محفوظيات سبتمبرية ـ يكتبها: جمال الغيطاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 26 رجب 1423 هـ الموافق 3 أكتوبر 2002 منذ أكثر من أربعين عاما وأنا ملازم لنجيب محفوظ . اما أنني أصفي إليه، أو أشارك في حوار، أو أتحاور معه على انفراد، للأسف لم انتبه إلى أهمية حواراتنا إلا خلال السنوات الأخيرة وبالتحديد منذ أن استقر بنا المقام في اللقاء الاسبوعي ـ كل ثلاثاء ـ بسفينة راسية في النيل أسمها فرح بوت، عند شاطئ النيل. انتبهت إلى قيمة ما نتحدث فيه. إلى قيمة آرائه،وبدأت متعمدا استنفار ذاكراته المدهشة التي تحتاج فقط إلى أسئلة وإستفسارات دقيقة، تبدو ذاكرة الاستاذ مدهشة حقا، أحيانا أقرأ له بعض أبيات شعرية من قصيدة قديمة فأفاجأ به يكملها لي، يحفظها، انها ذاكرة وطن، بأحداثه، ومعالمه وأماكنه، عاداته وتقاليده. بدأت عند عودتي إلى البيت اثر إنتهاء جلستنا أدون بعضا مما نقوله، أو نصوص مناقشاتنا، خاصة في الأمور المهمة، الفكرية والسياسية، أدونها تماما كما جرت، وكما ينتقل الحديث من موضوع إلى آخر. وما أورده اليوم جرى خلال الأسبوعين الماضيين من سبتمبر الماضي، تماما طبق الأصل. الثلاثاء 17 سبتمبر 2002 سألت: ـ ذكرت في رواية «حديث الصباح والمساء» اسرة البنان، هل عرفت أحداً من أفرادها. قال: ـ طبعا، كانوا من سكان درب قرمز، لكن خذ بالك، البنان جارنا غير البنان بتاع الحسينية، بنان درب قرمز كانوا أسرة قديمة تتاجر في البن. قلت: إذن البنان الذي أقصده منهم، عرفت اسم البنان من خلال قهوة فسيحة، مشهورة تقع على ناصيتي شارع حبس الرحبة وقصر الشوق، كانت تتكون من مستويين، الداخلي مرتفع قليلا ورأيت فيه منضدة للبلياردو، لأول مرة في حياتي كنت أرى هذا النوع من المناضد ولكنني لم أر أي شخص يلعب البلياردو، طبعا عرفت اللعبة فيما بعد، ولم تكن منتشرة حتى الثمانينيات، كان هناك ناد للبلياردو فوق سينما ريفولي، ثم ظهرت اللعبة في العديد من المقاهي ولكن معنى وجود هذه المنضدة في مقهى البنان أنه كان في الجمالية من يلعبها يوما ما. ظهرت على وجهه علامات الدهشة، بعد لحيظات سألت ماذا عن بنان الحسينية؟ قال: ـ كان البنان من شلة العباسية، لم يكمل تعليمه معنا، أبوه خلع عنه ملابس المدرسة ولبسه جلابية وعمة، خلاه يقف في مصنع البن بتاعهم. كنا نمشى قدام المصنع نشوفه ونضحك. الطريف أن أباه نجح ضد والد كمال سليم المخرج فيما بعد وكان وفديا، والسبب عرابي الفتوة، البنان الاب أيضا كان على مبادئ الوفد، لكن قيادة الوفد كانت تميل إلى والد كمال سليم، وفي أحد الأيام قرر سعد باشا زغلول أن يذهب لتأييد والد كمال سليم في الحسينية، وعندما ظهرت عربة سعد باشا أحاط بها رجال عرابي الفتوة، حملوها على الاعناق واتجهوا بها إلى سرادق البنان بدلا من سرادق والد كمال سليم، وهكذا نجح البنان ودخل البرلمان ممثلا للوفد. نضحك طبعا، وينتقل الحديث إلى عرابي الفتوة، هذه الشخصية الاسطورية، يقول: في أحد الأيام احتل عرابي ورجاله حي الظاهر والسكاكيني، احضروا عربات نقل وشحنوها بالحجارة والزجاجات وإتجهوا إلى السكاكيني، ما حدث هو أن شاباً من أصحابنا اسمه البري بصبص لبنت من الحسينية، واستنفر عرابي قواته وشن حملة تأديبية ضد رجال البري وكل من يمت إلى السكاكيني، احتل أيضا قسم الظاهر وجرد الكونستابل الإنجليزي من هدومه، الكونستابل دخل إلى وزارة الداخلية عاريا، إتجه إلى هارفي باشا حاكم القاهرة، قال له: شوف الفتوات عملوا في إيه، يمكن اعتبار هذا الحادث نهاية عصر الفتوات، شن البوليس حملة شرسة ضد عرابي، حبسوه لمدة سنة، خرج بعدها شخصا أخر، يمشى جنب الحيط، لو شكاه أي إنسان يسحبوه إلى السجن، ما أعرفش عملوا فيه إيه؟ سألت: هل قصة فيلم فتوات الحسينية مكتوبة خصيصا للفيلم أم أنها مكتوبة كأدب وأخذ عنها الفيلم؟ قال: ـ لا.. مكتوبة للسينما، أذكر أنني قابلت المخرج نيازي مصطفى وقال لي أنا عاوز حاجة بلدي، كتبت القصة خصيصا للسينما، ونجح الفيلم نجاحا كبيرا. قلت: رأيت هذا الفيلم في الخمسينيات، أذكر مشاهد منه، كان تمثيل محمود المليجي وهدى سلطان وفريد شوقي بارعا، لكنني لم أره بعد هذه المرة قط، ولم يذعه التلفزيون إلا مرة واحدة منذ عشرين سنة قال بعد لحظات: الفتوات ضاق بهم الحال في الحسينية بعد حادثة عرابي، البوليس ضايقهم جدا. هاجروا من الحسينية إلى المذبح، هناك بقوا جزارين، نزلوا ضرب وذبح في البقر والخرفان، أما قهوة عرابي فانتهت، أولاده باعوها. بدا متأثرا، تذكرت مروري بميدان الجيش، اختفاء المقهى في السبعينيات وتحوله إلى مجموعة دكاكين متنافرة، كان المقهى من أجمل الأماكن التي ارتبط بها، يعني بالنسبة إليه الشباب ورفقة العمر الجميل. الثلاثاء: 24 سبتمبر جرى حديث حول كتاب «تيري ميسان» المؤلف الفرنسي الذي يشكك في اصطدام طائرة بالبنتاغون، وكذلك في طائرة بنسلفانيا، امتد الحديث أيضا الى مقال السفير الأميركي المنشور الجمعة الماضي في «الاهرام» ويطالب فيه رؤساء تحرير الصحف المصرية بتدقيق ومراجعة مقالات الكتاب عندما يتعرضون لأحداث الحادي عشر من سبتمبر. عن الضجة التي أحدثها المقال. وبيان المثقفين العنيف الذي صدر في اليوم نفسه. وبيان نقابة الصحفيين الهادئ إلى حد ما، بعد لحظات من الصمت قال: ـ ما كتبه السفير لا يليق ولا يتفق مع روح الولايات المتحدة، لكنني لا أصدق أن الأميركان ضربوا برجي التجارة والبنتاغون لتحقيق أهداف سياسية. تحدثت عن رواية شاهد عيان لي اثناء زيارتي الى واشنطن، انه يقيم في فرجينيا ويعمل في مدينة واشنطن العاصمة، كثيرون مثله لرخص الايجارات في ولاية فرجينيا، كان على الطريق الطويل الذي يمر بالبنتاغون، وكانت حركة مرور العربات كثيفة والمرور بطيئا، عندما لمح طائرة تطير على ارتفاع منخفض باتجاه المبنى، ان الطائرات تتجه عادة الى المطار الموجود في قلب واشنطن والذي يقع على مسافة قريبة من الكونغرس والبيت الأبيض والمؤسسات الفيدرالية، قال صديقي ان ما لفت نظره في هذه الطائرة ارتفاعها المنخفض، بعد رؤيته لها بثوان دوى انفجار هائل شعر معه ان العربة ارتفعت واصطدمت بالأرض نزل منها، فوجئ بالجميع يتطلعون باتجاه البنتاغون وكرة هائلة من الدخان القاتم يتصاعد الى السماء اصغى صامتا، ثم سألته عما اذا كان قد عاش فترة مشابهة لما نمر به الآن، بعد تفكير قليل قال: ـ لا. سألت: ولا الأزمة الاقتصادية عام تسعة وعشرين بعد تفكير استغرق قليلا، قال: ـ لا. أزمة سنة تسعة وعشرين، كانت آثارها قاصرة على تجار القطن الكبار وبعض المشروعات الاقتصادية الخاصة، لكننا لم نشعر بها كشعب، كان الجنيه المصري قويا، راسخا، أقوى من الاسترليني، ولم يخطر ببالي قط ان قيمته سوف تهتز، كانت فكرة ان قيمته ستقل غير مطروحة بل غير متصورة الى أن بدأت الحرب العالمية الثانية. وبدأت أشعر ان المرتب لم يعد يكفي احتياجات الحياة، طيب. والعمل، بدأنا كموظفين نحاول التوفير من هذا الجانب وذاك لكن الظروف كانت تزداد صعوبة الى ان تولى مصطفى النحاس باشا الحكومة بعد حادث أربعة فبراير الشهير فأتى بما سمى غلاء المعيشة أي علاوة مالية تضاف الى المرتب تعادل نسبة التضخم. اضافة الى ذلك بدأ ما عرف بالانصاف، أي انصاف الموظفين الذين تأخرت ترقياتهم من درجة الى درجة، لقد تمت ترقيتي نتيجة لذلك من الدرجة السابعة الى الخامسة دفعة واحدة، وكان ذلك بالاضافة الى غلاء المعيشة يعني زيادة محترمة للمرتب، وهذا رواج لم نعرف له مثيلا. أذكر انه يوم اعلان العلاوة والانصاف ان السعاة والفراشين قفزوا فوق المكاتب وراحوا يرقصون فرحا. كم كان مرتبك بعد العلاوة والانصاف؟ ـ حوالي خمسة وعشرين جنيها. ـ هنا بدأ مجدى سعد المحامي والمهندس حسن ناصر في حساب قيمة المبلغ بالقياس إلى قوة الجنيه المصري، الآن في سبتمبر عام اثنين وألفين. وانتهيا الى النتيجة. المبلغ يوازي ثمانية عشر ألف جنيه الآن. وعندما أبلغه بالرقم يضحك ضحكته الصافية، يقول: ـ وأنا كنت بأخذ مرتب ولا بتاع المبيدات. يشير بذكاء وسخرية الى موظف عام اتهم مؤخرا بالسماح بادخال مبيدات حشرية تسبب السرطان، ومما نشر عنه ان مجموع مرتباته ومكافآته أربعائة ألف جنيه شهريا. عدت الى النحاس باشا، سألته عما اذا كان قد رآه كثيرا. عادة يجيب بكلمة واحدة عندما يكون الأمر بالايجاب، ثم يصمت قليلاً ويعود الى التفصيل. قال: كنت أصغى اليه في الاجتماعات العامة، وكان خطيبا مقتدرا، وكانت شعبيته جارفة، كنت اذهب الى السرادق وكان بعض شباب الحزب يقومون بتنظيم الاجتماعات، يقفون عند المداخل ويتحققون من شخصية بعض القادمين. لم يكن الوفدي في حاجة الى تحرير استمارة تقول انه منتم الى الوفد، أو حمل بطاقة. كان يكفي للإنسان ان يعلن وفديته، بالطبع كان هناك اثرياء يتبرعون للحزب، وكان هناك بعض من يتفرغ لمهام الحزب، ولكن كثيرين كانوا يعتبرون شراء صحف الحزب اشهارا بالانتماء. يصمت قليلا، يعود الى النحاس باشا. ـ عندما اعلن الانصاف وعلاوة غلاء المعيشة أعلن معها أيضا مجانية التعليم حتى المرحلة الثانوية، في مجلس الوزراء طالب طه حسين بمجانية التعليم الجامعي. النحاس باشا قال له: يوم ما تخبرني ان عندك مكاناً لكل طالب، وأدوات بحث وأساتذة بعدد كاف، سوف أقرر مجانية التعليم فورا. سألته عما اذا كان مشى في جنازة النحاس؟ ـ نعم، لكنني لم استمر حتى ضريح سيدنا الحسين الذي صلوا عليه هناك، طبعا أنت تعرف ما حصل. ضحكت، وقلت له انني رأيت في معتقل مزرعة طرة عام ستة وستين أكثر من ثلاثين وفديا اعتقلوا بعد انتهاء الجنازة على الفور. جريمتهم التي اعتقلوا بسببها دون محاكمة انهم هتفوا في المظاهرة لا زعيم بعدك يا نحاس، بعض الذين قابلتهم في المعتقل هتفوا بالفعل كما اخبروني ومنهم مصطفى ناجي رحمه الله كان طويلا، أسمر اللون، قال لي انه هتف بالفعل وكان بعضهم يمشون الى جواره ويسألونه عن اسمه وعنوانه ولم يخف، كذلك حافظ شيحا. هنا قال: حافظ شيحا كان معهم أيضا؟ قلت: نعم قال: حافظ شيحا كان زعيما للطلبة الوفديين، كنت أعرفه، أخبرني انه نظم اضرابا في كلية الحقوق، استدعاه رئيس الجامعة وقتئذ، احمد لطفي السيد باشا، كان طويلا، صعيديا، عندما دخل المكتب رآه فسيحا، مشى الى أحد لطفي السيد وكأنه يقطع شارعا، وعندما وصل اليه قال له، تفضل، قهوتك سادة ولا بسكر؟ طلب قهوة بسكر، وبعد ان شربها وقف أحمد لطفي السيد ليقول له: أنت مفصول من الجامعة فصلاً نهائياً. في سنة أربعة وخمسين، محمد نجيب دخل في أزمة مارس، حافظ شيحا كان مع نجيب، قبض رجال جمال عبدالناصر عليه، دفعوا به الى السجن الحربي، دخل الى حجرة فسيحة واسعة، كان يجلس في اخرها ضابط، فوجئ بمن يضربه بالشلوت فاندفع الى الامام، قطع الحجرة، وصل الى المكتب بدون مشي. كان محاميا كبيرا ومحترما، طبعا عاد الى الجامعة بعد فصله واتم الحقوق. قلت: لقد رأيته وكان متماسكا في المعتقل، وكان معهم أيضا ياسين سراج الدين، وكان أنيقا في ملابس المعتقل البيضاء، وباستمرار يجلس معنا، كان عنبر الوفديين في مواجهتنا وكان به حوالي ستة وثلاثين هم ضحايا جنازة النحاس، طبعا مسألة عبثية ولم يكن لها أي ضرورة، أذكر معتقلا وفديا اسمه حسن حصان، كان رجلا ضخم الجسم، طيبا، وكان يشغله أمر ولديه. يبكي خوفا عليهما من الانحراف وهو بعيد عنهما، انحراف هذا الزمان كان يعني شربهما السجائر أو البيرة في اسوأ الأحوال. عندما رأيت صورتهما رأيت شابين مكتملي الرجولة. كان في المعتقل عنبر مخصص لما يطلق عليه النشاط المعادي وهؤلاء خليط، منهم من روى نكتة، أو من تحدث بصوت مرتفع وكتب فيه أحدهم تقريرا. هؤلاء لم يكن انتماؤهم السياسي واضحا، ولكل منهم سبب أدى به الى المعتقل، ومعظمها أسباب تافهة، بعضهم أمضى عدة سنوات، أما أغلبية المعتقل فكانت من الاخوان المسلمين، كان تعدادهم حوالي ألفين وخمسمئة، وكان النشاط المعادي حوالي خمسين وكنا نحن الشيوعيين سبعة وخمسين، وكانت العنابر متساوية المساحة، في عنبر الاخوان المسلمين ضم كل عنبر مئة وخمسين أو أكثر، كانوا ينامون بالدور، النصف يقف أول الليل والنصف يرقد ثم يتبادلان المواقع، طبعا كانت ظروفا غير انسانية، ومع فظاعة ظروف المعيشة الا ان معتقل طرة كان جنة بالنسبة لمعتقلات أبو زعبل والسجن الحربي ومعتقل القلعة، كانت هذه الأماكن مخصصة للتعذيب. أي التحقيق بأسلوب ذلك الزمن.

Email