استراحة البيان،العباقرة كانوا أطفالا،يكتبها اليوم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الفيلسوف المسلم محمد اقبال حكى يوما عن مشهد جليل من مشاهد طفولته في مسقط رأسه في سيالكوت من اعمال البنجاب.. قال انه الفى صعوبة وهو يروض لسانه على قراءة آيات الكتاب الكريم, وقد انزعج الصبي اقبال لهذا الموقف انزعاجا شديدا ... وكان ان سأل اباه وكان عالما تقيا ورعا كيف تكون قراءة القرآن بالحفظ ام الفهم؟ بالجهر ام بالخفوت؟ هنالك نصحه الاب الحكيم نصيحة ما اجملها وقد لخصها في عبارة بسيطة قال فيها مخاطبا محمد اقبال: يا بني: اقرأ القرآن كأنه قد انزل عليك. ومن مشاهير المفكرين والمبدعين من سجل مثل هذه المواقف المشهورة وهو يحكي عن مراحل طفولته منذ نشأته الاولى منهم مثلا: رجال جادون من طراز عباس العقاد الذي ترك للمكتبة العربية نحو ثمانين كتابا في الادب والفلسفة وفي علم مقارنة الاديان وفي التاريخ الاسلامي وفي النقد والابداع الشعري وفي قضايا السياسة والألسنية وعلم الجمال (الاسطاطيقا كما كان يسميها مترجمو العصر العباسي, المأموني بالغ الازدهار), كل ذلك والاستاذ العقاد كما هو معروف لم يحصل من التعليم المدرسي النظامي سوى الشهادة الابتدائية ولكنه استطاع ان يربي نفسه ويبني نفسه ويضرب للاجيال نموذجا باهرا في عصامية الفكر واستقلالية المفكر واعتزاز المبدع الاديب بكرامته الى حد المبالغة احيانا, والتطرف في الكرامة خير من الاستهانة بها في مطلق الاحوال. واذن, فذكريات العقاد عن نشأته الدراسية لم تكن لتعدو مشاهد طفولته في مدرسة اسوان الابتدائية عند مفتتح هذا القرن العشرين, في تلك الفترة زار المدرسة الاسوانية, وطبعا كانت الوحيدة من نوعها في تلك المدينة الجنوبية من صعيد مصر الاعلى, الاستاذ الامام محمد عبده وكان من الطبيعي ان تحتفل اسوان الابتدائية الاميرية او الخديوية وقتها بتلك الزيارة التي قام بها واحد من اعلام المجددين والمصلحين والمجتهدين في عالم الاسلام والعروبة في العصر الحديث, ويقول العقاد ان معلميه اختاروه لكي يلقي خطبة يرحب فيها بالاستاذ الامام وتشاء مخايل النجابة عند الطفل عباس بن العم محمود العقاد ان تدفعه الى اختيار موضوع يتعلق بأحوال امة الاسلام بين ماضيها وحاضرها, بدلا من ان يسمع نصيحة مدرسيه فيلقي كلمة تقليدية بين يدي الشيخ الجليل محمد عبده يحشوها بما تيسر من مختارات النثر وابيات الشعر وقد يختمها بآي الذكر وبعض مأثور الدعاء, ولعل هذا الاختيار الذكي من الطفل عباس هو الذي دفع الامام محمد عبده إلى تفرس ملامحه الاسوانية السمراء وإلى التمعن في مضامين كلمته, فاذا بالشيخ محمد عبده يشير إلى الفتى الصغير قائلا كلمته المأثورة: ما أجدر هذا الفتى ان يكون كاتبا بعد (وكان من دأب الاستاذ محمد عبده ان ينطق كلمة قبل وبعد بالضمة الواضحة المجهورة) , وقد صدقت نبوءته فاصبح العقاد في طليعة الكتاب والمفكرين ـ الادباء ـ في امة العرب, وصارت ندوة الجمعة التي كان يعقدها في بيته المتواضع ـ 13 شارع السلطان سليم في مصر الجديدة مهوى لمريدين وحواريين يجلسون من العقاد ـ حامل الابتدائية ـ مجلس التلميذ وكان في هذا فخر للعلم اي فخر, اذ كان من بينهم اعلام كبار من امثال الدكتور زكي نجيب محمود والموسيقار محمد حسن الشجاعي والشاعر الكاتب عبدالرحمن صدقي (سجل وقائع هذه الندوات العقادية الاستاذ انيس منصور في كتاب حافل بعنوان: في صالون العقاد كانت لنا ايام, ورغم اختلافنا إلى حد بعيد بعيد مع الاستاذ انيس الا اننا نسجل له بالعرفان حسن وفائه لاستاذه العقاد فضلا عن ان كتابه الذي ذكرنا بالغ الامتاع) . ابراهيم عبدالقادر المازني روى لنا عن طفولته اكثر من حكاية, ولكن على طريقته في الشقاوة والسخرية وخفة الروح, ولسنا ندري في اي موقع من كتابات الاستاذ المازني قرأنا حكايته الطريفة مع ناظر مدرسته الابتدائية ونظن ان كان اسمها هو (مدرسة محمد علي الملكية) ولايزال مبناها قائما في ميدان السيدة زينب, الحي الشعبي الذي شهد طفولتنا (كاتب السطور) والمبني بالمناسبة على بعد أو على قرب امتار من شارع سلامة الذي كان مسرحا لرواية عودة الروح لتوفيق الحكيم. المهم ان المازني يحكي لنا كيف كان تلميذا اثيرا عند ناظر مدرسة محمد علي الملكية الابتدائية وكان الزمان بالطبع في اولى سنوات هذا القرن العتيد, لماذا؟ لان الناظر كان صديقا للعم عبدالقادر ـ والد التلميذ ابراهيم المازني, وبهذه الصفة, اجتمع رفاق الصف وكلفوا زميلهم ابراهيم (بمهمة) اقناع حضرة الناظر بان ينظم لهم رحلة إلى حديقة الحيوان في الجيزة ولم يكن عمرها وقتئذ يتجاوز الثلاثين عاما, وكانت زينة للزائرين وحلما يراود خيال الكثيرين, ويحكي لنا المازني كيف توجه بالتكليف سفيرا إلى البيه الناظر الذي كان اولا صديقا لابيه, وكان ثانيا اخنف, وكان ثالثا لا يدري كثيرا عن اوضاع اي حديقة حيوان, ولا يعرف بالتالي ان الوحوش الكواسر حبيسة الاقفاص, المهم ان المازني ينقل لنا عبارات الناظر الهمام التي مازالت تعيها الذاكرة أو تعي بعضها على الاقل حيث رد على تلميذه قائلا: حوانات ايه يا ابن عبدالقادر (وترجمتها اي حيوانات يا ابن عبدالقادر) اسد فك السلاسل وهجم على تلميذ هنا او هناك, اتحمن (اتحمل) انا المسؤولية؟ لا. يفتح الله.. ما فيش جنينة حوانات... الخ. ربما يكون طه حسين هو اكثر ادباء العربية المعاصرين ابانة عن مراحل طفولته وعن اطوار نشأته وقد تحقق له ولنا ذلك بفضل كتابه الاشهر بعنوان (الايام) باجزائه الثلاثة, وأولها كما هو معروف هو الذي يتناول مرحلة الطفولة والنشأة في قرية عزبة الكيلو من اعمال اقليم المنيا في صعيد مصر الاوسط وفي آخر هذا الجزء من (الايام) تلوح لنا بوادر التمرد في شخصية الطفل طه حسين الذي لم يدخل مدرسة ابتدائية على النسق النظامي المدني كما كانوا يسمونه فلا كانت نشأته في عاصمة جنوبية كالعقاد في اسوان.. ناهيك عن عاصمة البر كله ـ القاهر كما كان المازني.. لذلك فذكريات الدراسة في مرحلة الطفولة الاولى كلها تدور حول الكتاب (الكاف المضمومة) و(التاء المتشددة) وهو تلك المؤسسة شبه البدائية الساذجة التي يقوم على أمرها افراد من اشباه المتعلمين يحملن لقب المشايخ ويعاونهم افراد اقل تعليما وربما معدومو التعليم اصلا يحمل كل منهم لقب (العريف) وبقدر ما كانت هذه الكتاتيب تسد فراغا في منظومة التعليم في مصر وتفعل نفس الشىء بغير شك مؤسسات مماثلة ولو تحت مسميات متباينة في الوطن العربي والعالم الاسلامي ـ وبقدر ما انها افادت الناشئة في الارياف والاحياء الحضرية الفقيرة وفي النجوع والبوادي النائية حين فرضت عليهم حفظ وتسميع آيات من القرآن الكريم.. فكان ان انشغلوا بكتاب العربية الاكبر.. وكان ان تدربت السنتهم على نطق اللغة بسلاسة وتدقيق وقدر لا يستهان به من الاتقان ـ بقدر ما عانى الفتى الكفيف المتمرد طه حسين من مشاكل التخلف الفكري والنفاق السلوكي التي كانت تكتنف هذه المؤسسات بالغة السذاجة التي تصدت يوما لتعليم الناشئة في غيبة العدل التربوي وفي حضور التحيز التعليمي السافر الذي كان يركز على ابناء الصفوة من الباشوات والبكوات والمحظوظين كي يعدهم لوظائف الميري الحكومية.. وكل ذلك على حساب ابناء الفقراء المهمشين في البوادي والدساكر والازقة والارياف. وليس هنا مجال التأريخ لدور هذه الكتاتيب (وثمة دعوة غريبة لاعادتها في مصر) ولكن يكفي ان نحيل الطفل طه حسين وقد عن له ان يسأل يوما معلمه المحترم صاحب الكتاب عن معنى قوله تعالى وخلقناكم اطوارا ـ فما كان من صاحبنا ـ المعلم ـ إلا ان اجاب كما يقول كتاب الايام ـ هادئا مطمئنا : اي كالثيران لا تعقلون!

Email