«ملائكة وشياطين».. صراع مثير يفتح ملفات «الفاتيكان» المغلقة

علاقة شائكة تلك التي تربط بين كل من الأدب والدين والسينما، وتثير الكثير من الجدل عند اقترانهم معًا، وتفتح أحياناً مجالاً للتراشق، الذي يبدو فيه الحوار متشدداً، رافضاً للخيال، وغير متسامح، ما يجعل المنع الطريق الوحيد أمام أي إبداع فني، مهما كان ما يتعرض له أو يطرحه.

وفى الوقت الذي يحجم فيه الكثيرون عن فتح هذه الأبواب، يندفع آخرون لفتحها دون خوف، وفى ظل توقع مسبق لكل أشكال الهجوم والانتقادات، حتى لو كانت تهديدات بالقتل كالتي تعرض لها المخرج رون هوارد، والنجم توم هانكس وطاقم فيلم (شفرة دافنشي)، عند تقديمه عام 2006.والمأخوذ عن رواية للكاتب الأميركي دان براون بالاسم ذاته أثارت جدلاً كبيراً، واتهامات بالتشكيك في صلب العقيدة المسيحية بادعاء زواج المسيح من مريم المجدلية وإنجابه منها، لكن ذلك لم يثن صناع الفيلم عن تقديم رواية (ملائكة وشياطين) للكاتب دان براون أيضاً، وبطاقم فيلم (شفرة دافنشي) نفسه.

وعلى رأسهم المخرج رون هوارد والنجم توم هانكس والمنتج برايان جريزر والسيناريست أكيفا غولدزمان، ليعطي ذلك إحساساً للمشاهدين بأن العمل جزء ثان متواصل مع أحداث الفيلم الأول، رغم أن رواية (ملائكة وشياطين) صدرت أولاً قبل رواية (شفرة دافنشي) عام 2000، وحققت مبيعات ضخمة في العالم، وقوبلت بهجوم من رجال الدين المسيحي، الذين اتهموا كاتبها بالتشكيك في صلب العقيدة المسيحية، والإساءة للمؤسسة الكنسية في الفاتيكان، واتهامها بأنها مؤسسة سلطوية.

وهذه المرة، تدور قصة فيلم (ملائكة وشياطين)، عن جماعة دينية مضادة للكنيسة اختفت من عصور تدعى المستنيرين أو (إيلومنتي)، تعود مرة أخرى بعد اختباء طويل لتنتقم من الكنيسة، وتقوم بعمليات قتل لأربعة من الكرادلة المرشحين لخلافة بابا الفاتيكان بعد وفاته، والتهديد بقتل واحد منهم كل ساعة.

وتفجير مقر الفاتيكان، بعد أن تكون قد أعلنت عن وجودها قبل ذلك بقتل عالم فيزياء يُدعي ليوناردو فيترا وتسرق منه اكتشافاً مدمراً، وتترك على أجسادهم جميعاً رموزاً معينة (الماء، والتراب، والهواء، والنار)، فيتم اللجوء إلى روبرت لانغدون ـ توم هانكس ـ عالم الرموز الشهير وبطل شفرة دافنشي، ليفك شفرات هذه الرموز.

ويتعقب المستنيرين في جميع أنحاء روما، في رحلة بحثية شاقة تقوده إلى أماكن عجيبة، متتبعاً تلك الرموز كي يواجه تلك المؤامرة الانتقامية، التي تهدف لتدمير الفاتيكان بأكمله، فثمة قنبلة تدق مدة 24 ساعة منذرة بكارثة، وهناك مطاردات وصراع مع الزمن، في الوقت الذي نشهد فيه اختيار البابا الجديد، وسط عمليات قتل وحشية للقساوسة المرشحين للمنصب.

ويتناول الفيلم، كما هو حال الرواية، الصراع الدائر في عصرنا الحالي بين مجموعة المستنيرين، وهي منظمة سرية يعود تأسيسها إلى عصر النهضة، والكنيسة الكاثوليكية. ويشرح دان براون في روايته أن العالِم الكبير غاليليو والفنان الباروكي بيرنيني كانا من أتباع هذه المنظمة السرية التي عانى أعضاؤها الأمرين بعد أن طردهم الفاتيكان من روما واضطهدهم بدون هوادة. وها هم يعودون للثأر بعد 400 سنة.

استلهم الكاتب أحداث روايته من نظريات مؤامرة عدة تُقدم (مجموعة المستنيرين) على أنها نخبة النخب، منظمة يكتنفها الغموض هدفها اختراق مراكز السلطة بغية إنشاء نظام عالمي جديد مبني على أساس علماني.

الفيلم بطولة توم هانكس، وايوان ماغريغور الذى يلعب دور كاميرلنغو الذي يتولى الكنيسة بعد موت البابا، ودافيد الفيري، وفرانكلين اموبي، وكورت لويننز، وبوب يركيز، ومارك فيوريني، وتشاركهم الممثلة الإسرائيلية ايليت زورير في دور فيتوريا فيتارا عالمة الفيزياء التي تحاول إبطال مفعول الاكتشاف المدمر.

وقد استعان المخرج رون هوارد والسيناريست أكيفا غولدزمان بكاتب آخر في السيناريو هو ديفيد كويب، الذي قدم من قبل فيلمي (النافذة السرية) و(غرفة الفزع)، ربما رغبة منهما في تطوير الإيقاع السينمائي للرواية، والخروج من مأزق السرد الحواري الذي أضعف كثيراً من المعالجة الفيلمية التي قدمت في فيلم (شفرة دافنشي).

ولمن لم يشاهد (شفرة دافنشي)، نستطيع القول إن البناء الدرامي يكاد يكون متطابقاً في الفيلمين، حيث الشخصية ذاتها للبروفيسور لانغدون، القادر على تحليل الرموز بعقلية علمية مستنيرة طوال الوقت، تجمع ما بين التفكير المنهجي القائم على خلفية تاريخية موثقة، وبين روح المخبر الأقرب إلى شيرلوك هولمز، يعاونه دوماً عنصر نسائي (في هذا الفيلم دكتورة في علم الفيزياء)، ما جعل حواراتهما أشبه بصعود دَرَج برج شاهق.

حيث تتصاعد المعلومات مع كل جملة حوار، وتبدو أكثر من الطاقة الاستيعابية لمتلقي السينما، الذي لا يملك رفاهية استعادة المعلومة، أو إعادة قراءتها مثل قارئ الكتاب، ومن هنا يصبح زخم المعلومات في السيناريو نقطة ضده وليست معه.

ولأن النص يعتمد على الدخول في جدل عميق مع فكرة الدين والعلم، فقد ساعدت المؤثرات البصرية على تجسيد العالمين، سواء من خلال شكل قنبلة المادة المضادة التي تهدد بتدمير الفاتيكان، أو مشهد انفجارها في السماء، بعد إلقاء الكاهن الشاب لها من الطائرة، حيث بدا هبوطه بالمظلة على خلفية الانفجار، في لقطة مقصودة ورائعة، وهي توجيه نظر عشرات الآلاف من المحتشدين في ميدان (بطرس) انتظاراً لاختيار البابا، وكأنه بالفعل ملاك قادم من السماء.

وكذلك طبيعة أحجام الكادرات وزوايا التصوير داخل أروقة الفاتيكان وكنائسه، حيث اللقطات الواسعة والزوايا، التي توحي بضخامة المكان بالمقارنة بحجم الإنسان الطبيعي، وبطء حركة الشخصيات داخل تلك الأروقة، بالمقارنة بإيقاع حركة الشخصيات الأخرى خارج أسوارها، وكلها إسقاطات بصرية على دلالة النص، التي تبدو فيها أفكار براون، فيما يخص وجهة نظره في الدين بشكل عام، ووبخاصة المسيحية الكاثوليكية.

وكما في (شفرة دافنشي)، توجد هنا شخصية القاتل الأيديولوجي، التي يمكن أن نعتبرها بحكم أسبقية (ملائكة وشياطين) في النشر، جذور شخصية الراهب الأشقر في (شفرة دافنشي)الذي يقتل في سبيل الرب، أما هنا فهي أكثر قرباً للقاتل المأجور، ولكن في إشارة إلى أن أيديولوجيته، تنبع من أن طلب القتل يأتي من رجل دين، فهو إذن قتل عن حق.

يتعمد كل من الكاتب دان براون والمخرج رون هوارد الخلط بين الحقيقة والخيال. فكما في (شفرة دافنشي) يؤكد الرجلان أن جزءًا من عملهما مستند إلى (حقائق تاريخية). لكن حينما تطرح الأسئلة، يختبئان خلف حجة أن العمل، ما هو إلا رواية. هذا النوع من الأعمال الأدبية مؤذٍ لأنه يلمح للجمهور، بأن ما قرأه أو شاهده قد يكون واقعيًا.

خلاصة القول، الجدل واقع لا محالة، رغم كون (ملائكة وشياطين) فيلم إثارة فيه مطاردة وصراع وبشر وقساوسة، بعضهم يمتلك صفات الملائكة والآخرين توضح خصالهم بأنهم شياطين. لكن مما لاشك فيه أن هذا العمل سبب بعضاً من الإزعاج لدى أوساط عديدة، لأنه فتح ملفات مغلقة بالفاتيكان يجهل معظم الناس وجودها.

دبي - أسامة عسل