى الشرق والغرب

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ليست مجرد مجموعة من الوحدات الإسمنتية العملاقة التي تستريح على دعامات ضاربة في أعمق أعماق نيل مصر وشريان حياتها، ولا نبالغ حين نخرجها من حيز الجمادات إلى الكائنات الحية التي تتنفس، تستوعب وتحيا، تفرح وتحزن، تحنو وتنتقم..

ليست مجرد كلمات فلسفية، وإلا ما كانت كباري القاهرة شاهدة على ألف ألف قصة رومانسية تولد كل يوم متكئة إلى أسوارها، أو ألف ألف قصة أخرى تطوي صفحاتها، وقد ينتهي بها المطاف إلى قاع النهر، هربا من الحب وعذاباته.. تلك هي كباري القاهرة قديمها وحديثها، تاريخ من الأحداث، وملتقى للثقافات، جسور تربط ثقافات الشرق بثقافات الغرب، كما تربط بين شرق النهر وغربه. السطور التالية تحاول رصد بعض المشاهد الموجزة عن عدد من كباري القاهرة البارزة، وكيف كانت بالأمس، وكيف أصبحت اليوم.. فإلى التفاصيل.

لأكثر من مئة عام، ظلت الكباري أحد المعالم التي تميز القاهرة، وأحد وجوهها المتعددة التي تنتشر في معظم مناطقها، لتصل شمالها بجنوبها وشرقها بغربها، وتحاول أن تخفف قليلاً من وطأة الزحام فوق الأرض لينتقل الزحام الأرضي إلى الكوبري الذي يفشل في أحيان كثيرة في حل مشكلة التكدس. تعد كباري القاهرة من أشهر كباري مصر وأقدمها على الإطلاق، عاشت حقبا تاريخية مختلفة، وشهدت أزمات سياسية ورياضية ورومانسية وفنية، وكانت شاهدة عيان على الأحداث التي مرت بها البلاد خلال فترات زمنية متلاحقة مثل كباري قصر النيل، والزمالك، والجيزة، و26 يوليو- أبوالعلا سابقا- والجلاء، والجامعة..

ويعتبر قصر النيل من أشهر هذه الكباري على الإطلاق، شيده الخديوي إسماعيل؛ ليكون أول رابط بين ضفتي النيل، ولم يكن يدرك وقتها أنه سيتحول إلى ملجأ للمصريين أو مصيف لفقراء القاهرة غير القادرين على السفر والترحال إلى الساحل الشمالي أو الإسكندرية وشرم الشيخ، أو أنه سيصبح ملتقى للمثقفين والعشاق الذين يكتفون بالنظر في صفحة النهر أو التنزه في أحد مراكبه الشراعية. وفي يد كل منهم كيس من الترمس، أو كوز ذرة مشوي، هربا من التفكير في مشاكلهم المادية التي تقف في طريق إتمامهم للزواج، حيث شهد أروع قصص الحب السعيدة والحزينة، وبكى عليه العشاق، وبكى هو أيضا على الضحايا الذين لمسوا أسواره قبل أن يقرروا الاستقرار في قاعه، ليكون آخر شاهد على الرومانسية.

أسود أربعة

يرجع السبب في كون كوبري قصر النيل من أشهر الكباري مقارنة مع التي تجاوره ولا تبعد عنه سوى أمتار قليلة أن عمره يقترب من القرن وربع القرن، ويمتاز بجمال التصميم الذي يجعل من يمر عليه يشتاق للمرور عليه مرة أخرى؛ بسبب الأسود الأربعة التي تحرسه على الجانبين.

أو لأنه يتوسط قلب القاهرة ويطل على أشهر معالمها برج الجزيرة والأوبرا وجامعة الدول العربية والفنادق الكبرى وحديقة الأندلس.. وكان الخديوي عباس عندما أمر بإنشائه لا يتوقع أنه يخدم الفقراء والعشاق ويربط الشرق بالغرب فقط، بل كان يحلم بأن يجعل مصر قطعة من أوروبا.

لذلك أقام الكوبري وافتتحه عام 1872 بطول 406 أمتار وعرض 10 أمتار، وتكلف إنشاؤه 108 آلاف جنيه، وشيدته شركة فرنسية، وكان مزودا بفتحتين ملاحيتين يتم المناورة بينهما يدويا، وكان طول كل واحدة منهما 32 مترا.. وتم تنفيذ أساساته بالهواء المضغوط وصممت فتحاته لتحمل 40 طنا، وتم تصميمه لحمل عربات متتابعة وزن كل منها 6 أطنان.

وفي عام 1931 قام الملك فؤاد الأول بتجديده، وأطلق عليه اسم كوبري الخديوي إسماعيل إحياءً لذكرى والده، وراعى في تجديده الناحيتين الفنية والجمالية لتناسبا أهمية موقعه، فأصبحت لكل من مدخليه منارتان من حجر الجرانيت على رأس كل منهما مصباح، أمامه واحد من الأسود الأربعة، وعند نهايته شرفتان جميلتان تطلان على شاطئ النيل.

رسوم عبور

بعض المؤرخين أشاروا إلى تحصيل رسوم كان يدفعها كل من يمر على الكوبري من البشر والدواب، كانت تعود على صيانة الكوبري ورد بعض تكاليف الإنشاء.. وقد فرض على الجمل المحمّل الذي يحمل متاعا قرشان، والفارغ قرش واحد والخيول والبغال قرش واحد وعربات الركوب قرشان، مع إعفاء الأطفال حتى 6 سنوات.

لكن الآن اختلف الحال ولم تعد الكلاب والحمير والبغال والجمال تمر عليه، بل أصبح ملجأ للأسرة المصرية التي تهرب من حرارة الصيف لالتماس نسمة هواء رقيقة.. كما تحول إلى ملتقى لأولاد وبنات يلتمسون خطواتهم الأولى في عالم الحب والرومانسية ويخطّون بأقلامهم عبارات دافئة على أسواره، التي من الممكن أن تكون قد شهدت قصص حب والديهم، وربما يكونون قد دونوا عبارات مماثلة.

قصص غرامية

وكما اتخذ العشاق من كوبري قصر النيل ذكريات جميلة لقصص حب انتهت بالزواج، اتخذه آخرون مكاناً للانتقال إلى الدار الآخرة بالانتحار لاسيما العشاق.. ويعد موسم نتائج الامتحانات ورسوب البعض وعدم تحقيقهم النتائج المرجوة والمتوقعة هو الأكثر رواجا.

إذ يبادرون بالقفز في مياه النيل فتأخذهم الدوامات وتفشل معهم جهود رجال الإنقاذ من الضفادع البشرية وضباط المسطحات المائية الذين لا يبعدون عنهم سوى عدة امتار في إنقاذهم ليظهروا بعد أيام بالقرب من مناطق شبرا الخيمة أو القناطر الخيرية، وهكذا يتحول الكوبري إلى مكان للموت تماما، مثلما يصبح مكانا للحياة مع ميلاد كل قصة حب جديدة بريئة فوقه.

مصدر رزق

ويعتبر باعة العرقسوس والترمس والذرة المشوي والتسالي كاللب والسوداني الكباري مصدر رزق مهم بالنسبة لهم، خاصة أنهم يعانون من البطالة الشديدة، ولا يجدون مكانا على الأرض لموضع قدم، حيث اتخذ كل منهم مساحة معينة يكتسب منها قوت يومه.

وبدأ ينافسهم في الأيام الأخيرة باعة الورد والزهور الذين يشعرون أن العام بالكامل فرصة لترويج بضاعتهم من الزهور التي يتهافت عليها العشاق، علاوة على انتشار باعة الشاي والقهوة الذين يقومون بإحضار كراسي وترابيزات لجذب بعض الأسر التي تعبت من كثرة المشي ذهابا وإيابا.

النجوم و«قصر النيل»

وقد شهد كوبري قصر النيل عددا هائلا من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية، وإن كان أشهرها في الوقت الحالي القفزة الشهيرة للنجم أحمد السقا في فيلم «تيتو» والتي رفض أن يقوم بها دوبلير.

وفضل أن يؤدي المشهد بنفسه لتكون فيه مصداقية أمام المشاهد.. كذلك فيلم «أبوعلي» للفنان كريم عبدالعزيز، الذي أدى مشهدا مشابها مع الفنانة منى زكي أثناء هروبها من مطاردة بوليسية، لكن قام بهذه القفزة دوبلير.. كما شهد نفس الكوبري ذكريات حب سينمائية بين شادية وعبدالحليم حافظ، ومحاولة لانتحار سناء جميل في فيلم «بداية ونهاية»، وكان يشاركها البطولة الفنان عمر الشريف.

كوبري الأزمات

وبرغم الشعبية التي يحظى بها كوبري قصر النيل، فإن كوبري عباس الذي يبعد عنه 3 كيلومترات فقط من أكثر الكباري المصرية قربا من قلوب الناس؛ باعتباره الشريان الرابط بين القاهرة والجيزة، ورغم صغر حجمه وضيقه، مقارنة بالكباري المجاورة، فإنه ينبض بالحياة والحب..

حيث يعد المكان الذي شهد نضال الشعب المصري ضد الاحتلال الإنجليزي، كذلك كان شاهدا على النضال الوطني والحركات الطلابية لقربه من جامعة القاهرة التي تعد من أكبر الجامعات في الوطن العربي وبها أكثر من مليون طالب.

كوبري التظاهرات

كان من أكثر المواقف التي شهدها كوبري عباس موجة الغضب التي اجتاحت الطلاب في عام 1935 بعد أن أدلى السير صمويل هور بتصريح أكد فيه عدم جدوى إعادة دستور 1923-1930، وكان ضد رغبة مصر بالإجماع، حيث انفجرت مظاهرات طلابية.

وهتفت ضد التصريح البريطاني، ونادت بسقوط الوزارة، وعندما اندفعت حشود الطلاب لتجتاز كوبري عباس لتصل إلى قلب العاصمة ترصدها البوليس وأطلق عليها النيران، وفي العام التالي شهد كوبري عباس مظاهرات أكثر ضراوة شارك فيها طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة وسقط منهم عدد من الضحايا.

وشهد كوبري عباس أيضا في عام 1946 مذبحة أدت إلى غرق وجرح العشرات، وكانت تلك المظاهرة سببا في حدوث عدد من المظاهرات بالمنصورة وأسوان، وعمت المظاهرات وحوادث الاشتباك مع الشرطة البلاد كافة، فور وقوع حادث كوبري عباس.

ورغم أن الأغنية الشهيرة للفنان المطرب أحمد عدوية تقول كلماتها «على كوبري عباس واقفة وماشية الناس» فإن الحال اختلف تماما بعد الاحتياطات التي اتخذتها الحكومة المصرية بمنع أي تجمعات في أي مكان قريب من السفارة الإسرائيلية التي تقع في الجهة اليسرى عند نهاية الكوبري، ما دعا مئات السهارى الذين كانوا يتخذون من كوبري عباس متنفسا لهم إلى الذهاب إلى أي كوبري أو مكان آخر للبعد عن المشاكل التي يمكن أن تسببها الجهات الأمنية.

فسحة مجانية

ويعد أيضا كوبري 6 أكتوبر، الذي تم تشييده مؤخرا من الأماكن التي يقصدها عدد هائل من المواطنين بعيدا عن الضوضاء والضغوط النفسية التي تلاحقهم طوال اليوم، خاصة أن تلك الفسحة لا تكلفهم الكثير، حيث تحتاج الأسرة الواحدة إلى 4 كراسي نظير 4 جنيهات للكرسي الواحد، لتقضي سهرة ممتعة تتخللها أحاديث السمر والفكاهة وتستمتع بأجواء النيل الساحرة.

وتعطي الأضواء الليلية جمالاً كبيرا لكوبري 6 أكتوبر، علاوة على المراكب النيلية التي تنتشر أسفله والبواخر السياحية التي تم نقلها مؤخرا لتخفيف الزحام الذي بدأ يزحف إلى هذه المنطقة التي تحتوي على 10 فنادق من أكبر فنادق القاهرة.

وما يجدر بالذكر أن كوبري 6 أكتوبر لا يقف عند جانبي النيل فقط، لكنه يمتد من المتحف الزراعي بالدقي بمحافظة الجيزة حتى طريق النصر بمدينة نصر، مرورا بالزمالك وأشهر ميادين القاهرة.

همزة وصل

ومن كباري مصر الشهيرة كوبري أبو العلا، فمنذ إنشائه ينحاز إلى فقراء حي أبو العلا العريق، فاكتسب اسمه من اسم شيخهم الكبير الشيخ أبو العلا في مقابل أهالي حي الزمالك الأغنياء عن الطرف الآخر من الكوبري، وتم تصميمه خصيصا ليربط بين الطبقتين من الصلب الخالص، وفي عام 1998 تم تفكيكه لبناء كوبري جديد، واستمر على هذا الحال حتى تم الإعلان مؤخرا من قبل محافظة القاهرة عن تحويل الكوبري لمتحف، ومرسم مفتوحا للفنانين.

الكوبري الأعمى

وهناك أيضا كوبري الجلاء الذي كان معروفا عنه كوبري البحر الأعمى، حيث أنشئ عام 1872 ويقابل كوبري قصر النيل على الفرع الغربي للنهر، ويصل الجزيرة بالجيزة، وقد عرف عند إنشائه بكوبري الإنجليز، ثم اشتهر بكوبري بديعة؛ لأنه كان يقع بالقرب من كازينو بديعة مصابني، وبعد ثورة يوليو أطلقوا عليه كوبري الجلاء.

ويعد أيضا من الكباري المشهورة التي يلتقي فوقها الطلبة الذين يبحثون عن الحب والرومانسية في طريقهم إلى الجامعة.. وكأن كباري القاهرة شاهدة على كثير من قصص الحب الجميلة وحكايات الصداقة ومرفأ كبير لذكريات لا تنضب.

تصميمات رائعة

إلى ذلك، أكد د. محمد سمير، أستاذ الهندسة المعمارية، أن السبب في لجوء عدد كبير من المصريين لقضاء أوقاتهم فوق الكباري، ما تتميز به مواقع تلك الكباري والحالة الاقتصادية والزحام الشديد، التي اجتمعت معا لتكون سببا في هروب الكثير منهم إلى الهواء الطلق بعيدا عن المشاكل والاختناقات التي أصبحت أحد معالم القاهرة.

أوضح أن التصميمات التي نفذ بها عدد كبير من الكباري، منها كوبري قصر النيل، سبب رئيسي لتردد العديد عليه بما يحمله من طراز معماري فريد يبهر الناس بروعة تصميمه وغرابة بنائه واحتوائه على أشكال هندسية معقدة تم تصميها قبل أن تنتشر كليات الهندسة.

لكنه أشار إلى أن الحياة فوق الكباري تختلف تماما عن الحياة أسفلها حيث استغل العديد من الأهالي المساحات الفارغة أسفل الكباري التي تمر في مناطق حيوية لإقامة مشروعات تجارية بسيطة، فنجد باعة الورود والزهور والحلوى أسفل كوبريي قصر النيل و6 أكتوبر مباشرة. كذلك تقع ساقية عبد المنعم الصاوي التي تقدم خدمات ثقافية متنوعة وحفلات موسيقية للعديد من الفنانين أسفل كوبري 15 مايو بالزمالك.

Email