استاذ الفلسفة صلاح قنصوة لـ «بيان الكتب»: الكتـاب منحنـي الطمـوح والقـلق الفكري

ت + ت - الحجم الطبيعي

بيان الكتب: رغم كونه واحدا من ألمع المشتغلين بالفلسفة المعاصرة في الحقل الأكاديمي المصري، لنحو أربعين عاما متصلة، فإن د. صلاح قنصوة ينفي عن الفلسفة الطابع العلمي(!)، بسبب اتساع وشمول الوقائع والظواهر والمشكلات التي تتناولها، وإن كانت ـ كما يقول ـ ستظل «أما للعلوم»، لأن «الأم» التي تلد علماء لا ينبغي أن تكون بالضرورة عالمة! وربما تعزا رؤية د. قنصوة تلك إلى اختياره المبكر لدراسة مادة «فلسفة العلم»، التي ألزمته بالإحاطة العميقة بواحدة من أعقد العلوم الطبيعية، وهي مادة «الفيزياء الرياضية» أو النووية، مما مكنه ـ كما يقول ـ من إعمال أعلى مستويات التدقيق في دراسته وتدريسه اللاحق لمادة «فلسفة الفن (وعلم) الجمال» وهو النهج الذي أهله ـ في الأغلب ـ للفوز، العام الماضي، بجائزة التفوق في العلوم الاجتماعية، ومن قبلها جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة (1980)، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى (1983)، وذلك عن مجمل أبحاثه وكتبه، التي أصدرها في تلك المجالات، على مدى العشرين عاما الماضية، مثل «فلسفة العلم»، «نظرية القيمة في الفكر المعاصر»، «الموضوعية في العلوم الإنسانية»، «فلسفة العلوم الاجتماعية». والأخير هو أول كتاب يجري نشره في هذا المجال باللغة العربية. ود. صلاح قنصوة شغل مواقع أكاديمية متعددة مثل عمادة المعهد العالي للنقد الفني ورئاسة قسمي الفلسفة بكلية الآداب جامعة الزقازيق وأكاديمية الفنون، بجانب عمله كخبير في شئون الفلسفة وعلم الاجتماع بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وهو يعمل حاليا كأستاذ غير متفرغ لمادة الفلسفة ومناهج البحث بقسم الدراسات العليا بأكاديمية الفنون، بجانب إشرافه على رسائل الدكتوراه في هذا المجال بالعديد من الجامعات المصرية. وفي هذا الحوار الذي يتصل بعلاقة د. قنصوة بالكتاب وفلسفته لديه، كان التساؤل الأول له هو: ـ هل كان لأحداث معينة، أو أشخاص بذواتهم، أو تحولات شخصية محددة، دور في رحلتك مع القراءة والاطلاع؟ ـ نعم، لكن بدايات هذه الرحلة حملت طابعا خصوصيا جدا، وإن كان لا دخل لي بها! فأثناء دراستي بالمرحلة الابتدائية (القديمة) وجدت نفسي أشارك أشقائي الأكبر عمرا القراءة الجادة في أوقات فراغهم، فجاءت ممارستي لهذا الفعل قبل أن يتفتح أفقي العقلي بالقدر الكافي لها، مما حال دون تمتعي بمباهج الطفولة المعتادة، بما فيها من مصادقة أقران من سني، إذ حل إخوتي محلهم بسبب اصطحابهم الدائم لي في جولاتهم، التي كانت تطغى عليها أيضا المجادلات الساخنة حول القضايا الثقافية والسياسية، المطروحة في صدارة النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي. مما شد اهتمامي إلى هذا النوع من القضايا، في حدود إدراكي، مقارنة بأقراني وزملاء دراستي. وفي هذا المناخ كان شقيقي يحفز في نفسي شيمة الطموح، كي أكون في مقدمة السباق التعليمي، مما ولد لدي الرغبة الدائبة في هذه المنافسة. لذا كنت أهدي أي مستوى من التفوق في الاختبارات المدرسية إلى أخي، باعتباره المعني بهذا التقدم ولست أنا(!). إلا أنه كان دائم الدعوة لي كي أتجاوز من سبقني. وأذكر أنه حين حاولت استعادة مسلك أخي في هذا الشأن مع نجلي نهرتني زوجتي كي لا أنقل إليه هذا الشعور بالقلق، الذي يصاحبني حتى اليوم، نتيجة ما بثه شقيقي في داخلي. وفي مطلع المرحلة الثانوية تابعت بشغف الأفكار التي كان يطلقها رجل يدعى «جاري ديفيز»، باسم حركة «المواطن العالمي»، وهي حركة نشأت في بريطانيا على ما أتذكر، وكانت تدعو إلى توحيد العالم، استنادا إلى أن البشر جميعا ينتمون إلى وطن واحد، هو كوكب الأرض. وهي فكرة شدت انتباهي بقوة لدرجة أنني زعمت أنني سكرتير هذه الحركة في مصر (!)، وبدأت في الترويج لها بين زملاء الدراسة. إلا أنني كنت أواجه منهم بالتهكم واتهام تلك الأفكار بالسذاجة والمثالية، في وقت كانت البيئة السياسية والفكرية المصرية تعج آنذاك (أواخر الأربعينيات من القرن الماضي) بالأفكار الوطنية والعداء للاستعمار الأوروبي. المحطة الأخرى في بدايات تلك الرحلة مع القراءة كانت مع صحف ومجلات حزب الوفد، فقد نشأت في بيت كان كبيره، أي والدي (وفديا صميما)، وهو الوصف الذي كان يطلقه عادة صغار الموظفين على أنفسهم حينذاك. وقد توثقت علاقتي بأفكار الوفد مع ارتباط «طه حسين» به، الذي تابعت آراءه الجريئة بإعجاب، وخصوصا في مجال التعليم. وزاد من قوة تعلقي به ملامح شخصيته المؤثرة (الكاريزما)، بهيئته وبيانه وإيقاعات صوته، حين استمعت إليه للمرة الأولى، خلال المحاضرات التي كان يلقيها كل أربعاء بكلية الآداب جامعة القاهرة. ـ إذن ما هي أوجه التأثير المنهجية، التي يمكن أن تكون قد تولدت لديك عبر قراءتك لأعمال طه حسين؟ ـ لطه حسين طريقة في التعامل مع القارئ لكتبه، وذلك عبر كتابته لمقدمة طويلة تؤكد على حرية المتلقي في الاختلاف معه، بما يمنحه شعورا بالأمان والاحترام لعقله. ويزيد على ذلك أسلوب د. طه في فحص المراجع التي يستند إليها (غربتلها)، بغية التمييز بين ما يؤخذ من مصادر موضوعية، وما يترك من مصادر منحازة، ليخلص من ذلك إلى بلورة صافية لما يبحثه من وقائع، كما يتجلى ذلك في «إسلامياته»، مقارنة بـ «إسلاميات» العقاد، دون فحص كما يظهر في كتابه عن «الإمام علي» وذلك رغم التضارب الحاد بين تلك الروايات، لينتهي منها إلى أن ما تبثه هذه المصادر من تناقضات تعكس شخصية هذا الصحابي الكبير. وهو أسلوب يدعو للرثاء، لأنه يؤدي إلى تزييف التاريخ، باختلافه لخصائص شخصية أخرى! ـ لكن، ما هو الكتاب الأول، الذي حفر علاماته في نفسك؟ ـ أعتقد أنها إحدى الروايات التي كانت تصدر في مصر، ضمن «سلسلة الجيب»، وظهرت باسم «دمعة وابتسامة» للكاتب المجري الأصل «جيبور فازري»، وهي تدور حول قصة حبه لامرأة فرنسية التقاها، خلال إقامته في باريس ثم لقت مصرعها أثناء الحرب، تم اقتباسها فيما بعد عبر السينما العربية في فيلم شهير باسم «عزيزتي»، لكن ماأثر علي هو أسلوب المؤلف في التعبير عن مأساته بطريقة ساخرة، وغير مألوفة من قبل. ـ هل نستطيع القول ـ إذن ـ ان هذه الرواية وما سبقها من قراءات مبكرة، بتأثير من أشقائك، شكلت بعض مصادر قلقك الفكري، كي تتجه، فيما بعد، لدراسة الفلسفة؟ ـ نعم، فما تلقيته من قراءات متصادمة في مطلع عمري كانت البداية لنزع اليقين الساذج، فتشكلت لدي القدرة على الشك في المسلمات الباهتة. ثم جاء تقلبي المستمر بين المذاهب السياسية والأحزاب الكبرى، من «إخوان» و«وفد» و«مصر الفتاة» خلال المرحلة الثانوية، لتزيد من جرأتي والسخرية من القوالب الذهنية المنمطة. بيد أن تفتحي على قراءة الماركسية، فتح لي عالما آخر عبر فهم آليات تراكم الثروة في المجتمعات الرأسمالية. وهو ما دفعني للاهتمام بالفلسفة. وأذكر أن أول كتاب في هذا الشأن كان بعنوان: «مدخل إلى الفلسفة «لمؤلفه» أزفلت كولب. فجاء هذا العالم ليقدم لي إجابات جسورة على أسئلة محيرة لدى الإنسان وهو ما شجعني على طرح أسئلة جديدة، وعلى الاجتهاد في البحث عن إجابات لها، كي لا أكون مجرد تابع لما أتلقاه. ومن يومها اتخذت قراري بالاشتغال بالفلسفة. ـ ولماذا اخترت تحديدا فلسفة العلم كموضوع للدراسة والتدريس فيما بعد؟ ـ لأن العلم الأمثل هو ما أكدته العلوم الطبيعية في كشوفاتها ونتائجها وتطبيقاتها، وفي صدارة ذلك جاء علم «الفيزياء النظرية» أو «النووية» فرأيت أنه الأقدر، كي أستعين به في موضوع بحثي، فانكببت على دراستها، فور خروجي من المعتقل السياسي في مطلع الستينيات، وقبول أوراق تعييني كمعيد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية. كما منحني هذا الاختيار الفرصة في الامتناع الحر عن المساهمة بأي رأي مغاير أو مناوئ في القضايا العامة، وكان ذلك هو المطلوب خلال تلك السنوات، إلى أن جاءت نكسة يونيو 1967 فانفجرت الطاقات والآراء المتعددة، فاتجهت لبحث مسألة «الموضوعية» في العلوم الاجتماعية. ـ لكن الشكوك ما زالت قائمة حول مدى وجود الموضوعية في هذا الميدان؟ ـ لقد قدمت طرحا مختلفا في هذه المسألة، استنادا إلى التمييز بين خصائص العلوم التجريبية وخصائص الأيديولوجية والفلسفة. فالأولى تعتمد على قواعد وممارسات قابلة للاتفاق، إذ يمكن إعادة الإجراءات التي أدت إلى إنتاج الوقائع (الوحدات العلمية)، مقارنة بهذه (الوحدات) في العلوم الاجتماعية، التي تمثل مواقف عريضة جدا. لذلك استطاع علم «اللغة» الحديث وحده أن يؤكد علميته، عبر بحثه للوحدات والوقائع التحليلية، التي يدرسها. بينما لاتزال ماتسمى بـ «العلوم الاجتماعية» تنظر في المواقف، مما يفقدها القدرة على التنبؤ بما قد يتم في مجالات بحثها. ـ إذن كيف تنظر إلى علم «المستقبليات» في هذا الصدد؟ ـ أن أربط هذا المجال باصطلاح «علم» يمثل نوعا من التزيد. و«المستقبليات» تعكس مجموعة بحوث تتفاوت في دقتها العلمية، على غرار (علوم) الأرصاد الجوية، والأجرام، والإعلام.. الخ. ـ هل يعني ذلك أن الفلسفة تفتقد أيضا إلى الطابع العلمي؟ ـ بالتأكيد، فطبقا لما أوردته من تعريف لمصطلح العلم، لا يمكن للفلسفة أن تخضع القضايا والمشكلات التي تدرسها للتحقق أو الاتفاق، مما ينفي قدرتها العلمية، إنها تتحدث عن مسائل شديدة الاتساع، مقارنة بالوقائع شديدة التحديد في العلوم التجريبية. ـ لكن الفلسفة هي التي عبرت الطريق أمام العلم الحديث؟ ـ هذا صحيح، فهي «أم العلوم» حيث كان أول عالم هو أول فيلسوف، قبل أن يستقل العلم الحديث بموضوعاته عنها ثم أن أي أم لا ينبغي أن تكون عالمة لأنها أنجبت علماء! ـ وما هو تقييمك لوضع الفلسفة الراهن في مصر؟ ـ هناك اجتهادات قليلة، أي لمن يحاول أن يقدم شيئا مختلفا، بعيدا عن التبعية لفلسفة ما. ويمكنني هنا أن أشير إلى اجتهادات «عبد الرحمن بدوي» في الوجودية، بعيدا عن تأثيرات أستاذه «هيدجر». وكذلك زكي نجيب محمود في محاولاته للتركيب والتوفيق بين البراجماتية الأمريكية والتحليلية الإنجليزية والوضعية المنطقية وذلك لأن الفلسفة تعني القدرة على تشكيل وجهات نظر، وهي مهمة تتعرض حاليا لمحنة شديدة على يد العديد من أساتذتها في الجامعات، بعد أن تناسوا مهامهم العلمية لصالح الاتجار أو الغوغائية! القاهرة ـ «بيان الكتب»

Email