غياب الفدائي سيد المشهد المسرحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

أردناها أمسية شعرية غنائية وحماسية ممسرحة تفجر فينا براكين الغضب والثورة وتشعل أرواحنا نوراً وناراً وملتهبة المشاعر المتأججة أصلاً.. لكن قاسم محمد حولها الى بكائية ذات حزن معتق.. وضباب رمادي معتم يملأ النفس بالكآبة باستجدائه العون والمساعدة ممن لا يسمعون ولا يلتفتون! هكذا جاء عرض الافتتاح لمهرجان ايام الشارقة المسرحية «الشهادة أمام بوابات الأقصى» من أشعار سميح القاسم سيناريو وسينوغرافيا واخراج قاسم محمد وتمثيل فرقة مسرح الشارقة الوطني المؤلفة من عائشة عبدالرحمن، احمد الجسمي، سيف الغانم، مريم علي، محمد العامري وآخرين! هي مسرحية شعرية اذن.. وفكر وفلسفة العرب تمحورت واتكأت منذ ما يقرب من ألفي عام على «الشعر»، فهو ديوان العرب لكن هذا الشعر، شعر مقاوم ومقاتل لأن سميح القاسم أحد أهم شعراء المقاومة الفلسطينية منذ أكثر من ثلاثين عاماً خلت.. اما المسرح السياسي الثوري فقد نهض في امريكا اللاتينية وبعض دول العالم الثالث ومنها مصر منذ عصر الثورة اي منذ نصف قرن تقريباً ولكنه تنامى وتصاعد وتغنى به العرب وعزفوا مع بعض أعماله ابان نكسة او هزيمة يونيو 67 مثل «ليلة مصرع جيفارا» و«الحسين ثائراً» و«الغول ويو.إس» عن حرب فيتنام التي أثارت مشاعر الفزع والرعب والتقزز في العالم شرقه وغربه حيث كانت اقوى دولة في العالم تخوض حرباً ضارية ضد أفقر الشعوب وأضعفها ولا تحقق من هذه الحرب القذرة سوى المزيد من العنف والتورط واستثارة مشاعر الاثم والحقد والكراهية للأمريكيين ازاء صور القتل والتدمير والتعذيب والتشويه والاغتصاب والحرق للنساء والأطفال والعجزة بقنابل النابالم، وحينذاك دخلت هذه الاحداث الى خشبة المسرح كفن تحريضي ملتزم بالكشف والتعرية والمواجهة والمقاومة ايضاً، لكن هذا المسرح لم يتحول قط الى نشرة اخبار أو محاضرة او خطبة حماسية مباشرة بل كان مسرحا للمواجهة الدرامية المتصاعدة في تجسيد هذا التناقض الفكري الحاد والقاسي وغير المحتمل. وهنا.. وعلى أرض فلسطين نعيش الواقع نفسه فقد كانت مشاهد المسرحية صرخات وعويلاً وبكاء وأنات استغاثة واستجداء للعون والمساعدة بدلاً من المواجهة والتحدي في المشهد المسرحي وليس في قصائد الشعر فحسب التي جاءت اقوى من الصورة: ربما أفقد ما شئت معاشي ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي ربما أعمل حجاراً وعتالاً وكناس شوارع ربما أخدم في سوح المصانع ربما أبحث في روث المواشي عن حبوب ربما أخمد عرياناً وجائع يا عدو الشمس لكن لن أساوم.. لن أساوم والى آخر نبض في عروقي سأقاوم.. ثم تتوالى اللوحات المشهدية المعبرة عن جرائم الصهاينة من فكر نازي فاشستي وقتل بشع للنساء والأجنة في بطون أمهاتهم والتخويف والترهيب والطرد الى الشتات، لكن بانتفاضة الحجارة وعبر ايقاعات الحجر المرادف لطبول الحرب تمترس شعب بأكمله أمام الطائرات والدبابات فالحجر سلاح حقيقي يحشد له العدو الأباتشي الامريكية و«اف 16» والصواريخ وكأن كل حجر صغير قنبلة يدوية في يد أطفال الانتفاضة! وفي غياب اي دعم عربي حقيقي وفي ظل اختفاء تام للأسلحة العربية الثقيلة في مواجهة الابادة والطرد للشتات. هكذا يتشبث الفلسطيني بالزيتون والزعتر بالحنطة وبيارات البرتقال وبالحب تحت شجرة الليمون والزواج والأعراس والانجاب بالتوأم فهذا هو البقاء الحقيقي في مواجهة هؤلاء الطغاة الغزاة العابرين في كلام عابر وصمت عربي سافر ازاء شلال الدم المستباح والذي ينزف منذ نصف قرن او يزيد! و«الشهادة على بوابات الأقصى» اتخذت من مسرح البوستر السياسي قصة واقعية وحقيقية لكنها غيبت الأمل الاكبر في الفجر وفي القدرة على الانتصار ففي وسط هذا التوهج الشعري في لغة الكلمة كجزء من الحركة كصدمة او كصرخة فإن الشعر يحشد اكثر ويتغلغل اعمق ولأن مسرحية الشعر كما يقول بيتر بروك: شيء في منتصف الطريق بين مسرحية النثر والاوبرا فلا هي تقال.. ولا هي تغنّى لكنها رغم ذلك مشحونة ومتفجرة وتحريضية وحماسية أكثر من النثر وكانت تحتاج مع مثل هذه الاشعار المقاتلة: تقدموا... أعداءنا.. تقدموا كل سماء فوقكم جهنم وكل أرض تحتكم جهنم يموت منا الطفل والشيخ ولا نستسلم تقدموا بناقلات جندكم وراجمات حقدكم وهددوا وشردوا.. ويتموا وهدموا لن تكسروا أعماقنا! لن تهزموا أشواقنا! نحن قضاء مبرم!! نعم كانت تحتاج لوجود الفدائي الفلسطيني والاستشهادي كسيد العرض الوحيد القادر على انتزاع النصر فالتاريخ لا تصنعه الحجارة فقط!

Email