تيرنر .. الرسام الذي مهد الطريق للحركة الانطباعية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كان القطار يعبر الجسر متجها نحوهم بسرعة كبيرة مخترقا حبات المطر التي تتخللها اشعة الشمس. وفي غضون لحظة سيندفع مارا بهم بضجيج يصم الآذان متجها الى الامام نحو بريستول على طول سكة الحديد الغربية الكبيرة الجديدة، وفجأة، لم يستطع احد المتجمهرين ان يظل صامتا، فقال: من منكم رأى مثل هذا التجمع السخيف؟، وبهذا القول، اشاح بوجهه بعيدا عن اللوحة. لم تكن تلك استجابة غير عادية في اوساط اولئك الاشخاص الذين كانوا يحضرون معرض الاكاديمية الملكية في عام 1844 فبالنسبة لهم، كانت اللوحة الزيتية للرسام جي ام دبليو تيرنر التي تحمل عنوان «مطر، بخار وسرعة» دليلا واضحا على ان اعظم رسام للمناظر الطبيعية في انجلترا قد تمادى كثيرا وهو في سن التاسعة والستين. كانت علامات هذا التغير موجودة منذ بضع سنين: فلوحات المناظر الطبيعية التي تحمل كافة التفاصيل ضاعت في سحابة ضبابية من الالوان وفي السموات المظلمة بحالات المغيب غير المرتبة للشمس وفي الشخوص الذين لا وجوه لهم. وكان هذا كله مخيبا للآمال بعد الأعمال الرائعة التي كان يبدعها في بداية مسيرته المهنية بكل ذلك الاهتمام الكلاسيكي بالتفاصيل والتنفيذ المضني، وبدا للجمهور وكأن تيرنر لم يعد يأبه برسم مايراه. وعلى العكس من ذلك، فان هذا هو بالضبط ما كان يقوم به تيرنر، وكان قد ابلغ احد النقاد ممن سخروا من تصويره المهلهل للسفن قائلا: «عملي لا يتمثل في رسم ما اعرفه وانما ما أراه». وقبل نصف قرن على استخدام المصطلح من قبل عصبة من الرسامين الفرنسيين، كان تيرنر يشق الطريق لشكل جديد من الفن البصري، الذي لم يحاول ان يصنع نسخة فوتوغرافية او شكلا مثاليا، وانما حاول ان يترك «انطباعا». كان تيرنر يقدم اتجاها جديدا ـ اتجاها تمضي فيه اللوحة المرسومة الى ماهو وراء الحواس البصرية لتصل الى الاحاسيس العاطفية وما يسمو على الوجود المادي. وبعد مرور اكثر من عشرين عاما على وفاة تيرنر في عام 1851، قام الرسام الفرنسي كلود مونيه، الذي كان قد شاهد اعمال تيرنر واعجب بها اثناء اقامته في لندن قام برسم لوحته الشهيرة «انطباع، شروق الشمس» واعطى الاسم المألوف حاليا للحركة التي بدأها تيرنر.لكن هذا لا يعني ان الشهرة والاعتراف لم تأت الا بعد وفاة تيرنر، ففي حياته، كان معروفا على نطاق واسع ويكافيء بشكل مجز وفي كل شيء فعله من فنه الى تعاملاته التجارية وعلاقاته، كان تيرنر ينظر بازدراء الى التقاليد البالية. وقد شجع خصومه الفنيين واستأسد على رعاة الفن. كان لديه ايضا ميولا للسرية والغموض فيما يتعلق حتى باكثر الحقائق الانسانية في حياته. وفي بعض الاحيان، كان يزعم انه من مواليد كنت، بينما كان يخبر آخرين بأنه ينحدر من ديجون. وقاد البعض الى الاعتقاد بأنه ولد في عام 1769 او 1770 او 1772، والحقيقة هي ان جوزيف مالورد ويليام تيرنر ولد في لندن في عام 1775، مع ان التاريخ الدقيق غير معروف. كان تيرنر الابن الاكبر والوحيد لكوافير يعمل في كوفنت جاردن وزوجته، وفي سن العاشرة، ارسل للعيش مع احد اعمامه في برنتفورد ودخل المدرسة هناك، وفي المدرسة ركز جهوده على الرسم فأذهل الآخرين ببراعته، وبحلول موعد عودته الى والديه في عام 1787 كان والده يعرض محاولات ابنه في سن الثانية عشرة في نافذة محله وبيعها مقابل ثلاثة شلنات للوحة الواحدة. وقد عمل تيرنر، الذي انجذب في البداية للمباني ومشاهد المدينة، في العديد من اعمال المهندسين يلون النقوش ويوفر رسوما للسماء ومناظر امامية لمخطوطاتهم. وكان تيرنر قد دخل مدرسة ليلية في عام 1789، وهو في سن الرابعة عشر، وحصل على قبول في مدارس الاكاديمية الملكية. وبصفته طالبا مجتهدا، فقد تمكن من عرض اول لوحة له بالالوان المائية في الاكاديمية الملكية في السنة التالية من دخوله المدرسة. ولكن لم تعرض اول لوحة زيتية له الا في عام 1796 ولقد حملت تلك اللوحة اسم «صيادون في البحر». ومنظر الصيادين وهم يصارعون مياه البحر العاصف لا يشد انتباه العين فحسب وانما يأسر ايضا الخيال والعواطف. ووصفها احد النقاد في حينه قائلا: «انها عمل عقل أصيل». انطلق تيرنر بعد ذلك في حياته العملية واصبح عضوا مشاركا في الاكاديمية الملكية وهو في سن الرابعة والعشرين واكتمل دخوله للتيار الرئيسي في الفن في عام 1802 عندما حصل على العضوية الكاملة في الاكاديمية الملكية، وحفاظا منه على مكانة مميزة، رسم لوحات كبيرة حول موضوعات كلاسيكية، مما جعل النقاد يقارنونه برسامين مبدعين امثال الرسام الفرنسي الكلاسيكي كلود وجنسبورو وحتى رمبرانت، ولكنه مالبث ان ثار بشكل تدريجي على الاسلوب الكلاسيكي التقليدي واخذ يشق طريقا خاصا به عرف فيما بعد باسم الحركة الانطباعية. ومات تيرنر في عام 1851 مخلفا وراءه 20 الف عمل فني وثروة مقدارها 140 الف جنيه استرليني اي ما يعادل اليوم حوالي 10 ملايين جنيه وبعد ان حصد شهرة لم يسبقه اليها أحد من قبل. ضرار عمير

Email