يتحسر على الأحلام المسرحية التي لم تتحقق في العراق

عوني كرومي : تمردت على ذاتي وليس على الآخرين

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما احتفى به بيت بريخت المسرحي في العاصمة الألمانية برلين باعتباره شخصية مسرحية على درجة كبيرة من الخصوصية والتفرد، كان ينظر إلى رحلته الطويلة مع المسرح والتي تجاوز عمرها الآن الأربعين عاماً، رحلة صار فيها المسرح المعادل الموضوعي للحياة.

والمكان الذي يعاد فيه خلق الأحلام، والأفكار التي فتتها الواقع السياسي والاجتماعي العربي، ومع هذا المسرح تحول منفاه إلى نقطة ارتكاز وفسحة لجملة من الجهود المسرحية الأكاديمية والبحثية، والعملية .

وان كان يروق له اليوم ان ينعت نفسه بالعجوز، فإن النشاط الذي يتمتع به، والذي يجعله وجهاً لا يغيب عن المهرجانات، والملتقيات المسرحية حول العالم، تؤكد الطاقة الداخلية الكبيرة التي يتمتع بها، وتجسد تماماً اللقب الذي منح له «وسيط للثقافات».

ومن هنا فإن الحديث مع المسرحي العراقي الدكتور عوني كرومي عن المسرح، هو حديث يطول وتصير معه فكرة الحوار المألوف صحفياً فكرة فيها الكثير من الإجحاف بحق مسيرة تدنوا من يوبيلها الفضي، تقوم على جملة من التفاصيل، التي يصعب الإلمام بها لغياب التوثيق.

ولعدم قدرته على تذكرها، لكن تبقى الخطوط العامة، والنتائج مساحة مغرية لتبادل أطراف الحديث، الذي سرعان ما ينقطع من تداخل الأحاديث الجانبية، وحركته التي لا تتوقف، والسجائر التي عليك ان تشعلها له، سجائر لا تنطفئ، وكأنه يخفي فيها قلقاً داخلياً متقداً.

ولذلك فإن أفضل الأوقات للاختلاء به، لابد ان يكون آخر الليل الذي لا ينام فيه أكثر من بضع ساعات، وأول النهار الذي يبدأه باكراً جداً وعلى فمه كلمة مستمرة ألا وهي التجديد والتغيير، فالمسرح وكما يعتبر مساحة لكسر القداسة وعلى اختلاف أنواعها.

وكل هذه التركة المرعبة من النظريات والتنظير في المسرح لابد من العمل على إعادة قراءتها وفهمها وفقاً لمقاييس المرحلة التي نعيشها، لا يحق لأحد ان يوقف مسيرة المسرح واستمراريته او قولبته، لصالح فكرة او نظرية.

وما دمنا نسعى من خلال المسرح إلى حالة من الصدقية والمعايشة فلابد لهذا الأمر من عملية بحث مستمرة واشتغال نحو وسائل جديدة لتحقيق ذلك نحو خلق توازن بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان ونفسه.

حين تحاول العودة بعوني كرومي إلى الماضي قليلاً فإنه سرعان ما يقفز الى الطفولة، وحين تشده إلى الأمام يتحسر على كل الاحلام المسرحية، التي لم تتحقق في العراق، خاصة بعد عودته ومجموعة من المسرحيينةبعد حصولهم على شهادات الدكتوراه من أهم الجامعات الأوروبية.

وحين تضع له مارسيل خليفة وهو يغني احدى قصائد طلال حيدر وخاصة المعروفة باسم «ركوة عرب» يصمت ثم يقول «بعد هذه التجربة الطويلة مع العمل المسرحي أحس أني متأثر بكل أشكال المسرح الشعبي والتراث الأدبي، وأشعر أن عملية التداخل مع هذا التراث ومشاكسة كل هذا التراكم التاريخي من الأمور المغرية جداً.

والمفيدة للخروج بنتائج مسرحية ذات خصوصية متفردة في مسرحنا المعاصر، هذه الخصوصية ترهقني منذ مطلع الستينات، حيث كنت ولا أزال أبحث عن التجديد والتجدد والتمرد ليس على ما يعرفه الآخرون. بل على ما أعرفه أنا شخصياً، كثيراً ما وجدت نفسي منشغلاً في ايجاد صياغات مسرحية وبصرية مبتكرة وتمتلك في نهاية المطاف لشرعية وجودها واستمرارها، ولا أن تموت بعد عرضها مباشرة.

يسألني كرومي عن فيروز، فالجبال تذكره دائماً بها، فهذه الفنانة استطاعت نقل الجبال والريف إلى المدينة، نسجت تفاصيل حياة الريف، بالنسخ اليومي لحياة المدينة القاسية والصاخبة.

ويرى أن محاولات مسرحية عربية كثيرة حاولت ذلك، عبر ما يسمى بالمسرح الاحتفالي المرتبط أساساً بالثقافة الريفية، التي أخذت فيما بعد قالب التمدن، لقد أراد العديد من المسرحيين.

والذين تنتمي شريحة واسعة منهم إلى الأرياف التعويض عبر هذا الاتجاه المسرحي عن الافتقادات التي عاشوها في المدن، وعن الغربة المزدوجة التي كانوا يعانون منها.

وكما يرى كرومي فإن لعبة المسرح تبدأ من هنا، لأنها في نهاية المطاف هي صراع وجود، وبحث عن صياغات جديدة للحياة التي نعيشها، عبر الدخول في مغامرة عقلية، قائمة على نسيان الماضي، بخبراته وذهنية، نحو واقع جديد تجتمع فيه كل هذه العناصر وتمتزج فيه الذاكرة الجمعية، وليست الفردية، لأن السقوط فيها يؤدي إلى نهاية مأساوية حتمية.

على مدى جلسات متفرقة جمعتني بعوني كرومي لم استطع الحصول منه على جواب حاسم حول رؤيته للمسرح العربي حالياً، والعراقي بصورة خاصة الذي يثير لديه الكثير من الحسرة، فهو وكما قال غير مطلع على العمل المسرحي من داخل العراق.

وكل ما سيشاهده هو من خلال المهرجانات، إلا أن ثمة صورة مبهرة لقدرة هذا المسرح على الاستمرار والعمل والعطاء، رغم كل الظروف القسرية التي مر بها ولا يزال، واعتبر أن وجود أعمال مسرحية جادة وذهاب العراقيين لحضور الأعمال المسرحية هو تأكيد على تمسكهم بالحياة.

وأن المسرح العربي بصورته العامة تقع على عاتقه مسؤوليات كبيرة وخاصة في هذه المرحلة التي تسود فيها التفاهة والسطحية، وانعدام الرؤية العميقة للتغيرات والتحوُّلات التي يشهدها العالم، وتنعكس على واقعنا اليومي.

والمستقبلي، قد يكون الواقع مجحفاً بحق المسرح لأنه مرتبط عضوياً بتوافر الديمقراطية وطموح الإنسان إلى الغنى المعرفي والثقافي، وأزمة الديمقراطية ليست أزمة قطرية عربية ومحلية، بل هي تكبر لتصير أزمة عالمية، خاصة ان العولمة تسعى بكل قوتها لترويج نوع من الثقافة الرخيصة المتعلقة بالاستهلاك والسطحية.

بين «ترنيمة الكرسي الهزاز» هذا العمل القديم الذي لفت الأنظار إلى شخصية مسرحية تحاول اقتراح العديد من الأنماط الفنية الجديدة على خشبة المسرح، بين هذا العمل واليوم مسافة زمنية طويلة، والكثير الكثير من الأعمال والمساهمات التي جعلت من هذا الذي يحب أن يلقب نفسه بالعجوز، عنصراً أساسياً في الحراك الثقافي العربي.

وعضواً فاعلاً فيه بالرغم من المسافة الجغرافية التي تفصله عنه لكنه يؤمن بأن المسرح الحقيقي هو الجواب الجوهري عن أسئلة العصر الراهن، وهو الذي يحمل في عمقه الطاقة المثلى للحوار والتفاهم، وهو الذي يحقق الدهشة وينتصر للقيم السامية.

حازم سليمان

Email