بيان الكتب ـ أصول الحضارة الغربية وصعودها وتراثها، انتصار الغرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

انجز ج. م روبيرتس دراساته في جامعة اكسفورد وعمل بالتدريس في عدة جامعات بريطانية حيث اصبح نائبا لرئيس جامعة ساوثمبتون مابين عامي 1979 و 1985 ثم قدم للقناة التلفزيونية البريطانية «بي. بي. سي» سلسلة برامج تحت عنوان «انتصار الغرب» شكلت اساس هذا الكتاب نشر العديد من الكتب من بينها اوروبا 1880 ـ 1945 و «القرن العشرين» و «تاريخ العالم» و «اسطورة المجتمعات السرية» .. الخ. عرف هذا الكتاب اول طبعه له عام 1985، وهذه هي طبعته الجديدة التي اعاد المؤلف النظر فيها «اذ ان العالم قد تغير» كما يقول في مقدمته لطبعة عام 2001، ويضيف ان نظرتنا ومنظورنا للماضي قد تغير ايضا وتتمثل اهم الاحداث التي يرى المؤلف انها قد غيرت وجه العالم في شعوبها جدار برلين عام 1989 وما تتبعه من انهيارات في مجمل بلدان الكتلة الشيوعية السابقة كما ان حرب الخليج عام 1991 هي التي اتاحت قيام نظام دولي جديد تهيمن عليه الولايات المتحدة الامريكية وبروز آفاق تأكيد التفوق الغربي عسكريا واقتصاديا وسياسيا في «حقبة جديدة» وعبر «سبل جديدة» غير تلك التي شهدتها الحقبة الاستعمارية. «الاشكالية الاولى التي يثيرها المؤلف تتعلق بتحديد مفهوم الحضارة الغربية نفسها حيث يفهمها البعض أنها «الحضارة الاوروبية» ويراها آخرون حضارة الغرب التي تشمل حتى اليابان بحيث تبدو وكأنها مرادف لـ «الرأسمالية» التي تتمتع ببعض السمات المحددة ولها ديناميكيتها الخاصة بها، وبكل الحالات عرفت «الحضارة الغربية» ولادتها وترعرعت ونضجت في اوروبا القارة القديمة ثم فاضت عن حدودها كي تشمل شمال امريكا ـ الولايات المتحدة وكندا، وجنوبها، واستراليا وايرلندا الجديدة وحتى جنوب افريقيا وذلك منذ مطلع القرن العشرين، لقد اتسعت عبر الفتوحات او الهجرات، اما اليابان فقد انضمت عمليا لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية اذ قبلت افكارها وبعض وسائلها. ان مؤلف هذا الكتاب يؤكد بشكل خاص على مساهمة الثورة الصناعية الاولى مع اختراع الآلة التجارية والمحرك الانفجاري والكهرباء لكن الديناميكية التكنولوجية والتقدم المادي كان لهما على المدى الطويل آثارهما السيئة على البيئة مما يشكل بنظر المؤلف احد اكبر التحديات التي تواجه العالم اليوم لكن هذه الثورة الصناعية هي التي سمحت لاوروبا بتشكيل امبراطوريات شاسعة طالت مناطق عديدة شاسعة من القارات الاخرى والامبراطورية البريطانية في الهند والفرنسية في افريقيا تشكيلات مثالية بليغين على ذلك بكل الاحوال شكلت القوة العسكرية والاقتصادية والاحتكار التكنولوجي وسائل لـ «انتصار» الحضارة الغربية. ويؤكد المؤلف ضمن السياق نفسه ان الفلاسفة والعلماء والفنانين لعبوا دورا مركزيا في المساهمة بـ «تفوق» الحضارة الغربية هذا وقد كان لافكار ماركس وفرويد صدى كبيرا على مستوى العالم كله. وقد استطاعت الحضارة الغربية ان تؤسس على مستوى الفن والادب والفكر تقاليد اسست بدورها لما بعدها. لكن العلامات الاولى لانكفاء هذه الحضارة ظهرت بعد الحرب العالمية الاولى، ان المؤلف يعتمد كثيرا في هذا المجال عن التحليلات المقدمة في كتاب «انحطاط الغرب» المنشور في بداية عقد العشرينيات من القرن العشرين والذي اصبح احد اكثر الكتب انتشارا في فترة صدوره .. وعنوانه «ذا دلالة بالغة على مضمونه». ان المؤلف يركز بشكل خاص في تحليلاته على البعد التاريخي لـ «الحضارة الغربية» مع محاولة تقييم دورها الدقيق على صعيد تطور المسيرة الانسانية برمتها لكن هذا كله في محاولة لالغاء اضواء جديدة على العالم من اجل فهمه افضل لكن لا يتم النظر للحضارة الغربية بـ «نظام باسم ووردي» باستمرار بل يؤكد المؤلف على عدم امكانية تجاهل الكثير من اشكال الرعب التي رافقتها والتي انتجتها المشاريع الاستعمارية بشكل خاص هكذا بدت الانتصارات الغربية «غامضة» في احيان كثيرة، بل ويستخدم المؤلف تعبير «الانتصارات العقيمة» للدلالة على نوع من حكم القيمة ثم ان «انتصار الغرب» لم يكتمل والتاريخ لم ينتبه، وبكل الاحوال كان للانتصارات اسبابها الرهيبة غالبا كما كان لها مكامن سخريتها كما يقول المؤلف. لكن اذا كان من الصعب نقاش مفهوم «الحضارة» كفكرة مجرة فانه من السهولة بمكان البحث في الحضارات كوقائع تاريخية قابلة للدراسة الجدية، من هنا يتم الحديث عن حضارات مصر وبلاد مابين النهرين والصين وروما واليونان القديمة انها حضارات متعددة ضمنها عالم واحد، كما جاء في عنوان احد فصول هذا الكتاب ثم ان الحضارات كلها انشأت منظومات اجتماعية عبر مركزة العمل واستغلال رأس المال الذهني .. ومن هنا كان للحضارات «هويتها» وانتماءاتها المتعددة الخاصة بها من قومية واثنية وعقائدية وهذه الانتماءات كلها تعمل كحوافز نحو البقاء والاستمرار وعلى هذا الاساس يقوم المؤلف بدراسة الحضارة الغربية عبر سياقها التاريخي وعوامل تكونها. ان المؤلف يناقش على مدى فصل كامل شرح اليات تشكل الحضارة الغربية ومسيرتها التطورية .. هذا في الوقت الذي يؤكد فيه ان الحضارات مثلها مثل الافراد والشعوب انما تنسج الاساطير عما كانت وعما هو واقعها الراهن، حيث ان بعض هذه الاساطير تتركز حول الماضي وتجعل معنى وجودها قائما على هذا الماضي، بينما تتركز اساطير اخرى حول شرح الحضارة على اساس عرقي بحت او على اساس الدورات التاريخية المتعاقبة المتراوحة بين الانكفاء والانتصار وبكل الاحوال تمتلك كل حضارة من الحضارات اساطيرها التاريخية وتراثها القديم حيث يعيد المؤلف احد اهم الاصول التاريخية للحضارة الغربية الراهنة الى حضارات اليونان القديمة، وهو يؤكد في الوقت نفسه على غنى التراث اليوناني القديم هذا مع تأكيده في الوقت نفسه انه كان متأثرا الى هذه الدرجة او تلك بالحضارات المصرية القديمة وحضارات مابين النهرين من آشورية وبابلية وغيرها، كما ان حضارات الشرق الاوسط القديمة لم تكن بعيدة عن هذا التراث، وكبقية المؤرخين الذين درسوا اصول الحضارة الغربية الراهنة، يتحدث المؤلف عن البعد التوراتي في حضارة الغرب. لقد عرفت الحضارة الغربية ولادتها في اوروبا على قاعدة الامبراطورية الرومانية الغربية اذ وبعد نهاية الامبراطورية الغربية القديمة احتفظت اوروبا الى حد كبير بالبنية السياسية الفوقية للمجتمع الروماني مع اعطاء اللون المحلي لهذا الشعب الاوروبي او ذاك. وتأكد هذا اللون المحلي مع قيام كيانات تحولت الى دول او «الدول الاوروبية الاولى» بالمعنى الحديث للكلمة كما استمرت الكنيسة بلعب دور كبير في صياغة اسس الحضارة الغربية، وحيث كان امبراطور الفرنجة شارلمان قد جعلها بمثابة نقطة الارتكاز الرئيسية لعهده وقد كان احد اكبر اباطرة اوروبا المسيحية وكان احد المساهمين في صياغة اوروبا بالشكل الذي استمر الكثير من ملامحه حتى الحقبة الراهنة، هذا وقد كانت حقبة العصر الوسيط هي اكثر الفقرات قناعة في التاريخ الاوروبي الحديث وحيث يتحدث المؤلف عن «العصور السوداء» للدلالة على تلك المرحلة من تاريخ اوروبا لكنه يجد مع ذلك وفي قلب هذا «السواد» بعض النقاط المضيئة التي تتمثل بوجود مؤسسات تمثيلية في ظل حكم سلالة «هابسبورج» في اسبانيا وسلالة «البوربون» في فرسا واللتين يرى المؤلف بهما اول المرشحين للعب دور المبشرين بقيام اوروبا الحديثة، لكن كان لابد من انتظار عصر النهضة كي تدخل القارة القديمة، فعليا عصرها الحديث. ان المؤلف يقول بالاستمرارية في تطوير المسيرة التاريخية بعيدا عن اية «قطيعة» او «طفرة» وحتى ان شكل الدولة الغربية ومنظومة الحكم التمثيلي فيها انما هي بصيغة ما، تعود بجذورها الى فترة العصر الوسيط وكذلك بالنسبة لتنامي النزعات الفردية في ظل استمرار منظومة التأكيد على الملكية وحمايتها كأحد المباديء الاساسية التي لا تقبل المساس بها، وفي الوقت نفسه يؤكد المؤلف على اهمية عملية التبادل الثقافي التناقض التي عرفتها اوروبا خلال العصر الوسيط ايضا، ورغم النزاعات بين حضارات حوض البحر الابيض المتوسط، هذا ويصف المؤلف العصر الوسيط بأنه كان الحقبة الكبرى للفتوحات العربية وهو يكرس العديد من صفحات كتابه للحديث عن حوار حضارات حوض المتوسط آنذاك وخاصة الحضارتين العربية الاسلامية والغربية المسيحية ولو كان في بعض المرات حوار بالسيوف فإن الوجود العربي الاسلامي في اسبانيا لقرون عديدة لم يكن مجرد فاصلة في تاريخ اوروبا وانما بنى اساسا راسخا يدل على حضوره الدائم وليست الاندلس سوى احد الشواهد الاساسية على ذلك. وكان وصول كريستوف كولومبس وبحارته الى القارة الامريكية «العالم الجديد» عام 1492 وخروج آخر جندي عربي مسلم من غرناطة في السنة نفسها مؤشرا على منعطف حاسم كبير لقد تطلعت اوروبا نحو المحيطات الشاسعة بينما انكفأ العرب المسلمون على البحار الداخلية، هذا ويكرس المؤلف في سياق تحليلاته فصلا كاملا للحديث عن العالم الجديد الذي كان فاتحة نحو عصر جديد فتح بدوره الافاق نحو انتصار الغرب ومد سيطرته على بقاع كثيرة من المعمورة ولأكثر من قرنين من الزمن لكن المؤلف يؤكد في تحليلاته ان الحضارة الغربية قد اتجهت نحو الانحدار اعتبارا من الحرب العالمية الاولى فهل بدأ عصر ما بعد العالم الغربي؟ يتساءل في الصفحات الاخيرة من هذا الكتاب

Email