استراحة البيان: فساد الذمم آفة الأمم، يكتبها اليوم: علي عبيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقول الخبر:حكمت إحدى المحاكم الاندونيسية بالسجن عشرة أشهر على خادم يعمل في قصر الرئيس الاندونيسي لقيامه بسرقة تسعة أقلام حبر من مكتب الرئيس. وعندما سأله القاضي عن سبب مد يده وسرقة اقلام رئيس الجمهورية قال: لقد رأيت الآخرين يسرقون الساعات والثياب من القصر فقلت لم لا اسرق انا الاقلام ؟! انتهى الخبر الذي ربما مررنا عليه مرور الكرام.. ولكن هل تخيلتم مشهدا آخر للمحاكمة؟ لا اعلم ان كان هو ما حدث فعلا ام ان ما قاله الخادم كما جاء في الخبر هو المشهد الحقيقي. أليس من المحتمل ان يكون الخادم قد قال امام القاضي انه رأى مسؤولين من مختلف الدرجات اعلى منه مكانة واوفر دخلا تطالع الناس صورهم ليل نهار في اجهزة الاعلام المختلفة, رآهم يسرقون الملايين فانتقلت العدوى اليه؟ حسنا.. ستقولون لم امتدت يده اذا لبضعة اقلام ولم يسعفه مثلنا العامي الذي يقول: (اذا سرقت اسرق جمل) ؟ هنا يقول الخبر ان ثمن القلم الواحد من تلك الاقلام المسروقة يساوي راتب ثلاثة اشهر مما يقبضه هذا الخادم لقاء عمله اثنتي عشرة ساعة في اليوم في قصر السيد الرئيس, ولذلك فهو يعتقد انه قد خرج من القصر يسوق امامه تسعة جمال في صورة اقلام تسعة. ترى ما الذي ألجم الخادم وأخرس لسانه عن قول الحقيقة؟ هل هي العشرة و(العيش والملح) بحكم انه كان يرى هؤلاء المسؤولين امامه كل يوم غادين رائحين, ولانه لم يستطع ان يحظى بمشاركتهم (العيش والملح) فقد شاركهم اشياء اخرى خرج هو منها بعشرة اشهر سجنا وخرجوا هم بنصيب الأسد من الغنيمة. ربما وربما وربما تتبادر الى الذهن ونحن نتابع على مدى الاسبوعين الماضيين قضية تبييض وغسل اموال المافيا الروسية عبر البنوك الامريكية التي حاصرت مسؤولين على رأسهم الرئيس بوريس يلتسين وعائلته السياسية الى جانب مسؤولين امريكيين جاء في مقدمتهم نائب الرئيس الامريكي آل جور. وفي مقابل خادم قصر الرئاسة الاندونيسي كانت الضحية هنا هي (لوسي ادواردز) نائبة رئيس (بنك نيويورك) التي فصلت من العمل بعد اتهامات بسوء التصرف وانتهاك سياسات البنك الداخلية وتزوير السجلات وعدم التعاون. كما فصلت موظفة اخرى واوقفت عن العمل ثالثة. الفرق البسيط الآخر بين خبر اندونيسيا واخبار روسيا وامريكا هو ان قضية اندونيسيا دارت حول تسعة اقلام بينما تدور القضية هنا حول ما يزيد على عشرة مليارات دولار وهو فرق يتناسب مع اسماء ووظائف ابطال كل قضية والبلدان التي ينتمون اليها. في نفس السياق طار محقق روسي الى سويسرا لفحص الوثائق المتعلقة بفضيحة (مابيتيكس) حيث اتهم الرئيس الروسي وابنتاه بتلقي بطاقات ائتمانية ومليون دولار كمصروف جيب من شركة انشاءات سويسرية فازت بعقود للقيام بتجديدات في الكرملين, كما طال الاتهام مسؤولين آخرين في الكرملين. ولايمكن ان يدور حديث عن الفساد دون ان يظهر اليهود في خلفية الصورة, اما في الحالة الروسية فهم في الواجهة اذ انبرى للدفاع عن يلتسين معتمدا نظرية المؤامرة الملياردير اليهودي الروسي بوريس بيريزوفسكي الذي يوصف بأنه (ممول العائلة الروسية) وقد اتهم بيريزوفسكي محافظ موسكو يوري لوجكوف بتلفيق انباء عن الفضائح المالية للرئيس وافراد عائلته, وطلب سرعة سوقه للقضاء معتبرا ان كل مانشر عن فتح حسابات سرية ليلتسين وابنتيه هو استفزاز مطلق. يلتسين هذا الذي يدور كل هذا اللغط حول فساد ذمته المالية والذي اصبحت هوايته تغيير رؤساء الوزارات كل ستة أشهر هو نفسه الذي قدم نفسه للشعب كمنقذ ومخلص للديمقراطية اثناء احداث انقلاب 19 أغسطس 1991 الذي كان بداية انهيار الاتحاد السوفييتي, عندما خرج في مشهد مسرحي من مبنى البرلمان المحاصر بدبابات الانقلابيين وصعد احداها وسط صياح المعتصمين ابتهاجا ووجوم جنود الانقلاب الذين لم يحركوا ساكنا كأن الامر لايعنيهم وهو يقول: (اننا لانعترف بكم, نحن نريد حكم القانون) وكان له الحكم اما القانون فقد تم دفنه بمعرفة الغرف السرية في الكرملين وعصابات المافيا اليهودية الروسية التي تسيطر على الاقتصاد والصناعة والنفط والاعلام وكل مقدرات الشعب الروسي, مسلسل الفساد يتواصل ايضا في المجموعة الاوروبية, واصداء هذه الازمة تتردد بقوة والحاح هذه الايام في اوروبا لاسيما وان التحقيقات القضائية مازالت قائمة حول العقود التي فاز بها ربن يرثلود الذي نفى صداقته بأديث كريستون المسؤولة السابقة عن المجموعة. اما اكبر قضية فساد يتم التحقيق فيها حاليا في العالم العربي فهي المعروفة بقضية (نواب القروض) في مصر والمتهم فيها اثنان وثلاثون بينهم اربعة نواب من اعضاء مجلس الشعب والتي تم الاستيلاء فيها على اكثر من مليار وثلاثمائة مليون جنيه من بنكين وابرز مافي هذه القضية هو فرار واختفاء عدد من المتهمين الرئيسيين فيها بينهم سيدات, وهي ظاهرة تكررت كثيرا في عدد من القضايا خلال السنوات الماضية. وعن مسلسل الهروب بمئات وآلاف الملايين حدث ولا حرج فلسنا ببعيدين عن هذه الدائرة حتى غدا الحديث عن (باتيل) و(كومار) وغيرهما تكرارا مملا لرواية واحدة تتغير شخوصها فقط. وقد كشف الزلزال الذي ضرب تركيا الشهر الماضي عملية فساد وتقصير حكومي نال قطاع المقاولات النصيب الاوفى منها لما مارسه من غش في البناء, وكان اطرف ما قالته احدى الصحف عن التقصير والعجز الحكومي إن المساعدة اليابانية وصلت الى تركيا خلال اربع وعشرين ساعة من الشرق الاقصى فيما لم تستطع شاحنات الادوية والبطانيات ان تصل من أنقرة الى اضه بازاري في غربي تركيا الا بعد يومين. وكي نتنفس هواء نقيا بعيدا عن هذه الاجواء الخانقة ننتقل الى اوائل القرن الثامن الميلادي لنستخرج من دهاليز الدولة الاموية هذه القصة التي تقول: وفد على الخليفة عمر بن عبدالعزيز رسول من احد عماله على احدى البلاد فانتهى الى باب عمر ليلا فقرع الباب وقال للبواب: أعلم أمير المؤمنين ان بالباب رسولا من فلان عامله, فدخل البواب واعلم عمر وقد كان اراد ان ينام فقعد وقال: ائذن له. فدخل الرسول فدعا عمر بشمعة غليظة فأججت نارا واجلس الرسول وجلس عمر, فسأله عن حال اهل البلد ومن بها من المسلمين, واهل العهد, وكيف سيرة العامل, وكيف الاسعار, وكيف ابناء المهاجرين والانصار وابناء السبيل والفقراء, وهل اعطى كل ذي حق حقه وهل له من شاك, وهل ظلم احدا. فأنبأه ما علم الرسول من امر تلك المملكة, ولم يدع شيئا إلا انبأه به, حتى إذا فرغ عمر من مسألته قال له الرسول: يا أمير المؤمنين, كيف حالك في نفسك وبدنك؟ وكيف عيالك وجميع أهل خزانتك ومن تعنى بشأنه؟ قال: فنفخ عمر الشمعة فاطفأها, وقال: ياغلام علي بسراج, فدعا بفتيلة لاتكاد تضيء, ثم قال: سل عما احببت, فسأله عن حاله فاخبره عن حاله وحال ولده وعياله وأهل بيته, فعجب الرسول للشمعة واطفائه إياها, وقال: يا امير المؤمنين رأيتك فعلت امرا ما رأيتك فعلت مثله, قال: وماهو؟ قال: اطفاؤك الشمعة عن مسألتي إياك عن حالك وشأنك. فقال: ياعبدالله, إن الشمعة التي رأيتني اطفأتها من مال الله ومال المسلمين, وكنت اسألك عن حوائجهم وامرهم فكانت تلك الشمعة تقد بين يدي فيما يصلحهم وهي لهم, فلما صرت, لشأني وامر عيالي ونفسي أطفأت نار المسلمين! ترى؟ هل نحن مضطرون للعودة اثني عشر قرنا الى الوراء بحثا عن نموذج؟ لا اريد ان ارسم الصورة بكل هذه القتامة, فدعونا نر في تكريم سائق سيارة اجرة بسيط وجد مبلغا كبيرا من المال فأعاده لصاحبه, او طالب صغير عثر على قطعة نقود من مصروف جيب زميل له في فناء مدرسته فسلمها للادارة ليقف مرفوع الرأس في طابور الصباح, دعونا نر في هذه النماذج ما يكفي لان يبعث الامل في النفوس ويشعرنا بأن الدنيا مازالت بخير.

Email