مع متشردي باريس .. الغرقى

ت + ت - الحجم الطبيعي

بيان الكتب: باتريك دوكليرك هو محلل نفساني وباحث في علم الاخلاق. وفي عام 1986 فتح في اطار منظمة «أطباء العالم» أول عيادة لاستقبال المتشردين الذي لا مأوى لهم في فرنسا، وكان قد أمضى خمسة عشر عاماً من حياته وهو يتتبع المتشردين والهامشيين والمتسولين وغيرهم من المستبعدين من الجسد الاجتماعي وهذا الكتاب هو خلاصة تجربته وملاحظاته على عالم هؤلاء كلهم. «الغرقى» الذين قصدهم مؤلف هذا الكتاب هم مجموعة من النساء والرجال الذين يعيشون على هامش المجتمع، مأواهم الحقيقي هو «مترو» باريس الذي جعلوا من محطاته مكاناً لاقامتهم وأحياناً نومهم إذا لم يتم طردهم في أيام البرد القارسة..أو ربما يتواجدون في محطات القطار وتحت الجسور، وكثيراً ما ينهون الدقائق الأخيرة من حياتهم على أحد الأرصفة. ان المؤلف ـ المحلل النفساني جعل من هذه الفئة من الناس موضع اهتمامه الرئيسي.. هذا على الرغم من ملايين البشر الذين يلتقون بهم في شوارع باريس دون ان يعيرونهم حتى التفاتة صغيرة، كذلك هم انفسهم لا يأبهون بأحد فوقتهم موزع بين التسول واحتساء أسوأ أنواع المشروبات الكحولية في حالة السكر الكاملة.. وقد لا يعرفون أحياناً لأشهر كاملة الاغتسال حتى ان روائح أجسادهم «النتنة» تجعل من الصعب الاقتراب منهم ولو عن بعد عدة أمتار. ان اسئلة كثيرة تجول بخاطر من يراهم.. إذ من هم في الحقيقة هؤلاء المهمشين ذوي الوجوه المتآكلة؟ هل هم مجرد فقراء؟ أم أناس اختاروا مصيراً «لا اجتماعياً»؟ وهل يعانون من خلل عقلي ما؟ المؤلف يجيب عن هذه الأسئلة كلها، وما تفرع عنها، بكلمة واحدة هي انهم «مشردون» لاسباب عديدة ولكنهم أيضاً بنظره «ضحايا» قبل أي شيء اخر، ضحايا المجتمع وقوانينه، وضحايا سوق العمل ومستلزماته، لكن معركتهم الحقيقية تغدو مع الحياة وليس مع المجتمع، ذلك انها «هي» التي تحظى بمقتهم واستهزائهم بها، وخلف كل واحد منهم حكاية دفعت به إلى ما أصبح عليه.. وكما قيل ذات يوم «لا تسألوا الناس اسألوا الظروف، وعند لقاء مؤلف هذا الكتاب مرات ومرات معهم .. و«قبولهم» التحدث إليه بدا ان الكثيرين منهم يعيدون المصير الذي آلوا إليه لسنوات الطفولة ولأحداث مأساوية كانوا قد عاشوها آنذاك. وعلى مدى صفحات كثيرة من هذا الكتاب يقدم المؤلف نماذج مختلفة من هؤلاء المشردين ـ الكلوشار ـ من كل الأعمار والأجناس فهذا هو «كارل» الألماني الذي يمارس منذ أكثر من عامين التسول أمام أحد المخازن الكبرى وحيث يحرس احياناً كلاب الزبائن إلى حين قضاء حاجتهم وجلب مشترياتهم مقابل بعض القطع النقدية الصغيرة، ولقد أصبح مع مرور الزمن أحد عناصر الديكور بالنسبة لمرتادي ذلك المخزن. ان يده ممدودة باستمرار، وما يؤكده المؤلف هو ان «كارل وزملاءه» لا يجهلون أبداً مدى ما يثيرونه من «القرف» لدى الآخرين، لكنهم يجهلون انهم يمارسون أحياناً بعض «الاعجاب» لأنهم يبدون كـ «متمردين» على منظومة اجتماعية قد تكون ظالمة، يقول المؤلف «ان المتشرد مثله مثل المجرم ومتعاطي المخدرات وبنات الهوى، هو أحد وجوه خرق النظام الاجتماعي». ان المؤلف وعبر استقصائه عن أحوال هؤلاء المشردين المتسكعين بحث أيضاً في أصول ظاهرة الفقر في مدينته مثل العاصمة الفرنسية باريس، ولقد قام بآلاف الاستشارات الطبية المكرسة تحديداً لهذه الشريحة والخارجة عن المجتمع وعن أية عملية انتاجية ليخرج من ذلك كله بنتيجة يؤكد فيها قوله: لقد خففت من آلام الكثيرين، ولكنني اعتقد انني لم أتوصل إلى شفاء أحد منهم» هذا ما تثبته النتائج الطبية التي يعرضها للعديد من الحالات، ويمزج المؤلف في تحليلاته بين الملاحظة العلمية وبين سرد الكثير من الحكايات والأسرار التي يزخر بها عالم المتشردين العجيب وتختلط أحياناً حكايات وأسرار الآخرين بالسيرة الذاتية للمؤلف نفسه، وهذا الكتاب يبدو بأحد وجوهه بمثابة سيرة ذاتية لصاحبه إذ انه يتحدث تحديداً عن تجربته خلال خمسة عشر عاماً، وهو يروي مثلاً في سياق الحديث عن «أبطاله» بعض ما كان عمه نفسه قد عرفه عندما كان مرتزقاً في «كاتنجا» بأفريقيا أو عندما يحكي عن تجربته لعامل في أحد الفنادق عندم كان طالباً.. لقد كان هامشياً بمعنى ما. ولعل من الميزات الأساسية لهذا العمل انه يرسم عالماً لم يتطرق له أحد من قبل بهذا القدر من التأمل العلمي.. إذ ان الذين تطرقوا له من قبل انما كانوا من الشعراء الذين وجودا في هامشية المتشردين رمزاً لتأكيد «الأنا» ، «الذات» الفردية في مواجهة الـ «نحن» التي تؤسس للمجتمع، ومن شبه المؤكد القول ان هذا الكتاب سوف يصبح قريباً أحد الأعمال «الكلاسيكية» في مجال اهتمامه، كتاب مرجع حول هذه النماذج البشرية التي تشيخ سريعاً ثم تموت سريعاً أيضاً فوق الأرصفة، ان هؤلاء يفتقرون قبل أي شيء لـ «الهوية» أو الانتماء» انهم «أشباح الشوارع» الذين يبدو ان مصيرهم لا يهم أحداً، بل لا يهمهم أنفسهم.

Email