استراحة البيان ، يكتبها اليوم: جابر عصفور

ت + ت - الحجم الطبيعي

اسكندرية مارية دعاني صديقي الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي وزوجه الدكتورة سهير عبدالفتاح الباحثة الموسيقية على العشاء في منزلهما, وكان ذلك بمناسبة زيارة صديقين من المغرب الاقصى, هما الاستاذ احمد الحليمي وزير شئون مجلس الوزراء المغربي والدكتور علي اومليل الاستاذ بجامعة الرباط والمفكر المرموق. وكالعادة دارت الاحاديث حول القضايا الثقافية التي نرتبط بها بأكثر من رابطة وجرتنا الاحاديث الى مقالات حجازي التي يكتبها في جريدة (الاهرام) القاهرية عن الاسكندرية خصوصا عن تمثال الاسكندر الاكبر الذي اثارت قضيته صديقنا السكندري الدكتور عادل ابو زهرة الذي يقود جماعة من عشاق الجمال المدافعين عن الوجه الحضاري العريق لمدينة الاسكندرية. وتتلخص القضية في ان احد الفنانين اليونانيين اهدى مكتبة الاسكندرية تمثالا للاسكندر الاكبر ممتطيا صهوة حصانه مشرعا سيفه كأنه يدخل غازيا المدينة التي حملت اسمه, ويبدو ان البعض اشار على محافظ الاسكندرية المحبوب ألا يضع التمثال في مدخل مكتبة الاسكندرية الجديدة وان ينقله الى ميدان الشهيد عبدالمنعم رياض ويضعه فيه, وهذا ما اعترض عليه اعضاء جمعية اصدقاء الموسيقى والفنون مع اقرانهم من اعضاء الجمعية المصرية لتنمية المجتمع وهما جمعيتان من اهم الجمعيات الاهلية في الاسكندرية, وكان سبب اعتراضهم يرجع الى دلالة التمثال التي تجسد معنى الغزو العسكري وليس التآخي الحضاري, كما اعترضوا على جماليات التمثال الذي رأوا فيه عملا لا يليق بمدينتهم التي كانت موئل الفنون على امتداد التاريخ وذهبوا الى ان المقاييس الجمالية للتمثال غير متناسبة وان الحصان الذي يمتطيه الاسكندر اشبه بالبغل منه بالحصان الأصيل فضلا عن ان وضع التمثال نفسه يؤكد معنى الحرب بالرمح المشرع في يد الاسكندر كما لو كان علامة الموت المتوعد. وتشعب بنا الحديث حول هذا الموضوع خصوصا انني كنت سأترك القاهرة في صباح اليوم التالي للسفر الى مدينة الاسكندر لالقاء محاضرة فيها, وتحدثنا عن دور الجمعيات الاهلية في الارتقاء بالذوق العام وضرورة الحفاظ على التقاليد المعمارية للمدينة الجميلة وازالة الشوائب التي فرضتها اذواق العسكر الذين لا ذوق لهم واتفقنا على انه من الضروري لكل مسئول ألا ينفرد برأي في شيء وان الشورى هي السبيل الى النجاح في كل شيء ابتداء من السياسة وانتهاء بتخطيط المدن وعمارتها, واكدنا اهمية الاستعانة بالمختصين والمهتمين من ذوي الثقافات الرفيعة ومشاورتهم دائما, حتى لا ينتهي الانفراد بالرأي الى اتخاذ قرار خاطىء مثل قرار وضع تمثال قبيح يجسد معنى الغزو من الخارج في وسط ميدان شهيد من شهداء الدفاع عن استقلال الوطن وحريته. واذكر ان جملة (الاسكندرية مارية وترابها زعفران) وردت اثناء الحوار اكثر من مرة ولفت انتباهنا تكرارها ودفعتنا الى تأمل معناها خصوصا بعد ان قال الصديق الحليمي انه تعود على سماع هذه الجملة تجري مجرى الامثال في موطنه فاس, فدهشنا من ذلك ولكن دهشتنا سرعان ما زالت عندما تذكرنا العلاقة الوثيقة بين الاسكندرية والمغرب طوال تاريخها, واسترجعنا ما كان يقوم به طريق الساحل من دعم التواصل بين المشرق والمغرب وما كان يقوم به ميناء الاسكندرية من استقبال سفن التجارة مع قوافل الحجاج التي كانت تأتي بالبر والبحر, واظنني ذكرت الحضور باجتهاد بعض المؤرخين المحدثين الذين رأوا دليلا على التواصل المغربي المشرقي في استمرار مقامات الزهاد والمتصوفة على امتداد الساحل المغربي من (سيدي عبدالرحمن) الى (سيدي براني) في مصر الى (سيدي بوسعيد) في تونس وانتهاء بكل المقامات التي تحمل كلمة (سيدي) قبل اسم صاحبها الى نهاية شواطىء المغرب الاقصى, وقلت لهم ان ابا العباس المرسي حامي الاسكندرية وشيخها الاكبر والقادم اصلا من (مرسية) في الاندلس, دليل على هذا التواصل شأنه في ذلك شأن الأولياء المدفونين حوله والذين يشتركون معه في الاصل المغربي ابتداء من استاذه ابي الحسن الشاذلي وانتهاء بكل تلاميذه الذين حوتهم الطوائف الصوفية في مصر. ولعل صديقنا علي اومليل هو الذي اضاف ان بعض الحجاج المغاربة كانوا يتوقفون في مصر ويقررون الاقامة فيها اما في القاهرة او في الاسكندرية, وان الاسكندرية كانت منطقة جذب للهجرات المغاربية التي وجدت فيها طيب المأوى وحسن المعشر, فنقلت الى أهلها في المغرب الاقصى الجملة التي سارت مسار الامثال وهي: (اسكندرية مارية وترابها زعفران) وقد عقب احمد عبدالمعطي حجازي على ذلك بقوله انهم وضعوا ارض الاسكندرية موضعا مقدسا بذلك, وقرنوها بمعنى الحماية الدينية التي يجدها المسيحيون في اللجوء الى مريم العذراء ام المسيح, فالمؤكد ان عبارة اسكندرية مارية تشير الى (ماري) او (مريم) او حتى الى التسمية نفسها التي نطقها قبط مصر (مارية) وهذه الاسماء كلها تنويعات صوتية تؤدي معنى البتول ام المسيح والصدر الحنون لكل من ينتسب اليه, ومضى حجازي يقول انه لا يزال يفهم العبارة في ضوء ما يعرفه من ان الاسكندرية قصبة الكنيسة الارثوذكسية المصرية التي تسمى كنيسة الاسكندرية كما تسمى الكنيسة الكاثوليكية كنيسة روما والكنيسة الارثوذكسية اليونانية كنيسة القسطنطينية, كما اضاف انه على بحيرة مريوط جنوب الاسكندرية اكتشف منذ حوالي نصف قرن مرفأ قديم هو مرفأ ماريا وكان في العصور القديمة يعد المدخل التجاري لوادي النيل وقد بقي من معالمه القديمة رصيف ومخازن للغلال وكنيسة بيزنطية صغيرة. ومارية في العبارة التي تحاولون فهمها هي مريم العذراء ام السيد المسيح. وسألني الصديق الحليمي عن رأيي في هذا التفسير فقلت له ان احتمال صحته كبيرة خصوصا ان دلالاته تجمع بين المعاني الروحية والمعاني النفسية, وتصل معاني الاسكندرية بالسكينة الروحية والاطمئنان النفسي والامان المادي في الوقت نفسه, ومضيت قائلا: اذكر انني سألت اقربائي المعمرين حول دلالة جملتهم الاثيرة: (اسكندرية مارية وترابها زعفران) فقدموا لي اكثر من اجابة غير الاجابة التي انطوى عليها تفسير الصديق احمد حجازي. اما التفسير الاول فأظنه بعيدا بعض الشيء حتى وان اتصل بدلالة مرتبطة بالمعاني المباركة في المسيحية وهي تفسير يرد كلمة (مارية) الى الكلمة الاجنبية (Merry) التي تؤدي دلالة المرح والبهجة, ولا تخلو من معنى البركة, وكلكم تعرفون الجملة الشهيرة (MERRY CHRISTMAS) التي يتبادلها المسيحيون الناطقون بالانجليزية في الاعياد, وعلى هذا التفسير تكون عبارة (اسكندرية مارية) بمعنى (اسكندرية فرحة بهيجة مبروكة) وهو معنى يشير الى خير المدينة وكثرة اعيادها البهيجة. والمسافة قصيرة جدا بين كلمة (ماري) وكلمة (مارية) فكلتا الكلمتين تؤدي المعاني نفسها من الفرح والبهجة والحبور والبركة المرتبطة بدوام الخير الذي يجعل من الايام كلها اعيادا. والصلة بينهما هي الوجه الآخر من الصلة بين الكلمتين الانجليزيتين اللتين تشير اولاهما الى مريم (Mary) وتشير ثانيتهما الى البهجة والفرح (Merry). وسألني احمد حجازي عن التفسير الثاني فرويته له نقلا عن عمي عليه رحمة الله وكان تاجر مجوهرات في الاسكندرية, اذ اذكر انه قال لي ان معنى جملة (اسكندرية مارية وترابها زعفران) يشير الى خير المدينة الوفير الآتي من البحر وجودة ترابها الذي يدر عليها الخير المضاف من الارض, وذكرت للاصدقاء ان هذا التفسير استوقفني ودفعني الى التفكير فيه والانتهاء الى احتمال ان تكون الكلمة هي (مرية) وليست (مارية) اعني انها نسبة الى (الميرة) او الطعام الذي يمتاره الانسان ومنه قول العرب: يمتارون لانفسهم ويمرون غيرهم ميرا وقد مار عياله واهله يميرهم ميرا وامتار لهم. وعبارة (اسكندرية مرية) بهذا المعنى مدينة كثيرة الميرة أو كثيرة الطعام والغذاء ومن ثم كثيرة البهجة وباعثة على الفرح والامان والاطمئنان لمن يسكنها, وانا شخصيا ارتاح الى هذا التفسير ولا يقلقني منه سوى ان النسبة الى (الميرة) ينبغي ان تكون (ميرية) وليست (مرية) ربما كان الامر من قبيل التحريف الذي يقع في اللهجة العامية للكلمات الفصحى, ولعل استخدام كلمة (مرية) بهذا المعنى ليس بعيدا عن المثل العامي المصري عن الطعام (مطرح ما يسري يمري) وهو مثل يقال على سبيل الدعاء بأن يكون في الاكل غذاء نافعا للبدن وذلك في سياق الكلمات التي منها كلمة (المرى) بضم الميم وكسر الراء المشددة ومعناها ما يؤتدم به من طعام مغذ. ويبدو ان صديقنا الحليمي قد اعجبه هذا التفسير فأظهر ميله اليه, وقال: انه تفسير يجعل اول الجملة متسقا مع آخرها فالاشارة الى الاسكندرية الـ (مرية) من كثرة الميرة والغذاء تتجاوب والاشارة الى ارضها الـ (الزعفران) التي تعني الجميل والمفيد من نبات الارض الذي يؤازر ثمار البحر. قلت للصديق: ربما كان الامر كما تقول فاني اذكر ان بعض ما ورد في (لسان العرب) من شواهد يصل بين (الميرة) و(الزعفران) خصوصا في معنى الفعل (امار الشيء) اي اذابه, فقد قال الشاعر القديم ـ الشماخ ـ يصف قوسا: كأن عليها زعفرانا تميره خوازن عطار يمان كوانز

Email