بيان الكتب ـ طه حسين كان يريده غربياً خالصاً، مستقبل الثقافة في مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

تأتي أهمية القراءة الجديدة لكتاب (مستقبل الثقافة في مصر) والذي صدر منذ 64 عاما من ثلاث زوايا أساسية أولها أهمية المؤلف نفسه وأثره البالغ في الثقافة العربية في القرن العشرين، ولا شك أن طه حسين الذي لقب بعميد الأدب العربي ترك العشرات من المؤلفات المهمة التي ساهمت في تحديث الثقافة العربية، وكانت حياته الفكرية ومواقفه العملية مثار جدل واسع طبع بصماته على العقل العربي وساهم في بعث حيويته. وتأتي أهمية قراءة الكتاب من محاولة اختبار صحة الفروض التي أقام عليها طه حسين بناءه الفكري وكذلك اختبار صحة الدعوى التي أطلقها في كتابه ومدى صمودها امام متغيرات الحياة وتقلبات الزمن كما تأتي أهمية القراءة أيضا من محاولة قياس الحاضر على الماضي لاكتشاف مسار الثقافة العربية ومن ثم التكهن باحتمالات مصيرها. ويمكن لقارئ كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) أن يختبر فكرة أخيرة وهي مدى اهتمام قطاعات واسعة من النخبة العربية المثقفة خلال النصف الأول من القرن العشرين بفكرة الاستقلال الثقافي ويبدو أن كثيرين من هذه النخبة - وبالذات في منحاها العلماني - لم يلتفتوا الى فكرة الاستقلال الثقافي بل إن هناك من عملوا ضدها ووظفوا طاقاتهم ومواهبهم العقلية في طريق التغريب والالتحاق بأوروبا التي كانت مستعمرا غاصبا تقاومه الحركات الوطنية تحت شعار الاستقلال التام أو الموت الزؤام بينما كان مفكرون كثيرون معادين للحركات التي رفعت هذا الشعار، وبشكل خاص لسعد زغلول ولحزب الوفد. وعندما تغيرت قيادة الوفد ومواقفه في الثلاثينيات وهيمن عليه كبار ملاك الأراضي اختار طريق المهادنة وعقد عام 1936 معاهدة شهيرة مع الانجليز كان شكلها اعتراف انجلترا باستقلال مصر، ومضمونها فرض الحماية الاستعمارية عليها فالقواعد العسكرية ظلت باقية والهيمنة الاقتصادية والسياسية تزايدت وتوغلت وهو الأمر الذي دفع مصطفى النحاس رئيس الوفد أن يلغي المعاهدة عام 1951. أما طه حسين فقد انطلق في كتابه مستقبل الثقافة من أن مصر حصلت على استقلالها بالفعل ومن ثم عليها أن تصوغ عقلها وتبني نظمها الثقافية والتعليمية على طراز أوروبي خالص حتى لا يغضب أصدقاؤنا الانجليز - على حد قوله - ويتهمون المصريين بأنهم لا يستحقون الاستقلال الذي حصلوا عليه هذا هو جوهر الكتاب وتلك هي الدعوة التي قال بها واعتبرها نقاده نوعا من الانفلات في طريق الغرب الذي كان محتلا للبلاد كما اعتبروها تكئة لطمس ثقافة الذات واستهانة بالثقافة الشرقية التي جعلها طه حسين نقيضا للعقل المصري، ذلك العقل الذي تعسف طه حسين عندما استخدم ترسانته الفكرية لكي يضعه ضمن دائرة الثقافة الغربية في الماضي والحاضر. يبدأ الكتاب بمقولة الاستقلال الذي حصلت عليه مصر ومن ثم تبعات هذا الاستقلال فيما يخص مستقبل الثقافة ويقول الموضوع الذي أريد أن أدير فيه هذا الحديث هو مستقبل الثقافة في مصر التي ردت اليها الحرية باحياء الدستور وأعيدت اليها الكرامة بتحقيق الاستقلال، فنحن نعيش في عصر من أخص ما يوصف به أن الحرية والاستقلال فيه ليسا غاية تقصد اليها الشعوب وتسعى اليها الأمم، وانما هما وسيلة الى أغراض أرقى منها وأبقى والمقصود أن نأخذ بأسباب الرقي والتقدم، وأن نلحق بحضارة العصر والا نعتبر هذا الاستقلال غاية مرادنا، فطه حسين يستحثنا وما أعرف اني أشفقت من شئ كما أشفق من الاستقلال بعد أن كسبناه، ومن الحرية بعد أن ظفرنا بها ومصدر شفقته هو الخوف من أن نقصر في ذات أنفسنا، وعلينا من الأوروبيين عامة ومن أصدقائنا الانجليز خاصة رقباء يحصون علينا الكبيرة والصغيرة ويحاسبوننا على اليسير والعظيم ولعلهم أن يكبروا من أغلاطنا ما نراه صغيرا وأن يعظموا من تقصيرنا ما نراه هينا وأن يقولوا: طالبوا بالاستقلال وأتعبوا أنفسهم حتى اذا انتهوا اليه لم يذوقوه ولم يستسيغوه ولم يعرفوا كيف ينتفعون به. ياسلام!! وكأن الشعب المصري كان قاصرا وكان عليه أن يتحرك ليثبت للذين رفعوا عنه الوصاية أنه يستحقها ثم متى حدث بالضبط هذا الاستقلال الذي يتحدث عنه الدكتور العميد بينما انجلترا لم تسحب جنديا واحدا من قوات احتلالها، وهل كان الدكتور في هجرة فلم يسمع أصوات الحركة الوطنية الهادرة وهي تواجه معاهدة 1936 بآلاف اللعنات منذ مولدها تلك المعاهدة التي يعتبرها العميد استقلالا؟ وهل يستقيم الضمير الوطني للمفكر عندما يسمي غاصب بلاده ومحتلها صديقا؟ النقطة الثانية التي يقيم عليها طه حسين بناءه الفكري تتمثل في سؤال كبير هو أمصر من الشرق أم من الغرب ويقول: أنا بالطبع لا أقصد الشرق الجغرافي ثم يطرح السؤال بصورة أكثر وضوحا هل العقل المصري شرقي التصور والادراك والفهم والحكم على الاشياء أم أنه غربي التصور والادراك والفهم والحكم على الاشياء وبصراحة هذه هي المسألة التي لابد من توضيحها وتجليتها قبل أن نفكر في الأسس التي ينبغي أن نقيم عليها ما ينبغي لنا من الثقافة والتعليم ثم ما يلبث أن يؤكد أن العقل المصري غربي التصور والادراك والفهم والحكم على الاشياء منذ أقدم عصوره وحتى الآن، ويدلل على صحة مقولته بدعوة الخديوي اسماعيل لجعل مصر جزءا من أوروبا ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها اسماعيل وجعل بها مصر جزءا من أوروبا قد كانت فنا من فنون المديح، أو لونا من ألوان المفاخرة، وانما كانت مصر دائما جزءا من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وألوانها غير أن اسماعيل الذي رهن اقتصاد مصر كله لأوروبا وأغرقها في مستنقع الاستدانة والتدخل الاجنبي لم يكن يحلم أبدا بمصر الأوروبية في اطار الاستقلال وانما في اطار التبعية والوصاية وأغلب الظن أن طه حسين لم يتجاوز حلمه بالاستقلال أبعد من حدود الحماية الاستعمارية في ظل معاهدة 1936 التي اعتبرها استقلالا والمؤكد ان طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر قد وضعنا بين حدين لا ثالث لهما، فإما أن تكون مصر غربية الفهم والتصور والادراك والحكم على الاشياء وانها جزء من أوروبا في كل ما يتصل بحياتها العقلية والثقافية، واما أن تكون شرقية التصور والفهم والادراك والحكم على الاشياء، وكأن العالم انقسم الى هذين الحدين، فلا توجد تصورات ولا حضارات ولا ثقافات خارج نطاق ما يسميه بالشرق وما يسميه بالغرب، وكأن مصر لا تملك من مؤهلاتها الذاتية ومن دوافع تاريخها وتراثها ومن عروبتها واسلامها ما يمكنها من التفكير والتصور والادراك بعقل مستقل ولأن الأمر بهذا التعسف فقد أخذ نفسه بالجد واجهد نفسه بالتقليب في التاريخ بحثا عن أدلة يؤكد بها صحة دعوته، صحيح أنه قال ان الصلة بين المصريين القدماء وبين البلاد الشرقية لم تتجاوز هذا الشرق القريب الذي نسميه الشام وفلسطين والعراق الذي يقع في حوض البحر المتوسط أما العلاقة بين المصريين وبين حضارات قديمة نشأت في الهند أو الصين أو حتى مجرد مشتركات ثقافية وعقلية بين المصريين وشعوب مثل هذه البلاد فلا وجود لها. وهذا بعكس العلاقة بين المصريين والغرب فهي قديمة قدم التاريخ منذ عصر الحضارة الايجية ومنذ القرن السادس قبل ميلاد المسيح حتى أيام الاسكندر الاكبر كانت هناك علاقات قوية بالحضارة اليونانية في عهود ازدهارها وبالرغم من انه يعترف بوجود علاقات قديمة بين مصر وبلاد الشرق القريب أي الدول العربية مثل الشام وفلسطين والعراق الا انه يرى ان وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسا للوحدة السياسية ولا قواما لتكوين الدول وحتى لو كانت أوروبا تتعنت معنا الآن في السياسة فمن السخف أن نعتبر العقل المصري عقلا شرقيا لا غربيا.. يقول نصا وليس من المهم، ولا من النافع الآن، أن نبحث عن مصدر هذا التعنت الأوروبي الذي يرجع الى السياسة والى المنافع قبل كل شئ وانما المهم ان نمضى في هذه الملاحظة التاريخية حتى يثبت لنا في وضوح وجلاء أنه من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءا من الشرق واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية، وذلك لأن حياتنا المادية أوروبية خالصة في الطبقات الراقية وهي من الطبقات الاخرى تختلف قربا وبعدا عن الحياة الأوروبية باختلاف قدرة الأفراد والجماعات وحظوظهم من الثروة وسعة ذات اليد ومعنى هذا أن المثل الأعلى للمصري في حياته المادية انما هو المثل الأعلى الأوروبي في حياته المادية، ويقول وحياتنا المعنوية على اختلاف مظاهرها وألوانها أوروبية خالصة، نظام الحكم عندنا أوروبي خالص الخ ص31 والحقيقة انه لو قال الدكتور طه حسين هذا الكلام عن شعب آخر غير المصريين لكان من الممكن تصديقه أما هؤلاء المصريين الذين يعيشون حياتهم المادية والمعنوية على اختلاف مظاهرها عيشة أوروبية ولا تصلح وحدة الدين ولا وحدة اللغة أن تكون اساسا لوحدتهم السياسية هؤلاء لا وجود لهم. ويمكن للقارئ الكريم - حتى لو كان من عشاق طه حسين مثلي - ان يتأمل هذه الآراء لمفكر من طراز رفيع، لعلنا نصل معا الى أن مراجعة المشروعات الفكرية العربية التي طرحت على مدار القرن العشرين ضرورة ماسة حتى نتعرف بكل تجرد ونزاهة الى حلقات مسارنا ومن ثم نتكشف سيناريوهات جديدة لمصيرنا. وطالما أن طريقنا هو طريق الغرب وطريق الحضارة الأوروبية كما يراها الدكتور طه حسين فإن التعليم وهو عصب الثقافة ينبغي أن يسير على النهج الأوروبي قلبا وقالبا ولا ضير من ذلك كما يقول فالتعليم عندنا، على أي نحو قد اقمنا صروحه ووضعنا مناهجه منذ القرن الماضي على النحو الأوروبي ما في ذلك شك ولا نزاع، نحن نكون أبناءنا في مدارسنا الأولى والثانية والعالمية تكوينا أوروبيا لا تشوبه شائبة، فلو أن عقول ابنائنا وأجدادنا كانت شرقية مخالفة في جوهرها وطبيعتها للعقل الأوروبي فقد وضعنا في رؤوس ابنائنا عقولا أوروبية في جوهرها وطبيعتها وفي مذاهب تفكيرها وفي انحاء حكمها على الاشياء، اذن ما هي المشكلة؟ المشكلة أن مذاهبنا القديمة في التعليم قد كانت هي المذاهب التي يذهبها الأوروبيون ويتخذونها أصولا لحياتهم العقلية في العصور الوسطى والمطلوب هو التحديث في نفس الطريق الأوروبي أي أن نضع في عقول ابنائنا عقولا أوروبية في جوهرها وطبيعتها وفي مذاهب تفكيرها وفي انحاء حكمها على الاشياء.. ولكن كيف؟ يقول فإذا كنا نريد هذا الاستقلال العقلي والنفسي الذي لا يكون الا بالاستقلال العلمي والأدبي والفني فنحن نريد وسائله بالطبع ووسائل أن نتعلم كما يتعلم الاوروبي لنشعر كما يشعر الأوروبي ولنحكم كما يحكم الأوروبي ثم لنعمل كما يعمل الأوروبي ونصرف الحياة كما يصرفها أي لنكون في النهاية مقلدين لا مجددين، متبعين لا مبدعين. ويبدأ الدكتور حديثة بالوسائل ثم ينتهي بالمنهج والمذهب والشعور وطريقة تصريف الحياة وكأن هذا كله يمكن استعارته من سياقه التاريخي الاجتماعي المعرفي، واقحامه على واقع مختلف كل الاختلاف وهنا تحضرنا تجربة الشاعر والمفكر الهندي الكبير رابندرانات طاغور عندما انشأ في الهند مدارس أشرف عليها وكانت تجربته تهتدي أولا بالتراث والثقافة الهندية ثم تأخذ من التجربة الأوروبية ما هو إنساني وما يتفق مع هوية بلاده. ومع ذلك فقد قام طه حسين بتحليل العملية التعليمية في زمانه ووضع يده على مفاسدها وأشار الى أن هذه العملية توكلها الحكومات المتعاقبة الى أنصاف المتعلمين والجهلة وفاقدي المواهب فيخرج النشء معتل التفكير، سقيم الوجدان بينما ينبغي أن توكل هذه العملية الى صفوة الأمة من العلماء والمفكرين وربط طه حسين بين العملية التعليمية السقيمة والحياة الديمقراطية السقيمة، فنجاح الديمقراطية يفترض درجة معقولة من الوعي والثقافة بين ابناء الشعب حتى تنضج ارادتهم ويتمكنوا من اختيار حكامهم اختيارا صحيحا. ودعا طه حسين الى أن يكون التعليم العام مباحا للناس جميعا اذا استطاعوا ان يؤدوا أجره، فإن عجزوا عن ذلك مكنوا من تعليم ابنائهم بشرط أن يكونوا أهلا للانتفاع به، وأنا أرفض أشد الرفض واعنفه أن يقصر التعليم على طبقة من الناس دون طبقة.. ويحذر طه حسين من ازدحام الصفوف بالتلاميذ لأن ذلك خطر على العملية التعليمية يفرغها من مضمونها. ويتوقف عند حرية المعلم ويطالب الحكومة ألا تتدخل بينه وبين الطلاب فتفقده حريته وتشوه فكره وابداعه ثم يناقش باستفاضة كارثة الامتحان في العملية التعليمية ويرى ان هذا الامتحان أصبح هو الهدف للطلاب ولأهليهم بينما هو وسيلة لا أكثر ولا أقل ويرفض فكرة توجيه الطلاب بعد التعليم العام الى التعليم الجامعي على اساس درجات الامتحان لأن هذا الاساس الفاسد يحصل عليه الطلاب بعد أن يتقنوا الحفظ لا الفهم ولا التحليل ولا المناقشة ولا الاستنتاج وبشكل عام فإن الجزء الخاص بالتعليم في كتاب مستقبل الثقافة في مصر والذي يستغرق أكثر من 200 صفحة يدفع القارئ للمقارنة بين فساد التعليم الذي كان العميد يطالب باصلاحه وبين الواقع الراهن للعملية التعليمية كلها في مصر والحق ان المشكلات التي طرحها طه حسين كانت يسيرة للغاية بالمقارنة بما يحدث الآن، فقد أصبح المعلم أكثر جهلا وتخلفا وأصبح همه الأكبر اهمال التلاميذ في الصفوف بعمد لكي يبتزهم في دروس خصوصية مدفوعة الأجر في الخارج، واصبحت الصفوف أكثر ازدحاما مما كان يتخيله العميد وعندما كان طه حسين يتحدث عام 1937 عام صدور الكتاب عن مساوئ الامتحان كان يتحدث عن الغش في الامتحان على استحياء، والآن أصبح الغش موضة قديمة، وأصبح هناك معلمون وأساتذة في الجامعة يبيعون اسئلة الامتحانات للطلاب قبل موعد الامتحان وكان طه حسين يتحدث عن التعليم الجامعي ويندهش من كثرة التخصصات التي تؤدي الى تخريج طلاب يعرفون معرفة قليلة في فرع واحد من عشرات الفروع المعرفية، وكان يطالب بسد هذه الفجوة بالتقريب بين طلاب العلوم الطبيعية والتجريبية وطلاب العلوم الانسانية حتى لا تكون الجامعة موردا لتخريج الطلاب المصابين بالأمية الثقافية. والآن أصبحت الأمية الثقافية هي أهم سمات خريجي الجامعات، ولم يعد للجامعة نفس الاستقلال الذي كان على أيام طه حسين أما حرية البحث العلمي فقد تلقت في السنوات الاخيرة ضربات قاصمة تحت دعاوى دينية تارة وتحت دعاوى اجتماعية تارة أخرى واصبح المستوى العلمي لمعظم أساتذة الجامعة أقل بكثير من المستوى العلمي والثقافي لمدرسي التعليم العام أيام طه حسين، وهكذا تبدو المقارنة بين الحاضر والماضي مؤسفة ذلك لأن المنحنى الهابط علميا وثقافيا هو السمة البارزة التي تسم الجامعة تعليما وثقافة الآن. يتحدث طه حسين بعد ذلك عن واقع اللغة العربية في زمانه ويطالب بتطويرها وتحريرها ويرى أنها كائن حي يتغير ويتطور بفعل التطور الانساني ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها ولنا ان نضيف اليها ما نحتاج اليه من ألفاظ ومن تطوير في نحوها وصرفها وطرائق تعليمها حتى تتلائم مع حياتنا المعاصرة وتلبي احتياجاتها. ويرفض طه حسين رفضا قاطعا فكرة تقديس اللغة بحجة انها لغة القرآن فاللغة شيء والدين شيء اخر ولهذا يرفض احتكار المؤسسات الدينية العتيقة لتعليمها، ذلك لأن هذه المؤسسات تجمدت وتكلست في سجون الماضي السحيق بكل ما يتصل به من أساليب وألفاظ وتراكيب وحواشي ومتون لا تناسب حياتنا المعاصرة من قريب أو بعيد ويرفض طه حسين الفكرة التي تم ترويجها في الثلاثينيات والأربعينيات حول اللهجة العامية باعتبارها لغة يمكن ان تحل محل اللغة الفصحى ويرى ان هذه العامية ليست سوى لهجة لا أكثر ولا أقل وانها لا يمكن ان ترقى الى مصاف اللغة العربية الفصيحة، ومن وجهة نظره أن الشعب يمكنه أن ينتقل بسلاسة الى الحديث بالفصحى وذلك بعد تحقيق أمرين أساسيين: أولا ان يتم تحديث الفصحى نفسها لفظا وكتابة بحيث تبين وتعبر بسلاسة ويسر عن الأفكار والكلمات المنطوقة، ثانيا أن يتم تثقيف الشعب بمحو أميته الأبجدية والثقافية، وهكذا تتطور اللغة ويتطور الشعب معا فاللغة ليست فقط مجرد ألفاظ ومفردات وتراكيب وانما هي وعاء للفكر والثقافة والهوية. ولم يتوقف طه حسين في كتابه عند نقد التعليم المدني والديني في مصر، والمطالبة بتخليصها من عوائق التطور والاتصال بحضارة العصر، وانما التفت بصورة اساسية كذلك الى أنواع أخرى من الثقافة خارج اطار الثقافة الرسمية المنظمة، فطالب بضرورة ان تتعاون الدولة والشعب على تمكين المثقفين من أن ينتجوا فيضيفوا الى الثقافة ويجددوها، ويشاركوا في تنمية الثورة الإنسانية من العلم والفلسفة ومن الأدب والفن. ولابد كما يقول العميد من أن يتعاون الشعب والدولة على نشر أعظم حظ ممكن من الثقافة في طبقات الشعب، على أن تكون هذه الثقافة التي تنشر في طبقات الشعب واسعة عميقة متنوعة بحيث تتحقق الصلة العقلية والقلبية بين صفوة الشعب الممتازين وبين غيرهم من الطبقات التي تصرفها الحياة اليومية عن الفراغ للمعرفة. ولعل هذه الدعوة التي أطلقها طه حسين عام 1937 كانت البداية المبكرة لاقامة وزارة الثقافة في مصر ذات هيئات تقوم على رعاية الشأن الثقافي والفني، ولقد انشئت هذه الوزارة بالفعل عام 1958 وكانت ثامن وزارة ثقافة على مستوى العالم ولكن هل حققت حلم العميد؟ وينبه طه حسين الى ضرورة الترجمة وضرورة نقل الاثار الأدبية والعلمية والفلسفة الخالدة التي أصبحت تراثا للإنسانية كلها، والتي لا يجوز للغة حية أن تخلو منها، ويرى أن القصور في هذا الجانب يعد تقصيرا معيبا في حياتنا العقلية كلها، ويقول: ليس يكفي ان نشكو من أن الانتاج العقلي في مصر قليل في الكم وقليل في الكيف أيضا، فقد كان ينبغي لحياتنا العقلية الحديثة التي لم تنشأ اليوم، ولا أمس أن تنتج أكثر جدا مما أنتجت، وان ترفعنا الى منزلة ارقى من المنزلة التي نحن فيها من الثقافة العالمية، وفي الارض أمم اتصلت بالحياة الحديثة في الوقت الذي اتصلنا بها فيه أو بعد هذا الوقت بزمن طويل أو قصير، ولكنها كانت أسرع منا الى الانتفاع بهذا الاتصال، وأقدر منا على أن تفرض نفسها على الحياة الحديثة، وتضطر الأمم الراقية الى أن تجتهد في معرفتها، ثم الى ان تجد هذه المعرفة متاعا ولذة، ثم أن تترجم عنها الى لغاتها المختلفة. وما أظن أن هذه قد خلقت من جوهر أرقى من جوهرنا، أو امتازت بملكات لم نظفر منها بنصيب، وانما اتيحت لها ظروف لم تتح لنا، وبعض هذه الظروف خارجي لا نسأل عنه الا بمقدار، وبعضها داخلي نلام عليه أشد اللوم وليس هذا الكتاب الا صورة على ما نستحقه من اللوم على ما ورطنا فيه أنفسنا من تقصير. وطه حسين اذ يأخذ نفسه ويأخذنا بشدة على هذا التقصير، انما يدين المناخ غير الصحي الذي كان يحول دون تطور الحياة العقلية في مصر، وهو يلوم الدولة والمجتمع على هذا التقصير، وعلى هذه المساحة الضئيلة من الحرية التي يتحرك فيها المفكر والأديب والتي لا تكفي لابداع حقيقي. ويقول: ولعل ما يباح للأدباء ان يتعرضوا له وينتجوا فيه أن يكون أقل جدا مما يحظر عليهم ان يتناولوه ويخوضوا فيه. ما أكثر الذين يعيبون أدباءنا بأنهم لا يتصلون بالشعب، ولا يصورون حياته كما هي، ويتهمونهم ظلما بأنهم يتكلفون الاستقراطية ويتصنعون الامتياز. ولكن دع أدباءنا يتصلون بطبقات الشعب فيصوروا آلامها وحياتها البشعة ثم انتظر بعد ذلك ماسيصب عليهم من اللوم، وماسيهيأ لهم من الكيد وماسيوجه اليهم من التهم، وماسينالهم من المكروه وما أكثر ما يعاب أدباؤنا - يضيف طه حسين - بأنهم لا يعنون الا بظواهر النفوس، ولا يصورون دخائلها، ولا يتعمقون ضمائرها، ولا يرسمون شيئا من ذلك فيما ينتجون، ولكن دعهم يفعلوا ما يلامون على اهماله. ودعهم يظهروا النفس الانسانية عارية كما يفعل زملاؤهم الأوروبيون، وثق أنهم قادرون على ذلك، خليقون ان يبرعوا فيه، ويبهروا به، ان حاولوه، دعهم يفعلون ذلك ثم انتظر ما يصب عليهم الجمهور ورجال الدين، وادارة الأمن العام، والنيابة من المكروه. يجب أن يحرر الأدب والأدباء وان يتاح لهم القول في كل ما يشعرون به، ويجدون الحاجة الى القول فيه. ويجب أن تكون قوانيننا سمحة، وان يكون تطبيقها سمحا، أيضا وان يكون ذوق الجمهور عندنا سمحا كذلك. هذا ما قاله العميد منذ 64 عاما عن حرية الابداع، وما أشبه الليلة بالبارحة، فلا الدولة سمحة، ولا القانون ولا رجال الدين، ولا الجمهور. وعلى الأديب ان يتحايل على قيوده، وعليه ان يسير فوق كابل من الاسلاك، المشحونة بالكهرباء، وعليه بعد ذلك ان يكتب، لكنه في النهاية لن يكتب الا ما يقبله كل هؤلاء المتربصين بحريته، والذين يطالبونه في كل لحظة ان يعيش سجينا في محنة كلامه المؤجل. فتحي عامر

Email