الكتلة والفراغ

من المعروف والمسلم به، ان الفراغ عامل ضروري لكتلة البناء، فهو يبرزها ويؤكدها ككتلة، ويوفر الشروط الصحية لقاطنها. ولكي تتحقق العمارة بشكلها الأمثل، لابد من عملية تنظيم وترتيب لمحيطها.

كذلك الحال مع فن النحت، فهو كتلة في فراغ، وفراغ يحيط بكتلة، ولكي يأخذ وجوده المعبر والصحيح، وتتأكد قيمه التشكيلية والفنية، لابد له من محيط منظم ومرتب ومدروس. والعمارة هي أهم وأبرز ضروب الفنون الجميلة، وفن النحت أحد أبرز وأهم ضروب الفنون التشيكلية التي تنحدر بدورها من صلب الفنون الجميلة.

إذاً فن العمارة وفن النحت ينتميان إلى أسرة واحدة هي «الفنون الجميلة» والفنان بحاجة ماسة للفراغ المناسب ليتأكد حضورهما، وتبرز قيمتها التشكيلية والتعبيرية.

بدأت العمارة حاجة مادية محدودة للإنسان، كانت بسيطة. عفوية، ومنفذة من المواد المتوفرة في بيئتها. كذلك النحت. بدأ حاجة تعبيرية بسيطة للإنسان، ثم تطور ليتحول إلى لغة إبداعية رفيعة. كذلك العمارة، سرعان ما تصعدت كقيمة نفعية استخدامية، لتأخذ قيما جديدة فنية وتعبيرية رفيعة. بل لقد جاءت بعض نماذجها لتشكل معلما فنيا حضاريا مهماً، لما تضمنته من صنعة متقنة وتصميم مبتكر، وفنون غاية في الروعة والجمال.

يرى علم الجمال الماركسي اللينيني ان العمل الفني المعماري، يختلف اختلافا نوعيا عن البناء النفعي، ولعل أهم ما في العمارة الصورة التعبيرية، ومحاكاة مواقع حياة البشر وعملهم وراحتهم، بشكل يعبر عن أحاسيسهم ونوازعهم، والعمارة قادرة على التعبير عن الحرية، والعظمة، والأبهة والانفتاح، الوضوح، الزهد، الصراحة، الانطلاق، الخفة، الرشاقة وغيرها من الأحاسيس. والمنشأة المعمارية كالنغمة، أو اللون، أو الكلمة.

يجب ان تشكل مع ما حولها، وضعا منسجماً وجميلا. على هذا الأساس. من الخطأ الفادح ان نخطط لإقامة سكن مفيد وصحي ولا نهدف لأن يكون هذا السكن مريحا وجميلاً في الوقت نفسه. أي أن يكون منسجماً كوظيفة استعمالية وكوظيفة تعبيرية.

من هنا، أكد لنا التاريخ، أنه لا سبيل مطلقا لتقدم وإحياء فن العمارة إلا بتعانقه مع الفنون التشكيلية من جديد، وبالتحديد مع فن النحت، حتى تعود للعمارة روحانيتها ويقف المهندس على قيمها الحقيقية.

وقد أوصت جميع المؤتمرات الدولية التي بحثت في وسائل النهوض بالفنون التشكيلية الحديثة ونشرها وإنعاشها اجتماعياً، أوصت بالاهتمام بالفنون التشكيلية الحديثة ونشرها ضمن التصميمات المعمارية، وقد قامت في العصر الحديث تجربة رائدة في هذا المجال، قادها المعماري (لوكوربوزيه) ظهرت نتائجها بشكل واضح في المكسيك والبرازيل.

وقد أكدت لنا هذه التجربة الرائدة هذه القاعدة وذلك بمحاولتها ضم عائلة الفنون الجميلة إلى بعضها ضماناً لخلق فن جديد كبير متكامل، انطلاقاً من المفهوم السابق، ومن واقع تاريخ الفن وقيمه، على هذا الأساس، يمكن القول بأن العمارة يمكن أن تكون كتلة نحتية جميلة في الفراغ.