العولمة وعالمية الإسلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا كانت للعولمة مظاهر وتجليات وآليات عالمية أو على الأقل هكذا يراد لها، فإن للإسلام رؤى وتصورات عالمية تتعلق بالإنسان والكون والحياة فهل تتطابق التوجهات فى الحالتين أم أن هناك اختلافاً بين العولمة وعالمية الإسلام؟

يجمع المفكرون الإسلاميون على التمييز بين منطلقات العولمة ومنطلقات الإسلام وأيضاً بين القيم المحركة لكل منها، فلا بد من التفريق بين مفهوم العالمية ومفهوم العولمة، فالمفهوم الأول يحمل معنى يفيد الانفتاح ورغبة التعرف على الآخرين ـ على حد قول الدكتور محمد بن نصر الأستاذ بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا ـ ليس بدافع النفي ولكن برغبة التفاعل والتكامل كما عبر عنه القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات-13.

أما المفهوم الثاني فانه يعنى الاختراق الثقافي، ويعتمد هذا الاختراق على القوة المادية ويستهدف نواة الثقافة المغايرة بهدف القضاء عليها نهائياً. وعليه فإن مواجهة الاختراق لا تكون بالاعتماد على استراتيجية الحصانة السلبية. وعلى أي حال فالانغلاق الثقافي أمر غير ممكن من الناحية العلميّة، وإنما يتم بالتحصين الإيجابي وذلك عن طريق البناء السليم للفرد. وذلك هو جوهر التحدي الثقافي الذى يجب أن نهتم به اهتماماً بالغا.

وفي السياق نفسه يؤكد الدكتور محسن عبد الحميد أستاذ التربية بجامعة بغداد ـ وجود فرق كبير بين المصطلحين (العالمية والعولمة) فالمصطلح الأول يعني أن أبناء هذا العالم بمختلف قبائله وشعوبه ولغاته وملله ونحله، يعيشون على هذه الأرض، فلابد أن يتفاهموا فيما بينهم، تمهيداً للتعاون الدائم على خير الجميع، ولا مانع من أن يأخذ بعضهم من بعض. ولا يجوز أن يفرض بعضهم على بعض لغته أو دينه أو مبادئه أو موازينه.

فالاختلاف في هذا الإطار طبيعي جداً، والتعاون ضروري أبداً، لمنع الصدام والحروب والعدوان. وهذه العملية العالمية قد تُسمى بالتثاقف الحضاري بين الشعوب والأمم، وهي واقع البشرية منذ أقدم العصور إلى اليوم، فاللغات تلاحقت والمجتمعات تعاونت والحضارات عبرت من مكان إلى مكان.

والحروب والمظالم التي قامت ويمكن أن تقوم بين أبناء البشرية، تستنكرها العقول السليمة، ومبادئ الأديان الحقة، والمصالح المشتركة. لأن سعادة البشرية مطلوبة لذاتها، والتعاون فيما بينها على الخير من أعظم الفضائل التي تقرها وتشجع عليها القيم الفاضلة، التي أجمع عليها البشر في هذه الحياة.

وأوضح مثال على ذلك الإسلام، فعندما جاء خاتمًا للأديان وهداية للعالمين، دعا الناس إلى عقيدته وشريعته وقيمه الأخلاقية، من خلال الدعوة الوادعة، والجدال الحسن، دون إكراه لأحد، ومعترفًا بواقع الخلاف الموجود في الأرض، منطلقًا من القرآن الذي يقول:{وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} وقد بُنيت هذه التوجيهات الربانية على قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين} ولم يقل ربّ المسلمين فحسب. لماذا؟ لأن هذه الدار دار عمل للجميع وليست دار جزاء، وإنما الجزاء يكون في الآخرة. قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}.

ويدلل الدكتور محسن عبد الحميد على تطبيق هذه التعاليم في إطار عالمية الإسلام، بقوله أن تاريخ الإسلام، لم يرد فيه دليل على أن المسلمين رسموا للبشرية طريقًا واحدًا ووجهة واحدة وحكمًا واحدًا ونظامًا واحدًا وعالمًا واحدًا بقيادة واحدة بالإجبار والإكراه.بل اعترفوا بواقع الأديان واللغات والقوميات، وعاملوها معاملة كريمة، بلا خداع ولا سفه ولا طعن من الخلف، ولذلك عاش في المجتمع الإسلامي اليهودي والنصراني والصابئي والمجوسي وسائر أهل الشرك بأمان واطمئنان. وأما الأمم التي كانت تعيش خارج العالم الإسلامي، فقد عقدت الدولة الإسلامية معها مواثيق ومعاهدات في قضايا الحياة المتنوعة.

فالتوجيه الأساس في بناء العلاقات الدولية في الإسلام مبني على قوله تعالى {يَاأَيهَا الناسُ إِنا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِن أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} أما العولمة التي هي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية ation»Globali فهي مصطلح يعني جعل العالم عالمًا واحدًا، موجهًا توجيهًا واحدًا في إطار حضارة واحدة، ولذلك قد تسمى الكونية أو الكوكبة.

يقول الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي عن العولمة: نظام يُمكّن الأقوياء من فرض الدكتاتوريات اللاإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين بذريعة التبادل الحر وحرية السوق. ويثبت هانس بيترمارتن وهارالد شومان، مؤلفا كتاب فخ العولمة أنها عملية الوصول بالبشرية إلى نمط واحد في التغيير والأكل والملبس والعادات والتقاليد.

ويقول أحد الكتاب الفرنسيين عن النظام الرأسمالي الأمريكي: كلما ازداد هذا النظام الرأسمالي الجشع إمعانًا وانتشارًا بالعو لمة، ازدادت الانتفاضات والحروب العرقية والقبلية والعنصرية والدينية للتفتيش عن الهوية القومية في المستقبل. وكلما تَفَشت المعلوماتية والأجهزة التلفزيونية والسلكية واللاسلكية، تكبلت الأيدي بقيود العبودية، وازدادت مظاهر الوحدة والانعزال والخوف والهلع دون عائلة ولا قبيلة ولا وطن.

وكلما ازداد معدل الحياة سوف تزداد وسائل القتل، وكلما ازدادت وسائل الرفاهية سوف تزداد أكثر فأكثر جرائم البربرية والعبودية.

وثم قسمة أخرة ومفصل مفصل مهم في إطار التاميز بين عالمية الإسلام والعولمة، فالإسلام يقوم على العدل ويرفض الاعتداء ويعترف بحق الأخر في الدين والاعتقاد والرأي المخالف، أما العولمة فتفتقد للعدل والعدالة وتصب لصالح المركزية الغربية وضد بقية الهامشيات الاخرى وفقا لنظرية التبعية التي تفسر العلاقة بين الغرب المتقدم كمركز، وبين العالم الثالث كهامش، فهي على حد قول الدكتور حسن حنفي: لصالح الآخر على حساب الأنا (أي الذات) وقوة الآخر في مقابل ضعف الأنا وتوحيد الآخر في مقابل تفتيت الأنا. وهي حضارة المركز (أي حضارة الدول الغربية التي لقوتها تقع في مركز العالم وبقية الدول هوامش تابعة) وتبعية الآخر (أي الدول غير الغربية غير الصناعية التي يصطلح على تسميتها دول الجنوب)، وهي مركزية دفينة في الوعي الأوربي تقدم على عنصرية عرقية، وعلى الرغبة في الهيمنة والسيطرة.

أما الإسلام فهو دين إنساني عالمي لم ينحصر فى عرق ولا إقليم ولا حقبة من الزمن، دين جاء لهداية البشرية كلها، وليتفاعل مع كل قضاياها، وما أكثر ما خاطب القرآن البشر كلّهم دون تمييز أو تخصيص. (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة) النساء1: ويعدد الدكتور عبد العزيز التويجرى القسمات التي تميز عالمية الإسلام موضحا انه جاء رحمة للعالمين، وأن الإسلام قد وضع لنا كليات وقواعد بها نهتدي، وعلى أساسها نحتكم، منهاإنّ ساحات المباح أرحب من ساحات المحظور، فالأصل فى المعاملات الإباحة.و المصلحة مصدرّ من مصادر التشريع.ولا تناقض فى الدين بين نقل صحيح وعقل صريح.و الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق الناس بها.ودرء المفاسد مقدّمُ على جلب المصالح.ولا ضرر ولا ضرار.ولا إكراه فى الدين.

وهو أيضا دين الحق يدور معه حيث يدور، لا يتحزّب لفئة ولا طائفة، ولا يتعصّب لقوم دون قوم،، وهو دين الولاء للحق وحده، وإن كان مع الأعداء أو ضد الأقربين. والإسلام يدعو إلى كل علم نافع، ويبتهج بكل إنجاز معرفي وصناعي تهتدي إليه الإنسانية مما فيه خيرها ورفاهيتها. وفى الوقت نفسه فإن الإسلام يحارب كل علم ضار وينفّر منه، ويحمّل كل من سنّ سنةً سيئةً إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة، ويدخل فى ذلك كل من ابتدع علماً ضاراً أو ابتكر ابتكاراً مخرباً.

ويوضح الدكتور التويجري أن الإسلام يؤيد تأييداً كاملاً كلّ ما جاءت به المدنية الحديثة من علوم ومخترعات مما فيه نفع للناس، وهو وإن كان يحث المسلمين على أن يكونوا الرواد فى الخير كله وأن يكونوا الهداة للبشر فى كل سبل الحياة فإنه لا يضيق على الإطلاق بأن يأتي الخير على أيدي غير المسلمين، بل يفرض على المسلمين أن يحتفوا بالحق والخير ويبتهجوا بهما أينما كانا وممن كانا. ولا يقتصر هذا على العلوم التطبيقية والمنجزات التقنية وحدها، كما قد يتبادر إلى بعض الآذان، بل يمتد إلى كل مجالات المعرفة والحياة بأسرها، فكل ما فيه نفع وخير مما لا يتعارض مع الدين فهو من الدين تبعاً وإن كان من عند غير المسلمين، بل وإن كان من عند أشد الناس عداوة للمؤمنين.

وفى المقابل فإن الإسلام لا يرضى الشر والفساد وإن كانا من عند المسلمين أنفسهم، بل هو يمقتها من المسلمين أكثر من سواهم. إن الإسلام يؤكد الوحدة الإنسانية، ويدعو إلى التعايش السلمي بين الناس ويحرم التسلط والظلم ويجعله قريناً للشرك باللّه. وإن من أعظم ما نادى به النبيون إفراد الخالق وحده بالعبودية والمساواة بين الناس. كما أن من أعظم مسئوليات الإنسان فى التصوّر الإسلامي عمارة الأرض الناتجة من مسئولية الاستخلاف، ولا يمكن أن تتم العمارة الحقة إلا بنشر السلم وقيمه، وبالتعاون البناء بين الناس، وبالتكامل فى جميع جوانب العيش.

Email