«أم النذور» رواية لعبد الرحمن منيف تطبع للمرة الأولى

سيرة طفل يعانق أسرار الحياة ببراءة وقلق

ت + ت - الحجم الطبيعي

«أم النذور» هي رواية للروائي الراحل عبد الرحمن منيف تنشر للمرة الأولى(2005م) عن طريق داري النشر:(المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، و(المركز الثقافي العربي) في كل من بيروت والدار البيضاء، لكن تاريخ كتابتها يعود إلى العام 1970 كما تشير الصفحة الأخيرة من الرواية.

وتؤكده سعاد منيف إذ تكتب في استهلال مختزل «في عام 1970 كتبت أم النذور مع الأعمال الأخرى التي هي (الأشجار واغتيال مرزوق)، و(قصة حب مجوسية)، و(حين تركنا الجسر)، و(شرق المتوسط) وكان الحظ الأوفر للنشر لتلك الأعمال، وأجلت أم النذور مرة بعد أخرى، إلى أن أعاد قراءتها في الفترة الأخيرة، دون أي تعديل أو ملاحظة عازما على نشرها، ولكن...»، وما يلي (لكن) وسكتت عنه زوجة الروائي، هو ان منيف قد رحل دون أن يتمكن من نشر العمل.

تنطوي سيرة عبد الرحمن منيف على تراجيديا مؤلمة، وعلى خيبات كثيرة لم يستطع التغلب عليها سوى بالكتابة الجارحة، الصادقة ما دفع بالناقد الفلسطيني فيصل دراج إلى وصفه بـ «الرومانسي النظيف». هي رحلة طويلة من الكتابة، والشقاء، والمنفى آثر خلالها منيف أن يقدم نصا روائيا بعيدا عن الخضوع لأي سلطة كانت سوى سلطة المعرفة التي تستمد حقائقها المؤلمة من الواقع بكل آلامه وأحلامه ورغباته،

هذا الواقع شكل معينا خصبا لمنيف الذي ولد لأب من قرية قصيباء ،من أعمال القصيم في وسط نجد في المملكة العربية السعودية، وبعد هجرته ضمن إحدى القوافل البدوية إلى بلاد الشام، ورحيل متكرر بين نجد والشام، استقر (الأب) إبراهيم منيف في الأردن، فولد له فيه آخر أبنائه الذكور (عبد الرحمن) في العام 1933، وبعد ثلاث سنوات توفي الأب..

درس عبد الرحمن منيف في كتّاب في جبل عمان، ثم التحق بالمدرسة العبدلية الحكومية، وفي عام 1952، أنهى منيف دراسته الثانوية، ليلتحق بكلية الحقوق في جامعة بغداد، ثم يواصل دراسته في القاهرة، وبعدها يحصل على الدكتوراه في اقتصاديات النفط من جامعة بلغراد في يوغسلافيا.

عمل عبد الرحمن منيف في عدد من شركات وزارة النفط السورية، ثم في صحافة بيروت منتصف السبعينات، قبل أن يعود إلى بغداد ليصدر مجلة»النفط والتنمية»، إضافة إلى عدة كتب اقتصادية منها: (البترول العربي: مشاركة أم تأميم)، و(الديمقراطية أولاً)...ثم غادر العراق إلى باريس عام 1981 وتفرغ، بشكل كامل، للكتابة، وعاد إلى دمشق 1986 وبقي فيها حتى وفاته في 24 يناير 2004 م.

صدر له العديد من الروايات منها: (الأشجار واغتيال مرزوق) 1973، (قصة حب مجوسية) 1974، (شرق المتوسط) 1975، (حين تركنا الجسر) 1979، (النهايات)، (سباق المسافات الطويلة) 1979، (عالم بلا خرائط) كتبت بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا، 1982، خماسية (مدن الملح) وهي أضخم رواية عربية وتضم: (التيه) 1984، (الأخدود) 1985، (تقاسيم الليل والنهار) 1989،

(المنبت) 1989، (بادية الظلمات) 1989، وبعد هذه الخماسية أصدر (الآن هنا أو شرق المتوسط من جديد) 1991، وثلاثية (ارض السواد) 1999.. كما صدرت لمنيف مؤلفات في فن الرواية...وصدر عنه الكثير من المؤلفات أهمها: (ترحال الطائر النبيل) للباحث السعودي محمد القشعمي الذي يحوي فصلاً كاملاً بعنوان: (منيف في آثار الدارسين) يرصد أهم الأبحاث والرسائل الجامعية التي أعدت حوله...حاز الروائي الكبير على جائزة سلطان العويس الثقافية للرواية عام 1989،

وعلى جائزة القاهرة للإبداع الروائي التي منحت للمرة الأولى عام 1998م. في روايته «أم النذور» يرصد عبد الرحمن منيف، بغنائية عذبة، عوالم طفل يعانق ألغاز الحياة وأسرارها، للمرة الأولى، بكثير من القلق والحيرة والخوف. فبطل الرواية سامح يجد نفسه في مواجهة الحياة، دون إرادة منه.

يجد نفسه في الكتّاب وبين يدي الشيخ زكي الذي يعلم الأطفال ولا يعرف شيئاً في هذا العالم سوى الشتائم والضرب، ومحاولة إخضاع الصغار بالقوة والعنف، ولأن معارف الطفل البريئة لا تسعفه على تفسير هذا السلوك العنيف فإن شيئا غامضا في داخله يدفعه إلى التمرد ورفض الخضوع للأوامر التي تصدر إليه إذ يثور على الشيخ، ويهرب من الكتّاب، ويمرض، ليحقق، إثر هذه التجربة القاسية، رغبته في الدخول إلى مدرسة حكومية بدلا من الكتّاب التي شكلت هاجسا مقلقا له منذ اليوم الأول لرؤيته للشيخ المستبد.

تشير سيرة عبد الرحمن منيف إلى انه درس، أيضا، في الكتّاب ثم انتقل إلى مدرسة حكومية، ولئن تقاطعت السيرتان: سيرة الطفل في الرواية وسيرة عبد الرحمن منيف في الحياة، فإن ذلك لا يعني أن الرواية سيرة ذاتية حرفية عن طفولة الكاتب بل هي سيرة نموذجية قد تتشابه مع سير أطفال كثر فتحوا أعينهم على واقع يمور بالصخب والمصائر المجهولة، والأقدار العمياء دون أن تكون لديهم إجابة مقنعة عن الموت والظلم، عن الجنة والنار، عن الحزن الدفين، وقلق الليالي...

وأمور أخرى كثيرة تختزنها تلك الأسئلة المقلقة المستمرة التي يطرحها الأطفال على أبويهم.لم يكن لدى الطفل مفاتيح لمعرفة معاني مفردات غامضة لطالما سمعها من أفراد أسرته: أم النذور الشجرة المقدسة المباركة، التكية والشيخ مجيب الذي يحقق الأمنيات ويشفي من الأمراض ويعيد الغائبين، الشيخ درويش الذي يحكى عنه أساطير كثيرة، الشيخ صالح المتخصص في غسل ودفن الموتى، سالم اليماني السكير المتسامح المعدم، الحاج نعيمة التي تكتب الرقى أو تحضر الأدوية المرة كالعلقم...

وغيرها من الأسماء والأمكنة التي تشكل ملامح المدينة التي يسكنها سامح الذي يعاني من خوف شديد في عالم يخضع أفراده لقوى غامضة، ولأساطير، ولأوهام تجعلهم عاجزين عن المواجهة. هذه الثوابت المكرسة منذ سنوات وسنوات في الحي الذي نشأ فيه سامح وأخوته هي التي يتمرد عليها ويطرح أسئلة بشأنها ويسعى لأن يكون مختلفا عن أترابه.

إن هذه الرواية التي تزين صفحاتها الداخلية رسومات للفنان التشكيلي مروان قصاب باشي، والتي تجري أحداثها في مدينة مجهولة لا يسميها منيف تعيد إلى الأذهان الكثير من المعتقدات الشائعة في المجتمعات العربية، فترى الكثير يلجأون إلى السحرة والمشعوذين ويزورون أضرحة الأولياء لتستجاب أمانيهم، وهي في مجملها خرافات وأوهام، فالطفل سامح الذي شعر بالاستياء والغضب من تصرفات الشيخ زكي وعصاه اللعينة لجأ، بدوره، إلى «أم النذور» الشجرة المقدسة وربط خرقة على أغصانها

متمنيا أن يكسر الشيخ مجيب الذي يلبي الأماني، بحسب المعتقدات، عصا الشيخ زكي غير أن شيئا من ذلك لم يحدث، وهو ما أثار مزيدا من القلق في أروقة الطفولة البيضاء التي لا تفهم ما يحدث حولها لكنها تنساق وراء نداء سري تقودها إلى الشغب والتمرد. الرواية التي تصوغ عالما من الأحلام والصور تملأ مخيلة الطفل الغضة، تروى بضمير الغائب حينا، وبضمير المتكلم أحيانا، وهي مكتوبة بلغة سلسة شفافة، وفيها وصف جميل للجوامع، والبيوت، والتكايا، وأشجار الدلب الضخمة،

والنهر الذي يمر بالمدينة وغيرها من الأماكن، والمعالم التي توجد في المدينة التي قد تكون عمان أو دمشق...وتتبدى براعة منيف في قدرته على الدخول إلى أذهان الطفل، وتحليل دوافعه الغامضة التي تحيل كل شيء إلى أمنية واحدة هي: «أن يكون حرا» دون أن تعني له هذه المفردة السحرية شيئا سوى حرية السير والبكاء والأكل ورؤية الشمس الغاربة...ينجح منيف في رصد هذا القلق الداخلي الذي يشعر به الطفل، ويرسم في سرد آسر الأحلام التي يراها في نومه،

ويستفيض في الحديث عن عالم الطفل البريء الذي قذفته الحياة إلى بحارها العميقة دون أن تعلمه أبجدية التواصل. هي رواية تسلط الضوء على تلك الجوانب الغامضة والمظلمة في دواخل طفل يخطو خطواته الأولى نحو عالم غامض ملتبس لا يقدم للوافد الجديد سوى المزيد من الحيرة والشك والعذاب. وهي تذكرنا برواية الأيام لطه حسين مع فارق ان طه حسين كان مندفعا إلى الكتّاب ومتحمسا له، في حين أن الكتّاب لدى الطفل سامح هو بمثابة سجن كبير لا يمكنه تحمل عذاباته.

سئل منيف ذات مرة: «هل للكتابة من معنى في هذا الزمن؟ أجاب: الكتابة النزيهة مثل قطرة الماء، تبدو لا شأن لها، غير أن في اجتهاد قطرة الماء المتتابعة ما يفتت الصخر بعد زمن. الكتابة لها أظافر، إنها «تخرمش»، وقد تجرح أحيانا. والأساسي هو مدى الإيمان الذي نمارس به الكتابة وعمق الإيمان الذي نضعه فيها». تلك هي القناعة التي حملها منيف في تجربته الإبداعية لذلك لم يكن اسما عاديا وعابرا في المشهد الثقافي العربي،

بل كان مثالا لأديب ملتزم، وحالم عاش متنقلا من منفى إلى منفى باحثا عن وطن جميل بين سطور الكلمات التي يخطها، ولم يكن ينحني أمام أي إغراء، وآلف دائما بين القول والممارسة إذ لم تكن في قاموسه كلمة اسمها «المساومة»، بل ظل على الدوام رجلا عصاميا وأديبا مقتدرا فرض احترامه وحضوره على كل من يقدس الحرف، ويقدر وهج الإبداع.

إبراهيم حاج عبدي

Email