مرثيات كوسوفو الثلاث تستقطب العالم: احدث روايات اسماعيل كاداريه تحمل هم الألبان لقلب اوروبا

ت + ت - الحجم الطبيعي

بينما تستمر مأساة ألبان كوسوفو بين طغيان الصرب ومماطلة الغرب, لم يجد الاديب اسماعيل كاداريه, ابن البانيا والمرشح المخضرم لجائزة نوبل للأدب, سوى قلمه للقيام بشيء يحرك وجدان العالم. وتلقت باريس قبل ايام قليلة احدث رواياته وهي (مرثيات كوسوفو الثلاث) بالكثير من التقدير لابداع هذا الكاتب الكبير . ويروي كاداريه في كتابه هذا قصة معركة كوسوفو الشهيرة التي دارت عام 1389 واتحدت فيها عدة ممالك بلقانية لتحارب الاتراك ومع ذلك هزمت, ومنذ ذلك الحين اندلع الصراع الصربي الالباني على كوسوفو, وظل بين مد وجزر. وقد تعرف الغرب على اعمال اسماعيل كاداريه عام 1970 عندما نشر روايته (جنرال من الجيش البائد) واحدثت عاصفة في الأوساط الادبية الباريسية بكل ما تعنيه الكلمة, والتي رأت في كاداريه صوتا جديدا وقويا ينطلق من وراء الستار الحديدي الذي احاطت البانيا به نفسها. ومنذ ذلك الحين بدأت اعماله التي تضم اعمالا روائية ودواوين ومقالات تترجم لمعظم لغات العالم, ورشح لجائزة نوبل في الادب 15 مرة دون ان ينالها, حتى الآن. ويلتزم كاداريه عميقا بقضايا بلاده ولغتها, ويتحدث بنبرة صوفية عن (الادب العالمي العظيم) الذي يعتبره ملاذه الروحي حيث يقول (الادب هداني للحرية, وليس المواربة) . ويتحدث كاداريه عن بلده ليلوم الغرب الى حد كبير عن دفع الدكتاتور انور خوجا لادخال البانيا قوقعة كبيرة محكمة الاغلاق ويقول في هذا الشأن (لقد تسامح الغرب مع تيتو) ومد يد العون ليوغسلافيا, لكنه لم يغفر لأنور خوجا ماضيه عندما قطع علاقته بالاتحاد السوفييتي عام 1962 وكان مستعدا لخطب ود الغرب. لكنه قوبل بالصد, ليعود ويبني آلاف الملاجىء المضادة للأسلحة النووية, لا لشيء الا ليعمق في ألبانيا عقدة الخوف من الآخر) . ووضع نجاح رواية (جنرال من الجيش البائد) في العالم مؤلفها في وضع لايحسد عليه في ألبانيا, حيث بدأت تنهال عليه سياط النقاد الرسميين, فأين المزارعون المبتهجون والعمال الهانئون والتفاؤل بمستقبل مجيد؟ لاشيء من ذلك في أعماله ذات الاجواء الكئيبة والصور الملطخة بالطين والمطر والجثث المتفسخة بطولية الحرب الزائفة. ولم يجد كاداريه مهربا من تمحيص الرقيب. الا باللجوء للأساليب الادبية كالمجازية والسخرية المبطنة والاسطورة والحكاية التاريخية. يقول كادارية انور خوجا كان معجبا بنفسه, كشاعر ومثقف درس في السوربون, ولم يشأ ان يظهر بمظهر المعادي للكتاب, طبعا كان بامكانه ان يتخلص مني بتدبير حادث سيارة او انتحار مفتعل كما فعل مع العديدين غيري) . وخاض اسماعيل كاداريه بعد ذلك, ما يزيد على العقدين من لعبة القط والفأر مع السلطات الشيوعية في تيرانا. راوحت اعماله ما بين النشر والحظر, حتى هو نفسه اعطي عضوية البرلمان ذات يوم لينفى الى احد الاقاليم بعيدا عن العاصمة في اليوم التالي. كما نجا عام 1975 من حادثة مدبرة لاطلاق الرصاص عليه عندما وشى احد الموظفين للحكومة بقصيدة ساخرة كتبها كاداريه بعنوان (الباشا الاحمر) مع ذلك رفض ان يقتلع جذوره ويهرب بل صمد في بلاده ليسجل سنوات مظلمة من تاريخها في اعمال روائية شهيرة مثل (الهرم) و (الحفلة الموسيقية) و(تاريخ على الصخر) والاخيرة فيها وصف متبرع بالحنين لطفولته. استمر اسماعيل كاداريه على هذه الحال الى ان أتت اللحظة التي شعر فيها بضرورة الرحيل عن بلاده وهو يوضح ان (الكل كان يعلم أني كاتب معارض للسلطة, وهذا ما شجع الآخرين, وفي احد الايام تلقيت رسالة من رامز عليا الذي خلف خوجا في منصبه وفيها ذكر اسم الحزب 23 مرة, حينها ايقنت انه ليس امامي الا الرحيل, حينما كانت البانيا ساحة للصراع بين الديمقراطية والطغيان, واعتقدت ان مناورتي ستقوى في عضد الديمقراطية) . واخيرا غادر كاداريه بلاده عام 1990 لترحب به فرنسا كضيف شرف. وهو يعيش الآن في شقة باريسية تطل على حدائق اللوكسمبور الواقعة ضمن حرم الاكاديمية الفرنسية. واصبح عام 1996 عضوا في الاكاديمية الفرنسية في علوم السياسة والاخلاق, حين احتل مكان البروفيسور البريطاني كارل بوبر, اما في العام الماضي فأضحى اول الباني يحصل عى وسام جوقة الشرف الفرنسي. ويستعيد اسماعيل كاداريه قراءاته الاولى ليقول ان شكسبير كان مثله الاعلى ويتابع قرأت (ما كتب) في الحادية عشرة من عمري, لقد فعلت في تلك المسرحية فعل السحر, ثم اكتشف الكلاسيكيات الاغريقية ليدخل عالمه المتفرد الجديد, ويتابع: (حينها لم يعد لشيء المقدرة على التأثير في روحي, ولهذا السبب عندما ذهبت الى معهد جوركي في موسكو وهو احد مفارخ انصار الحزب الشيوعي, كنت قد اكتسبت المناعة الكاملة ضد تلك الافكار, فما حصل حول أسوار طروادة كان بالنسبة لي أكثر واقعية من تفاهات روايات الواقعية الاشتراكية, ووجدتني امام ثلاثة خيارات, اما ان انصاع واهادن او اتوقف عن الكتابة اواكتب كما يكتب الاحرار, واخترت الطريق الاخير) . وبشكل مخالف لبعض الكتاب المعارضين الذين تخلوا عن اقلامهم بعد انهيار الشيوعية, وكأنهم فقدوا قضيتهم او سبب وجودهم, فان كاداريه زاد من التصاقه بقلمه ليبدع رواية (سبيريتوس) وتدور حول شبحين من الماضي يعودان اليوم للعالم بعد سقوط الشيوعية, اضافة للقصائد والمذكرات واخيرا (مرثيات كوسوفو الثلاث) . لكن هل استفاد كاداريه من حرية التعبير في فرنسا؟ انه يرد على هذا السؤال بقوله: (الشخصية ليست على قدر كبير من الاهمية بالنسبة للكاتب فليست الحرية الفردية هي الضامن لابداع ادب عظيم, والا لكان كتاب الدولة الديمقراطية هم الاعلون مقارنة بغيرهم, وبعض اعظم الكتاب اعطوا فنهم في جو من الكبت. ومنهم شكسبير وسرفانتس, للادب العالمي العظيم علاقة مأساوية بالحرية, فالاغريق أنكروا الحرية المطلقة, وفرضوا نظاما اشبه بالطغيان على اضطراب وضبابية الاسطورة, ومن جهة اخرى فان أحدا لم يجبر جوركي على كتابة (الأم) فعبودية جوركي كانت في مخيلته هو, مع ذلك فقد اغتال عمله هذا نصف كتاب أوروبا الشرقية باعتباره نموذجا على الكل ان يحتذيه. بينما في الغرب المشكلة ليست في الحرية. فهناك عائق آخر وهو عوز الموهبة, حيث نرى آلافا من الكتب العادية تنشر سنويا. ويعيش كاداريه هذه الأيام في باريس ويكتب يوميا عدة ساعات في احد مقاهيها المجاورة لمنزله. وقضية كوسوفو شغله الشاغل ويقول عنها: (لم تعط قطعة من البانيا لصربيا كهدية ما بعد الحرب؟ ذلك خطأ مأساوي, 40% من الألبان يعيشون في كوسوفو. ان هذا مثال نموذجي على الاستعمار وأسوأ من عنصرية جنوب افريقيا أيام نظام التفرقة العنصرية, ومزاعم الصرب بشأن معركة كوسوفو تشبه مطالبة انجلترا ببلجيكا مثلا على مرجعية معركة واترلو) . وماذا عن مخاوف أوروبا من تمزيق البلقان؟ يرى كاداريه: (انه لا يمكن تبرير استعباد الشعوب بالتعقل) . حقائق عن كاداريه ولد اسماعيل كاداريه عام 1936 في بلدة جينو كاسترا الالبانية على الحدود اليونانية وهي مسقط رأس أنورخوجا أيضا. درس الادب في العاصمة تيرانا قبل أن يمضي ثلاث سنوات في معهد جوركي في موسكو. وعندما قطع خوجا علاقته بالاتحاد السوفييتي السابق عام ,1961 عاد الى البانيا ونشر روايته الأولى في العام التالي. غادر البانيا عام 1990م مع زوجته وابنته ليستقر في باريس, لكنه يتردد على بلده بانتظام. نشر حتى الآن 14 رواية ودواوين شعرية وبعض المجموعات من مقالاته ومذكراته. من أبرز رواياته: (الهرم) و(قصر الأحلام) و(الحفلة الموسيقية) و(الجسر ذي الثلاثة أقواس) و(نيسان المحطم) . اعداد ــ جلال الخليل

Email