رهبان الليل.. فرسان النهار

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 26 رمضان 1423 هـ الموافق 1 ديسمبر 2002 جاء جبريل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يامحمد عش ما شئت فانك ميت واعمل ما شئت فانك مجزى به، واحبب من شئت فانك مفارقه، واعلم ان شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس». وعن ابي الدرداء رضى الله عنه قال: «ثلاثة يحبهم الله، ويضحك اليهم ويستبشر بهم: الذي اذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فاما ان يقتل او ينصره الله عز وجل فيقول: انظروا الى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه». والذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن فيقوم من الليل فيقول: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد». والذي اذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا فقام من السحر في ضراء وسراء. لقد اشار القرآن الكريم الى حال هؤلاء الابرار مع ربهم، الذين استحقوا عليها هذا الحب والرضوان فقال: «الذين يقولون ربنا اننا امنا، فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار، الصابرين والصادقين، والقانتين، والمنفقين والمستغفرين بالاسحار. آل عمران آية 16 ـ 17. ففي هذا التوجه الخالص ما ينم عن حقيقة قلوبهم وتقواهم واخلاصهم وتجردهم واستحضارهم للآخرة والانابة اليها، والتجافي عن دار الغرور والعزوف عنها. وفي كل صفة من صفاتهم تتحقق فيها حياة الانسانية. ففي الصبر ترفع على الألم واستعلاء على الشكوى، وثبات على تكاليف الدعوة، واداء لتكاليف الحق، وتسليم لله واستسلام لما يريد بهم من الأمر، وقبول لحكمه ورضاه. وفي الصدق اعتزاز بالحق خالق الوجود، وترفع عن الضعف، فما الكذب الا ضعف عن كلمة الحق واتقاء لضرر أو اجتلاب لمنفعة. وفي القنوت لله اداء لحق الخالق الوهاب جل شأنه، وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت للواحد الذي لا قنوت لسواه. وفي الانفاق تحرر من استذلال المال وانفلات من ربقة الشح، واعلاء لحقيقة الاخوة الانسانية على شهوة حب المال والتكافل بين الناس. والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقى ظلالا ندية عميقة، ولفظة الاسحار ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر، التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن، وتصفو فيها النفس، فاذا انضمت اليها صورة الاستغفار وتلاقت روح الانسانية بروح الكون في الاتجاه لباريء الكون والانسان وصلت لما تصبو اليه. اين نحن من هؤلاء الابرار؟ وهل لنا عذر في تخلفنا عن هذا الركب الميمون؟ واخذنا لهذا الزاد الطيب؟ انه في مقدورنا وامكاننا، فلا نحرم انفسنا منه، ونضيع اعمارنا ونحن نلهث وراء السراب، بل يجب ان يكون واقع المسلم في هذا الشهر الكريم، تطبيقاً لما يدعو اليه، وان تكون كل افعاله شهادة له لا عليه. ولقد حفظت لنا سيرة اسلافنا الكرام صوراً كريمة توضح مدى حرصهم على قيام الليل، وعلى احياء هذه الشعيرة في اشق الظروف واشدها، ونشير إلى جانب من هذه السيرة العطرة لتكون نبراساً لشبابنا المسلم المتبع والملتزم. فبعد ان انتهى الرسول صلوات الله وسلامه عليه من غزوة ذات الرقاع ـ نزل المسلمون في مكان يستريحون فيه، واختار النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم نفرا من الصحابة للحراسة، وكان من بينهم عمار بن ياسر، وعباد بن بشر رضوان الله عليهم جميعاً، وطلب عباد من عمار ان ينام ويستريح في أول الليل على ان يقوم عباد بالحراسة. وفي ظلام الليل وبين الصخور والصمت وقف عباد يصلي، وانساب القرآن من فمه كشلال من نور، وامتلأت جوانحه بالرحيق المختوم، واذا بشيطان غادر يرميه في الظلام بسهم في عضده، فنزعه ومضى في صلاته، ثم رماه بسهم غادر آخر نزعه أيضاً، واستمر في صلاته ثم ركع وسجد، ومد يده إلى صاحبه يوقظه وصحا عمار ونظر إلى الدماء تنزف من أخيه عباد ويقول له: هلا ايقظتني أول ما رميت. فرد عليه عباد ـ رضى الله عنه ـ كنت اقرأ في صلاتي آيات من الذكر الحكيم فلم احب ان اقطعها، ولولا حرصي على الثغر الذي امرت بحفظه لآثرت الموت على قطع الآيات التي كنت اتلوها. هؤلاء هم الذين جاء فيهم اجمل ما وصفهم الله به في كتابه العزيز: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. الأحزاب آية 23. فجنة المؤمن محرابه، والذائق لطعم المناجاة يجد الأنس والقرب في الصلاة، هناك تصفو روحه، وترق مشاعره حين يقبل على مولاه. وقديما هتف الشريف ابن الطريفي وقال: هات لي سجادتي في صفوي وسروري وهي شوقي ودثاري وهي نبراس الطهور ثم دعني في صلاتي في مناجاة القدير يقول الرافعي ـ رحمه الله ـ ما اعظم حكمة الله ان فرض علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات، لتبقى الروح ابدا متصلة او مهيأة لتتصل. وفي سكون الليل تحلو المناجاة ويكون التذكر والعودة الى الله ففيها وحدها يزكو الايمان، وينشر النور ويعيش المسلم ملتزماً بقول النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه «عليكم بقيام الليل فانه دأب الصالحين قبلكم، فإن قيام الليل قربة إلى الله عز وجل، وتكفير للذنوب، ومطردة للداء عن الجسد، ومنهاة عن الاثم»، اخرجه الترمذي ورواه الطبراني بسند حسن. نعم كان ليل الاولين يقظة، وصار ليل غيرهم نوماً، كان الاولون يؤنبون انفسهم ويبكون على ما فاتهم ويسارعون إلى طاعة ربهم، ويتسابقون الى رحمة يطلبونها. فجاء في الحديث: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى ثم ايقظ امرأته فصلت فإن ابت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم ايقظت زوجها فصلى. فإن ابي نضحت في وجهه الماء». اخرجه ابو داوود وابن ماجه. وفي الحديث أيضاً: «من استيقظ من الليل وايقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.. اخرجه ابو داوود والنسائي بسند صحيح. وفي الحديث: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل».. اخرجه مسلم.. فمن اراد ان ينال هذه المنزلة الرفيعة ويلحق بسلف هذه الأمة الصالح الذين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون: عليه بهذه الأسباب التي ذكرها الأمام الغزالي والتي تعين المسلم على قيام الليل نذكر منها: ـ عدم الاكثار من الاكل والشرب فيغلب النوم ويصعب عليك القيام. ـ لا تتعب نفسك بالنهار في الاعمال التي تعيا بها الجوارح، وتضعف بها الاعصاب فان ذلك مجلبة للنوم. ـ لا تترك القيلولة بالنهار، قدر الامكان ـ فانها سنة للاستعانة على قيام الليل. ـ لا ترتكب الأوزار بالنهار فان ذلك مما يقسي القلب، ويحول بينك وبين اسباب الرحمة. قال رجل للحسن رضى الله عنه: يا أبا سعيد: اني ابيت معافى واحب قيام الليل واعد طهوري فما بالي لا اقوم؟ فقال له الحسن: ذنوبك قيدتك. ـ سلامة القلب من الحقد على المسلمين، ومن البدع والخرافات ومن هموم الدنيا فإن هذه الامراض تصرف عن طاعة الله. ـ الخوف مع قصر الامل، والتفكر في اهوال يوم القيامة ودركات جهنم.. يقول احد السلف: «ان ذكر جهنم طير نوم العابدين». وقال آخر: اذا ذكرت النار اشتد خوفي واذا ذكرت الجنة اشتد شوقي. هذه بعض نفحات قيام الليل: صفاء للقلب، وارتفاع فوق الدنيا وهمومها وسعادة للروح، وزاد للمؤمن، وراحة للنفس، وفي الحديث: «ان من الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا اعطاه اياه».. رواه مسلم. أحمد الريح أبو عاقلة

Email