رصد المعنى في وحشية الحداثة

«السعال الذي يتبع الضحك» ديوان جديد لعادل خزام

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في ديوانه الجديد «السعال الذي يتبع الضحك»، مزج الشاعر عادل خزام بين اليومي والعادي والمألوف بالوجودي والفلسفي واللامألوف. أرجح أسئلته العميقة على أمواج القلق الوجودي الذي تعيشه بلداننا بسبب الحداثة المفرطة التي تنبني مكوناتها على تطور يظهر على مستوى السطح ويغيب في أعماقه المعنى والهدف بما يفترض ان يلعبه التطور في حياة الإنسان.

فتسبق الحداثة قدرة المجتمعات على هضمها ومواكبتها بسبب وحشيتها المفرطة والآخذة بطريقها الإنسان الفرد ببرودة منمقة يصبح معه السعال الذي يتبع الضحك المفترض ان تسببه: «سعالا مؤلما»، لأن الضحك الوحيد المتوفر في حياتنا هو الآخر صار مؤلما باردا لا يعني في أحسن أحواله سوى القول الشائع حق: شر البلية ما يضحك!!

لغة شعرية عذبة بمفردات من الواقع اليومي المعاش، ترصد المعنى في الحياة والأشياء في غياب الذات أو في تغييبها أو انجرارها للانخراط في اليومي الرتيب مرغمة وخالية من اية إرادة على التغيير، لا سيما التغيير الذي يعمر الإنسان أولا ويبنيه ويحفظ كرامته الإنسانية.

نصوص شعرية لعادل خزام محملة بأثقال الحاضر القريب، وتداعياته التي تسحق الإنسان الفرد تحت وطأة التفاصيل المتسارعة للعولمة التي تتخذ في منطقتنا العربية أبعاداً بالغة التعقيد والتسارع تسحق أيضاً في سرعتها وإرباكها الحاجة الى التمهل والتأمل أو حتى السؤال: الى أين؟ وهو سؤال يشتبك بالقدر نفسه مع مفردات الهزيمة والخيبة والضياع التي سبقت سيوف العولمة وطيورها على السواء وتستمر معها لكن بثقل اشد.

ولا يجد الشاعر بدا من ان يبحث في هذا اللهاث اليومي وراء رغيف الخبز او ناطحات السحاب عن المعنى والجدوى فلا يجد نفسه الا مدفوعا الى حالة من اللامبالاة، يسائل الوقت والكلام ويكتفي بالهمس كالغريب: تتحنط الذات مثل «حجر في وجه حجر» (ص 56) ، ويحتار من انقسامه ذاتين (احتار في الأوطان نصفي فراق ونصفي طريق). ولا نعلم ان كان الندم يسائل خيار الشاعر حين قال:

عدت هنا تشفع لمن يا غريب؟

شرّحتك المنافي ضلعا ضلعا..

تقوس رأيك وتعاكست جهات وجهك. والأبد الذي تجاسرت عليه رماك أخيرا في بركة العدم. خذ قلبك اذن وتقدم. اطعن به في الغدر، ولا تمكث في مكان شرائك (ص57). فهل يتحدث شاعرنا هنا عن الغربة كخيار دفعه الى فك المنافي التي شرحته ضلعا ضلعا؟

ام ان كلماته توحي بتجربة مرّ بها الشاعر وان هو يشترك فيها مع غيره من الغرباء الذين ربما اعتقدوا قبل ان ينخرطوا في أتون الغربة الوجودية التي لا ترتبط بالمكان (او غربة الرغبة بالتغيير) ان بإمكانهم ان يحدثوا فرقا في هذا الكم الهائل من البؤس الإنساني الذي يسيج هذا العالم بما هو أشبه بالحصار،

فتهدر الكرامة الإنسانية عوض ان تزدهر وتعلو، الى ان يجدوا أنفسهم وشاعرنا منهم «في بركة العدم» فتنطفئ الشعلة ويتحولون الى بضاعة تشترى وتباع في سوق لا يتمكنون من مغادرته والرحيل فتصبح الغربة عن المكان قيدا يقبض على أرواحهم في مصير مشؤوم يشترك فيه المثقف العربي مع الانسان العادي. وفي زمن تتآكله الهزائم والمراهنات يجد الشاعر نفسه مثل:

(رجل واقف كانما في دائرة

أعطاني وصفي

وراح يتقلب في مراهنات المأساة).

لا ينفك الشاعر عادل خزام ينسل بنصوصه الشعرية من دائرة الى أخرى في ديوانه هذا كالخائر الحائر، ليصاب بدوار اليومي ويستسلم لدوار الطريق ويأخذنا الى موسيقى الدوار ولا نعرف إلى أين:

وانا امضي

من البيت الى العمل

من العمل الى البيت

داخلا.... خارجا

والموسيقى التافهة معي

تدور

وانا أدور.

أحببت هذا الجزء من الديوان ولا اعرف ان ثمة من يشاطرني الرأي، ولكن اعتقد حين تدون نقدك للمكان وتبوح به من خلال منتج إبداعي فإن المكان المنتقد نفسه يتخذ بعدا جماليا لقدرته على توليد العلاقة بينه وبين الإنسان مهما بلغ التنافر بينهما، فيسبغ المبدع على المكان من ذاته ويتصالح معه وتتحقق ذاتية كل منهما ليبلغ الفعل الثقافي الإبداعي مبلغه حين يعطي للأشياء المحيطة المقلقلة لوجوده شرعية وجودها.

اما الحنين الى الصحراء عند الشاعر خزام فهل يكون في التوق الى ماض لا يحيا تذروه الرياح (من هنا مرّوا/كتبوا سيرة الترحال على رمال الصبر وغابوا/كانت الريح عروسهم في المدى الأصفر/ والبدر ظلّ الوضوح/ والنار شمعة الحنين الى البعيد/ لا اثر يدّل عليهم سوى التلاشي/ هنا.. / كل حبة رمل أغنية وجود).

ام يفقد الصلة مع الحاضر والآن بحيث يمسي كمن ليس له اب او أصل معلوم كما اليتيم:

«انا يتيم النبع. قال الآدمي الجاف فلأسكن الصحارى إذن فلتكن الصخرة مخدة الجريح/ ولتكن الغيمة خيمة الأبد... لماذا أخاف من الجهات ووجهي ليس مرآة/ على الرمل، هنا/ افلق النقطة تحت باء الباس/ يائسا من الركض في مداورات المعنى/ حيث الزمان ينعكس في مرآة ورائي/ وأظن أني سأكسرها/ محررا جميع الظلال من تبعيتها للشمس».

هل هو هاجس فقدان الانتماء ام المعنى (يائسا من الركض في مداورات المعنى) ام لذة العيش في اللا انتماء (لماذا أخاف من الجهات ووجهي ليس مرآة) بحيث يحررنا من قيد الماضي ووهم الحاضر وقلق المستقبل. هل يصبح تحقيق الذات وتوكيد وجودها عند عادل خزام هو التحرر من عبء الانتماء بالاستسلام له(انا يتيم النبع/ فلأسكن لصحارى اذن/ ولتكن الغيمة خيمة الأبد) ،

ام هو الخروج على قوانين الطبيعة حينا وتحرير الظلال من تبعيتها للشمس ؟ ربما ليكتب الشاعر من اللابداية «عندما تعرت الصحراء أمام الشمس» وعندما قال العربي: «انا المسافر في بحر الذهب هذا/ ثم راح يغني في ظهيرة الهلاك» كقدر محتوم يراه الشاعر ويسير اليه مستسلما «متلذذا وهو يدخل من بوابة الكون الشاسعة / كي يرى اللانهاية/ وكي ينقش اسمه/ بأثر زائل».

هل يمكن ان يكون الهلاك وموت الانتماء شاعريا؟ ربما هو كذلك عند عادل خزام ! اقصد ذلك ام لم يقصده وربما ليس هذا بيت القصيد، بل تلك الروح التي تستسلم بالتمرد على الذات بعدما فقدت الأشياء والحياة معناها كما فقدت الرغبة في العيش وفق ما نشتهي ونحلم أمرا محالا، كأننا نسير الى أقدارنا ونحن نيام! او كان العيش وفق مزاجية الرياح وبمواجهة صلفها هو في الانحناء لها ولعبثيتها الدائمة لا سيما في بلاد لا تدعك طبيعتها ان تترك لنفسك ادنى اثر.

أجاد الزميل الشاعر عادل خزام واستطيع القول انه فاجأني بهذا الديوان ان لجهة الصور الشعرية ام لجهة الجرأة في طرح أعمق الأسئلة التي يطرحها الإنسان العربي وربما الأممي على نفسه «مجددا» بحثا عن وجوده الذاتي كفرد وكانسان، من خلال شعرية اليومي وشاعريته رغم مفردات هذا اليومي «الباردة» وموسيقية هذا المنثور الرائقة والمرهفة في الكثير من المواضع.

واعتقد ان هذه مجازفة شعرية بامتياز أصاب فيها خزام في أكثر من موضع لا تتسع هذه العجالة لها، وان كنا مطمئنين ان ديوانه الجديد هذا «السعال الذي يتبع الضحك» يحتمل العديد من القراءات، لا سيما انه يضيف للتجربة الشعرية الإماراتية خصوصا والخليجية عموما بل والعربية أيضا في مجال الشعر المنثور فتحا جديدا ونكهة جديدة لها ذائقة شديدة الفرادة.

بقلم: سامية عيسى

Email