في عرضه المسرحي "حمام بغدادي"

جواد الأسدي يقود شخصياته إلى آلام الراهن

ت + ت - الحجم الطبيعي

ضوء شحيح، أبخرة تصبغ الرؤية بالضباب، وشقيقان يتجاذبان أطراف الحديث، وعبر دفق الكلام ترتسم مأساة وطن هدّه القمع وخرّبه الاحتلال، ومع انسياب الصور تنهض الأسئلة الجارحة، وتلقي بظلالها على أوطان أخرى سوف تعبر ذات المحرقة مع اختلاف التسميات...

هكذا أراد المخرج العراقي جواد الأسدي أن يلتقي جمهوره السوري بعد طول غياب في عرضه المسرحي الجديد »حمام بغدادي« الذي يُقدم حاليا على مسرح الحمراء بدمشق ضمن عروض فرقة المسرح التجريبي.

وجواد أحد أهم المخرجين العرب الذين عملوا في إطار المسرح السوري، ورفدوه بأهم التجارب منذ أواخر السبعينات وحتى أواسط التسعينات، قبل أن يغادر إلى بلدان أخرى، وينال جائزة الأمير كلاوس عام 2004.

في عرضه الحالي يلتقط المؤلف المخرج جواد راهن العراق محمولا على الأحداث النفسية، وموزعا ما بين مكانين غريبين هما الحمام والحدود العراقية الأردنية، حيث تبدأ القصة.

وتنتهي في حمام بغدادي ملوث المياه يفتح أبوابه ما بين دويّ انفجار وآخر، وتتوالى التفاصيل والصراعات في سياق حوار تتقاسمه شخصيتان رمزيتان متناقضتان في كل شيء، إحداهما تمثّل المواطن المستباح.

والثانية تمثّل السلطة الأبوية بأبشع صورها، ما يمهد الطريق أمام عرض معاصر جديد الأدوات والحوامل، يتأسس ويتجذر في الواقع، لكنه ينضج ويكتمل عبر الروامز والفن.

الحوار الدائر بين الشخصين في الحمام يكشف أنهما شقيقان يعملان سائقي أجرة ما بين العراق والأردن: الأصغر حمود (نضال سيجري) شخص استلبه القمع وأعجزه الذعر، لكن حسه الوطني الفطري مازال يرفض واقع الاحتلال والتعاون مع رموزه وممثليه.

ما يجعله في عوز وتبعية دائمة لأخيه الأكبر مجيد (فايز قزق) وهو شخص ميكيافيلي بامتياز جاهز دوما للتحالف مع الشيطان من أجل تأمين ملذاته ومصالحه الشخصية دون أي اعتبار لقيم أو مشاعر وطنية.

والحوار المتوتر المتماسك ما بين هذين النقيضين، والمتناوب ما بين الفصحى والعامية العراقية، الذي يعبر مسلك المونولوجات الداخلية الانفرادية في بعض الأحيان، الحوار يرتد نحو الماضي.

ويعود إلى الحاضر ويذهب باتجاه المستقبل في حركة دؤوبة تحفر عميقا في أسئلة العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم، وتكشف عن أمراض المجتمع الأبوي والاستبداد، ترسم صور طفولة وفتوة معذبة قضاها الشقيق الأصغر.

ومشاهد انحلال خلقي عاشها الأكبر، ترسم محطات للخوف في مواجهة رجال الأمن، الخراب العام وضياع المعنى الإنساني من حياة باتت عاطلة ومشوهة بكل تفاصيلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

بؤرة الخلاف في الحوار التي تفجّر الجدل والذاكرة والصراع بين الشقيقين، هي محاولة مجيد إقناع حمود بمساعدته في نقل شخصية سياسية عراقية هامة من الأردن كي تترشح في الانتخابات لقاء مبلغ مالي كبير.

وفي النهاية يوافق الشقيق الأصغر على خيانة قناعاته والقبول بالعملية، وإذا كان الحمام هو مكان الحوار، فإن الحدود العراقية الأردنية هي مكان الحدث الأساسي في العرض الذي يتمثل بموت المرشح الفجائي، وانفجار جثته الذي يودي ببصر مجيد.

طبعا سخّر جواد كل عناصر العرض المسرحي للامساك بالحالة المعقدة التي اقترحها، وإيجاد معادلات موازية تنقلها من إطار اليومي إلى إطار الفن، فالمكياج والزي المهلهل (تصميم سهى حيدر) عملا على تكريس ملامح البنية النفسية المشوهة لكلا الشخصين.

والإضاءة العامة أو الموزعة في بؤر التي صممها ماهر هربش لعبت دورا دراميا مساعدا لإبراز الانفعالات والعوالم الداخلية، والموسيقى التي ألفها رعد خلف شحنت الجو بمزيد من التوتر.

إضافة إلى رسوم جبر علوان المعبرة عن الموت، التي احتلت خلفية المشهد، لكن وقبل أي عنصر آخر كان الأداء التمثيلي المتقن والمتناغم المشحون بالقلق والانفعالات الداخلية التي انعكست في تهدجات الصوت وتعبيرات الجسد والوجه.

الأداء الذي تناوب بين صوت آمر عميق وحركة واثقة جسدها الشقيق الأكبر، وصوت خفيض مضطرب وحركة خائفة مثّلها الشقيق الأصغر، بحيث تبلور ما يشبه التيار الداخلي بين قطبين متنافرين، كان بمثابة الحامل الحي لحركة مستمرة.

وإيقاع تصاعدي احتدمت في ظله مفردات الصراع الدرامي، أو كما قال جواد الأسدي: »هي شخصيات عراقية، تحتفي بالوجع، وتصنع منه إكليلا من النار، هموم مترمدة وجدت مساربها عبر أرواح فايز قزق ونضال سيجري في رغبة حميمة ونقية لإشاعة فن الحياة العذب«.

‏تهامة الجندي

Email