استراحة البيان ، ومن اللفظ ما قتل ، يكتبها اليوم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

على أرض المطار(1), حطت طائرة رئيس الوزراء كان ذلك فى عام 1946 وكان الصحفيون ومراسلو الوكالات قد تجمعوا على أرض مطار القاهرة - ألماظة كما كانوا يسمونه فى ذلك الزمان لاستقبال (صاحب الدولة) إسماعيل صدقى باشا العائد من لندن، بعد مفاوضات مضنية أفضت كما تسامع القوم يومها إلى معاهدة دخلت التاريخ السياسى باسم (معاهدة صدقى بيفن) حاملة كما ترى اسم رئيس وزراء مصر وشريكه ارنست بيفين وزير خارجية بريطانيا. والحاصل ان كواليس المفاوضات تسربت منها المعلومات عن توصل الطرفين الى اتفاق يجلو بمقتضاه عسكر الانجليز عن ضواحي القاهرة حيث كان وجودهم قذى فى عين الحركة الوطنية ويتوجهون من ثم للمرابطة فى منطقة قناة السويس إلى الشرق من مصر.. أما مشكلة السودان ووحدته مع مصر فيبدو أن الطرفين كانا قد توصلا بشأنه إلى نوع من التفاهم ولكن مع تأجيل نظره إلى مرحلة (الحل النهائي) إذا ما استخدمنا تعبيرات أوسلو التى يتبادلها اللاعبون فيما يشبه حوار الطرشان على ساحة المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية. وبقدر ماكان صدقي باشا سعيدا بحكاية جلاء الانجليز عن العاصمة كان (دولته) فى حال من الانتعاش متصورا أنه استطاع أن يفك عقدة السودان التى حرص الانجليز على التعتيم عليها إلى مراحل مقبلة إذ كان السودان الصخرة التى تحطمت فوقها كل المفاوضات السابقة ناهيك أن أوساطا كثيرة حرصت فى تلك الأيام على تصوير إسماعيل باشا صدقي فى صورة السياسى الداهية ذي النزعة العملية البراجماتية كما قد نسميها الذى ينظر إلى الأمور من زاوية المصلحة البحتة المباشرة بعيدا عن العواطف والانفعالات. وتشاء سخرية المصادفات أن يهبط السياسي الداهية, العملي البراجماتى وقد استبدت به انفعالات الانجاز وشعور من الخيلاء أوصلته إلى درجة توصف بالعبارة الشهيرة: (استخفه الفرح) وعندما نزل صدقي باشا من الطائرة أسعده طبعا أن يلاقي طوفانا من الطرابيش الحمراء فى انتظار تصريحاته عما حققه فى المفاوضات.. هنالك بادره الصحفيون بالسؤال المعهود: * خير ياباشا؟ - هنالك أيضا لم يملك صدقي باشا نفسه من أن يصرح قائلا: - جبت لكم السودان.. ياولاد! هنالك كذلك طار التصريح على أجنحة البرق إلى دوائر (هوايتهول) فى وزارة الخارجية فى لندن.. وجن جنون أرنست بيفين وأعلن الانجليز تراجعهم عن الاتفاق من أساسه.. وسلقوا صدقي باشا بألسنة حداد.. وبعدها ثارت ثائرة المعارضة الحزبية فى القاهرة وأشبعوا إسماعيل صدقي لوما وتقريعا وربما سخرية وتهكما على تصريحه إياه الذى أملاه شعور الخفة أو الجزل أو اللامسئولية أو الاستعجال. وهكذا كانت نهاية السيرة السياسية لإسماعيل صدقى باشا الذى سقطت وزارته وأسلمته الظروف إلى التقاعد والعزلة وربما إلى شعور من الندم ظل يراوده على (بنت شفة) بدرت عنه وكلفته كل هذا الثمن الفادح. ولعلنا نذكر (بنت شفة) أخرى ظلت مثل قضية تعلق بها محامو بطل الرياضة الأمريكية الأسود او.جي. سمبسون خلال محاكمته بتهمة قتل زوجته وصديق لها. لقد صرف المحامون الشطار النظر عن تفنيد القرائن ودحض الاتهامات ولم تكن بالهينة ولا البسيطة وركزوا جهودهم على أن يلعبوا بورقة التمييز العنصري من جانب البيض ضد السود. وكانت خطتهم كما اعترف بعضهم فيما بعد هى اقناع المحلفين وهم قوم من أواسط المواطنين ان لم نقل من غمارهم وهذا ما تقضي به التقاليد القضائية فى أمريكا بأن المتهم الأسود هو ياحبة عيني ضحية مؤامرة محبوكة الأطراف حاكتها عنصرية رجال الشرطة البيض.. ولقد وجدوا بغيتهم قشة النجاة فى كلمة.. مجرد (بنت شفة) وردت فى ظرف ما.. على لسان أحد رجال التحقيقات يصف بها السود وهى (نجر) (بكسر النون) وهي كلمة أصبح محظورا التفوه بها لا فى مجالات علنية ولا فى مستندات لها صفة الرسمية ولا على ألسنة إنسان أمريكى مسئول دع عنك أن يكون محققا منتميا لهيئة انقاذ القوانين.. لماذا؟ لأن كلمة (نجر) صارت تحمل بين حروفها شحنات معبأة تاريخيا من موروث التعصب العرقى واستعلاء البيض العنصرى واحتقارهم لابناء العرق الأسود.. وذلك موروث يرجع كما هو بديهى إلى أيام كان السود عبيدا مسترقين لدى البيض وهو وضع لم ينته رسميا على الأقل الا منذ قرن واحد وربع قرن وان ظلت ذيوله وتداعياته وذكرياته الكئيبة ممتدة إلى أحفاد السود موصولة ربما حتى كتابة هذه السطور. وبعدها نجح المحامون فى استغلال كل هذه التداعيات من أجل تبرئة سمبسون. بوسعك إذن ألا تطلق على لفظة (نجر) هذه وصف (بنت شفة) بل هى بالأحرى.. (كارثة شفة) إن شئت التعبير وربما نترجمها على أنها تعنى (العبد الأسود الزنجى التافه الحقير) لا عجب أنهم حين يريدون التعرض لهذه الكلمة فى التحقيقات أو الكتابات الجادة فهم يشيرون إليها بأول حروفها على أنها (إن وورد) وهو ما قد يراد فى قولنا (كلمة حرف العين) بدلا من استخدام لفظة (عبد) لا عجب أيضا أن تتحادث الأوساط الأمريكية حاليا عن استقالة موظف كبير أبيض فى حكومة العاصمة واشنطن المحلية حين كان يناقش بنود الميزانية مع زميله الزنجى الأسود (الأفرو أمريكى) كما أصبحوا يسمونه تخفيفا والتفافا من حول المسميات والمفاهيم. يومها أراد صاحبنا الأبيض أن ينتقد ضآلة البند المرصود لصالح الطبقات الفقيرة فى أحياء العاصمة الأمريكية.. ساعتها لم يسعفه المنطق الا باستخدام (بنت شفة) مستقاة من تراث آبائه شخصيا وكانوا قد هاجروا من اسكندناوه فى شمال أوروبا فقال: ان البند (نجردلى) وكلمة (نجردلى) هى فى لغات أوروبا الشمالية النوردية تعنى (ضئيل بدرجة مزرية) ولا علاقة بها بالزنوج ولا بالتمييز العنصرى.. لكن على من تعزف مزاميرك ياداوود؟.. لقد سمعها السيد الزميل الأسود.. وبدلا من أن يفتح القاموس ليعرف معناها المستقى من لغات السويد أو النرويج الكلية الاحترام, إذا بصاحبنا يقيم الدنيا ولا يقعدها.. فيشكو إلى حاكم الولاية وإلى منظمات حقوق الإنسان وإلى سائر طوب الأرض كما يقولون عن تلك الإهانة التى لحقت الشرف الزنجى الرفيع بالاذى الذى لم يكن ليسلم إلا إذا انقطع عيش الموظف الأبيض الغلبان الذى استقال فعلا وربما أقسم الأيمان المغلظة ألا يجلس إلى زميل أو زميل من السود الا وبينهما قاموس يحدد المعانى ويرسم الدلالات وينقذ المواقف من مغبة ما قد تسبب فيه بنات الشفاة حين ينبس بهن المتكلمون.

Email