قصة قصيرة: غرفة شطب الوفيات،بقلم : نجم الدين سمان

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأستاذ أبو محمود:أحيانا, تحدث أشياء لا تفسير لها ..أخبرني المدير هاتفيا بالتحاق موظفة جديدة, فامتعضت .. خصوصا حين تعاون الأذنة على حشر طاولة جديدة في غرفتنا الضيقة, أضافوا كرسيا وخزانة صغيرة, أزاحوا طاولة أم أيمن أبعد قليلاً عن نافذتها حيث تتراكم نباتاتها تعتني بها بينما عيناها تحدقان في ظلال الحديقة المجاورة لا تخلو مقاعدها من العشاق صرخت أم أيمن بانزعاج : غرفتنا قبر .. لمين هالطاولة؟! تطوع الاذن الأكبر سنا: لموظفة جديدة, اسمها .. ميسون. فرن الاسم في فضاء غرفتنا, تاركا عذوبته على جدرانها الكالحة .. لامستني أصداء حروفه فزال امتعاضي وكأنه لم يكن, رن في أذني, مي .. سو .. ن, موسيقاه تغلغلت تحت ثيابي فاسترخى الدم في عروقي, انتشيت حتى أن الأصوات من حولي تلاشت. انقضت الساعتان الأخيرتان من الدوام, وأنا أحدق في الطاولة الجديدة, قبالتي, أرسم في الفراغ وراءها صورة وجه, ثم شكلا لجسد امرأة فوق الكرسي, الخطوط ضابية .. عائمة, شككت في نفسي, منذ زمن طويل لم أفكر بامرأة, النساء من حولي ولا أراهن .. آخ. كأن تنهيدتي الحارقة قد أزاحت شيئًا في طريقها من جوفي إلى حلقي .. اتضحت الخطوط في الفراغ قبالتي, ثم ما لبثت عينان سوداوتان, كبيرتان, عميقتان, تلتمعان أمام عيني, بحزن كثيف, عدلت اكتناز الشفتين بما يناسب حزن عينيها, رسمت قوس رمشيها, أنفها الناعم, نسجت بلوزة من الصوف, محتشمة, تغطي دوائر النهدين وجذعها الممتلئ, ألبستها تنورة سوداء .. لاهي بالطويلة ولا بالقصيرة, فضفاضة قليلا لتخفي اكتناز امرأة بعد الخامسة والثلاثين من عمرها. نبهني أسعد الى موعد الانصراف, نهضت فتذكرت ان الصورة التي رسمتها للموظفة الجديدة, تشبه الى حد كبير صورة زوجتي .. التي لو أنها لم تمت أثناء ولادتها لطفلنا الأول, لكانت الآن في نفس العمر, بنفس تلك المواصفات, وأن الحزن في عينيها سببه المؤكد أنها نجت بينما مات محمود, ابننا, في لحظة المخاض .. دمعت عيناي وأنا أخرج من الغرفة, تذكرت ارتجاف القلم الأحمر في يدي, وأنا أمرره على اسم زوجتي في سجل النفوس, لأشطب وجودها الرسمي بين الأحياء. في الممر, لحق المراسل بي, أعطاني رسالة من فرنسا رسالة ابني محمود, محمود الذي ربته أختي العانس وقد جاءت من بلدتنا بحقيبة ملابسها, هرباً من عنوستها ومن تسلط زوجة أبي عليها, لتساندني بعد وفاة زوجتي, نذرت نفسها وأيامها للولد, فلم تخرج من بيتي سوى مرتين, إلى المطار لتودعه مسافرا للدراسة في فرنسا, أطلقت تنهيدة رضا ودمعتين, فرأيت في عينيها استسلاما قانعا باكتمال مهمتها في الحياة, أو هي أمومتها الراضية عن مستقبل ولد احتضنته من أنفاس أمه الأخيرة, ودعته كما لو كان ابنها, ثم كبر على الرغم منها فسافر, خرجت أختي من بيتي للمرة الثانية وكانت أوصتني بوضع صورة محمود في القبر أمام عينيها مباشرة. فتحت رسالة ابني محمود في البيت, قرأتها في السكون الموحش الذي حل في البيت برحيله, ثم برحيل, أختي خالته .. قرأت كلماته تحت صورة أمه المعلقة في الصالون فوق الأريكة, الأريكة نفسها التي جلسنا عليها أنا وأمه طوال عامٍ من العسل والأحلام, الأريكة التي لا تزال تحتفظ بروائح منها كلما جلست وكلما نهضت .. الولد محمود كبر فجأة هكذا تقول رسالته, سيتزوج يخبرني بقراره, لا يطلب رأيي أحب فرنسية هناك طمعا باندماج نهائي لارجعة فيه إلي وإلى البلد. هكذا أغدو وحيدا يصيبني هذا الشعور بالهلع, استنجد بالهاتف من جزعي لأخابر من تبقى لي من أصدقاء, بيدي وقلمي الأحمر شطبت فوق أسماء أصدقاء لم أرغب بموتهم, لم أتوقع أن يخذلوني الواحد تلو الآخر, وكأنهم واقفون في رتلٍ .. في طابورٍ, وينتظرون طائرا رمادي اللون ليخطفهم إلى حيث لا يراهم أحد ولا يرونه. أطلب الأرقام القليلة الباقية لي, تأتيني الردود تباعا: من عيني أبو محمود, في السادسة نتلاقى, تعرف عادتي في النوم بعد الغداء. أكلت اللقمة, بلعتها بلعا, سأنزل لاشتغل على التاكسي, عندي تسعة أولا يا أبو محمود, يهدون الحيل والعافية, تعرف . أنا أحسدك. يحسدني على ماذا, على وحدتي؟! . أتمتم بكلام وأغلق السماعة, أنهض من توتري, أمشي نحو المطبخ بحكم العادة, أفتح باب الثلاجة .. كنت طبخت البارحة مجدرة برغل وعدس, اللبن جاهز بقربها .. لكني اكتشف انقباض معدتي وانعدام الشهية, يختلف الأمر حين أتوتر وأنا في الشغل, أخذ أقرب سجل أفتحه على صفحة بلا تعيين, أقرأ أسماء لا أعرفها, الأسماء التي أعرفها تنقسم أمامي الى رتلين, الطيبون على يميني .. أتمنى لهم طول العمر, على يساري .. رتل الأشرار, حرامية النهار, المتسلطون, السماسرة, مدراء مؤسسات اختلسوا أموالا وظلوا في مواقعهم, أو نقلوا بعد افتضاحهم الى مواقع أحسن, أسماء الذين زاودوا علي باسم الوطن .. انحنيت إجلالا لمعنى الوطن واسمه, فتسلقوا على كتفي, على أكتافنا, ال .. ال .. الرتل يكتمل أمام عيني, أنظر عبر النافذة, أتخيل ان عزرائيل يقرأ أسماءهم الآن, انه أملي الوحيد .. آه, لو أنه يفعلها لأمسك بالقلم الأحمر فأشطب, وأشطب, وأشطب .. لكن عزرائيل, لايجيد قراءة خطي, ينتقي بمزاجه .. خصوصا الطيبين! أفتح باب البيت, وأخرج إلى .. لا مكان, إلى .. لا هدف. بعد ساعة من المشي على غير هدى, أحسست أني أخوض معركة مع مفاصلي وعضلاتي وعظامي كلها, اكتشفت ان الخمسين حد فاصل بين وهم الشباب ووهم النضوج في الأربعين, فجأة ينحدر كل شيء فيك .. ينحدر, كما تنحدر خطواتي الآن إلى أقرب كرسي, في أقرب مقهى. ما إن رشفت الشاي, وارتوت العروق, واستكانت في رئتي أنفاسي اللاهثة, حتى ارتسمت على كرسي فارغ أمامي, الصورة ذاتها, ثم رن الاسم في أذني: ميسون أضحك لاكتشافي ميزة جديدة في نفسي, غير وضعي للأسماء في رتلين, أوثلاثة .. الأسماء .. بل اسما واحدا بعينه صار يتجلى أمامي على لوحات الهواء, أضحك .. فيرمقني أحد ما, جالس بقربي لا أعرفه .. لا أعرف اسمه, يلوي مبسم أركيلته بين شفتيه, فيتلوى الدخان المنسرب من أنفه على هيئة الإشفاق, ومرة على هيئة الامتعاض, كأنما لا يحق لانسان جالس في المقهى أن يضحك! أواصل ضحكاتي لأغيظه .. مادام سيعدني مخبولاً في كل الأحوال, المخبولون أمامي وحولي ومن كل حدب وصوب, يحتجزون مشاعرهم وراء الأقنعة يربطونها في أقفاص صدورهم بسلاسل الحديد, كلما تحركوا أسمع قعقعة المعدن في الحلقات .. أنا كنت واحدا منهم طوال سنين, نعم .. عدل الجمرة فوق تنباك أرجيلتك, هز رأسك إشفاقا على رجل مخبول يضحك, ثم يبدأ حديثاً مع نفسه, أنا مخبول .. لم أعترض على شيء طوال حياتي, حبست لهفتي للمرأة واشتهائي .. طالما ان صدمة موت زوجتي ميسون أطارت صوابي, طالما ان ابني محمودا يتيم ساعته ومولده, ومن غير المستحسن حسب قناعتي ان أبلوه بزوجة أب, طالما ترعاه أختي وتجد فيه ملاذا من عنوستها, طالما الأيام تمر بهدوء مع أن الراتب بالكاد يكفينا, وطالما الولد ينجح بتفوق وأنا أحثه على تجاوز ما قد حل بي .. موظفا مركونا في غرفة لم تتغير معالمها منذ عشرين عاما. اليوم فقط, اضطرب الهواء حين رن اسمها, فذكرتني موسيقاه بأجراس الخراف في سهل أخضر ندي, لا يحده حد. 5- ميسون / الموظفة الجديدة: دلني الآذن على غرفتي الجديدة, هذا عملي الوظيفي الأول, توسط أحد أقرباء العائلة ليوظفني, تسمية الغرفة: (غرفة شطب الوفيات) أصابتني بانقباض, فأنا لم أتجاوز صدمة وفاة أمي قبل شهرين, لابد أن اسمها قد تم شطبه هنا, قبل ان يتناهب ورثة لم يخطروا على بالي بيت العائلة المسجل باسمها, اشتروا لي بنصيبي من ثمن البيت غرفة وصالوناً, باعوا بيتنا لمتعهد.. فك زخارف الحديد المطعمة بالنحاس, نزع النوافذ.. رماها العمال فانكسر زجاجها المعشق وظلال الوانه البهيجة, بالمهدات الحديدية هشموا زخارف الحجر, المقرنصات, بحرة الدارالمطعمة بالمرمر البلدي من جبال الامانوس كانوا يهدمون اعمدة عمري, وغرف الذكريات, وباحة احلامي تحت ظلال النارنج والياسمين.. تركوني اواجه وجودي كله عارية سوى من بعض ما يذكرني بأبي وبأمي وبأطياف الماضي, لم يكن لي من منفذ سوى الوظيفة, احتمي بها, امام الغرفة التي اختاروها لي مسحت عرقاً بارداً على جبيني, دخلت, قلت بارتجاف: صباح الخير, انا زميلتكم ميسون الماء وردي. فتداولتني العيون بود مفاجىء, ثم وقفت الاجساد لتواجه ارتباكي.. رئيس الشعبة ابو محمود, هكذا قدم نفسه الي, لاحظت ارتجاف كفه حين لامست على عجل كفي. اختك ام ايمن, هكذا قدمت نفسها, ثم جذبتني اليها وقبلتني كأنما لتؤكد صدق نواياها, اسعد.. هكذا دون القاب, قدم نفسه ايضاً, كان الشاب الوحيد بين الحاضرين, صافحني بأدب مبالغ فيه كأنما يخفي وراءه شيئاً, حين صافحني مستني حرارة الهبت جسدي, حاولت اخفاء آثارها. فجأة, خرجت اكياس وصحون وطنجرة صغيرة من بطون الطاولات, وضعوا امامي, على طاولتي, الفطور الترحيبي بانضمامي اليهم, جاء الاذن بكاسات الشاي وبأرغفة طازجة لتوها, ضج الهواء ببهجة دمعت لها عيناي امتناناً, خاطبني الاستاذ ابو محمود بمرح ظاهر في حركاته وفي عينيه: وجودك معنا يا آنسة ميسون, يكسر ظهر الروتين, ينسينا قلة رواتبنا. ضحكنا.. بدا لي ودوداً, سنوات عمره والبذلة الكحلية ياقة قميصه البيضاء, ربطة عنقة المخططة بالسماوي والرمادي والابيض.. ذكرتني بأبي, اشرت الى ربطة عنقه: مصادفة جميلة.. عند ابي نفس ربطة العنق. تراجع خطوتين الى وراء, فملأ مكانه تمايل اسعد من ضحكاته الشامتة, علق ساخراً وعيناه كالسهم قبالة عيني: لم تعد الموضة هكذا, الالوان صارت زاهية اكثر. استجمع الاستاذ قواه, تقدم من الطاولة حالفاً علي ان اتذوق (المامونية) التي طبخها بنفسه احتفالاً بقدومي, اطريت طريقته في صنعها وشكرته بامتنان, ام ايمن شرحت لي سر النكهة الخاصة في قطع الجبن فأدركت انها جلبتها معها من بيتها.. شكرتها ايضاً وتباهى اسعد بقشدة الحليب الاصلية, القادمة صباحاً من قريته ناصحاً الاستاذ ابا محمود بأكل المزيد لفوائدها التي تعيد للواحد حيوية الشباب, ذكرنا جميعاً بأن امه هي التي استخصلتها من حليب بقراتهم الطازج, بقراتهم ترعى الحشائش الطبيعية المغسولة بندى الصباح, ولذلك فهي غير مصابة بجنون البقر! ضحكنا, علق ابو محمود: على رأسنا زبل بقراتكم.. سيدي. الدموع نفرت من عيوننا, دموع موظفين يضحكون.. شعرت بالراحة ونسيت انقباضي من تسمية الغرفة, المكتوب على بابها بخط كوفي تآكلت بعض حروفه .. وبينما انشغل اسعد وأم ايمن بتوضيب ما تبقى من فطورنا, مال الاستاذ ابو محمود نحوي, وهو يطوي الجريدة التي فرشوها على طاولتي, همس: طبختها بنفسي لأجلك يا آنسة ميسون. ارتبك جسدي كله حين ركز على كلمة آنسة, خرجت من الغرفة بحجة غسل يدي بالصابون. في صباح اليوم التالي, فاجأتهم برد التحية بأحسن منها, قبل الدوام استيقظت باكراً, صنعت قالب كاتو بالكاكاو, جلبته معي طازجاً مزيناً بالكريما البيضاء أكد الجميع انه فاخر جداً, ولذيذ, واني غلبتهم, كما لم افعل منذ سنين, وانا ادور بقطع الكاتو ثانية عليهم واحداً واحداً, تحرج اسعد من اخذ قطعة ثانية, رغم اني رأيت في عينيه رغبة لا تنتهي, امسكت بيده واجبرته ان يلتقط اكبر قطعة ثم نحو ام ايمن, انحنيت نحوها واعطيتها قطعة, تمنعت, اطعمتها بيدي, بينما كان الاستاذ ابو محمود في غاية انشراحه, يؤنب الآذنين الذين جذبتهم غريزة الرائحة, ذهبت نحوهم, فصاح بمرح: قطعة واحدة لكل راس. اغلق باب الغرفة وراءهم, مال نحوي طالباً السماح له بأكل قطعة ثالثة, حتى لو انها سترفع له نسبة الشحوم الثلاثية, خطف القطعة, قربها من فمه متلذذاً, ناظراً الي بامتنان طفل كبير. أم أيمن: ما ان تدخل امرأة جديدة الى الغرفة حتى يستنفر في الرجال شيء غير مفهوم! ما الذي يجعلهم فائرين هكذا بالبهجة والعافية؟! ولأي شيء, لمجرد قدوم الآنسة ميسون الى غرفتنا؟! ابو محمود, وفهمنا امره.. ارمل, وتودده لميسون اذا كان بقصد الحلال فهو مشروع اما هذا الغر الصغير اسعد, فما عساه يريد من عانس حتى لو كان في وجهها بعض جمال غابر.. فليستح, ميسون الماء وردي اكبر منه باثنتي عشرة سنة, كما تنطق بالحقيقة اوراق ولادتها في ملف التوظيف. حين دخلت الى هذه الغرفة قبل عشرين عاماً, حدث نفس الشيء.. كانوا ثلاثة رجال, رئيس الشعبة, وأبو محمود الذي كان يجلس على طاولتي الحالية قبل ان يترقى بموت رئيس الشعبة السابق, بالاضافة الى موظف شاب سبقني الى الغرفة قبل عامين.. جمالي هز الرجال في الدائرة كلها هزاً, كنت في عز صباي, شعري طويل الى مفرق خصري, مخطوبة وزواجي وشيك, غبت اسبوعاً في اجازة شهر العسل وعدت, فلم ييأس الموظف الشاب من تمرير لمحاته الذكية الي, علق وكأنه يكتشف التغيرات التي طرأت علي, استغل فرصة مناسبة فهمس لي: لم اكن اعرف ان الزواج يجعل الجميلات اجمل. ابو محمود, وقتها, كان مصدوماً بوفاة زوجته, لم يلتفت الي, عذرته, اكبرت فيه شهامته, تمنيت لو أني اموت ساعة ثم احيا بعدها لأرى زوجي في مثل وفاء الاستاذ لزوجته. صار الشاب يرتكب اخطاء متلاحقة في السجلات عيناه على الدوام ترفان خلسة وعلانية حولي, وانا منتشية بها, اضحك بملء صوتي حين يوجه رئيس الشعبة اللوم له على اخطائه, اغيظ زوجي بحكاية هذه الاخطاء لاثير غيرته, واستنفر مشاعره, فيظل متوهجاً بين ذراعي مثلما كان في شهر العسل. آه.. ميسون الآن تستعيد كل هذا, امام عيني, وانا التي كنت اميرة غرفة شطب الوفيات, ملكة متوجة في بيتي يقدم لي زوجي فروض الحب, الآن ادركت انها فروض, وانه لم يكن معي تماماً حتى لفظ مرة اسماً نسائياً غير اسمي, فأبعدته عني وما زلت اجهل سر القوة التي تلبستني فجأة حتى استطعت ازاحة جسد رجل بكل عنفوانه بل ورميه من فوق سريري. ارتطم كتفه بالمرآة المعلقة بباب الخزانة, تمايلت المرآة فتفاداها, لم اكن اريد له ان يتأذى, لكن صوت انكسار المرآة هو الذي جعلني ابكي, اقترب مني فانكمشت, قلت له وانا اهذي: اخرج من غرفتي. لملم ثيابه وانسحب متفادياً شظاياً المرآة, آنذاك انتهبت الى ارتعاش جسدي من الغيظ, مقهوراً ووحيداً. في الصباح رأيت حول عيني لوناً غامقاً وخطوط تجعيدة او تجعيدتين, لم آبه.. بحثت عن زوجي في ارجاء البيت, فتحت باب الحمام, باب التواليت, كان قد خرج باكراً ليتفاداني, ظل يتفاداني حتى سبب له ذلك سلسلة ازمات قلبية, اودت آخرها بحياته فتركت في نفسي شعوراً بالذنب مستديماً, وبرودة مثل الجليد تجاه كل رجل.. لم تعد تلميحات الموظف الشاب تعنيني, حتى احس ان فروسيته قد انكسرت, فقد طلب النقل, وانتقل الى دائرة اخرى في الطرف الاخر من المدينة. الآن مالذي اختلف , بدخول موظفة جديدة, سوى وجودي كشاهدة حيادية, كبقايا امرأة تتمنى الا يتكرر شيء مما حدث, وتتمنى في الوقت ذاته الا تفوتها مشاهدة اللعبة الازلية اياها مع امرأة وسط الرجل, وربما ... مع رجل بين امرأتين. اسعد الحسون: نموذج ميسون, مكتمل, رصين, هادىء ومثالي. عادة, انا انفر من الفتيات الصغيرات .. لطيشهن, لحركاتهن الزائدة, ودلالهن المفضوح, الاهم .. تغيرات أهوائهن. عادة, ارتجف في حضورامرأة مكتملة. كنت, ومازلت ارتجف من سطوة امي, من حضورها الطاغي حتى بين رجال قريتنا, يتوافدون اليها, يأخذون رأيها في كل صغيرة وكبيرة, تحل لهم خلافاتهم بأحكام قاطعة لاترد, بينما ابي بشاربه الكثيف يصب لهم القهوة المرة في الفناجين. اكاد اعبد امي, ولا احب ابي, .. كلما حاول التقرب الي انفر منه, اخرج من الغرفة التي تجمعنا الى باحة الدار, من الباحة اذا كان فيها الى الحقول, من الحقول خرجت وجئت الى هنا .. النساء هنا اكثر رقة واثارة, خصوصا .. المكتملات منهن, الناضجات, يستلطفن في شبوبيتي تلميحا وتصريحا وبما خلف نظراتهن, فيتركن هواجس اجسادهن في ليلي, احلم بهن .. الواحدة تلو الواحدة , هن في الغالب, غير متزوجات, سيدات انفسهن .. ابتعد عادة عن المتزوجات, انفر منهن, بل اتطير منهن متوجسا عواقب لا تنتهي .. جارتي في البناية, تصعد الى الملحق الذي اسكنه على سطح البناية بصحون الطعام ساخنة, ملتاعة ببخارها, وبروائح توابلها الكثيفة. اتحاشاها, اصدمها بحياديتي .. لماذاعلي ان اشارك زوجها فيما تطبخه؟! كأنها يئست مني, صارت لفترة تضع صحونها عند العتبة , تدق الباب وتنزل مسرعة, رغم اني متأكد من اغلاقها لباب بيتها وراءها بعصبية واضحة, لكني اشك انها تراقب اشتهائي لوجباتها الساخنة, الحارة, وترى كيف يسيل لعابي للرائحة الحريفة التي تنبعث من صحونها, ساقول لها ان طعامها يذكرني بطعام الوالدة, بالوجبات المنزلية التي افتقدتها منذ توظفت هاهنا, طامعا بحياة عريضة ملونة, فوظفوني في شعبة شطب الوفيات, امي تعاقبني, اشترطت علي لتشتري لي بيتا في المدينة ان اتزوج ابنة خالتي, قلت لها: افكر, ولم اعد ازور القرية منذ شهرين متحججا باشغال وهمية. عادة .. اتناول وجبات الطعام في مطاعم الفول والحمص والتسقية والفلافل, وانا متأكد ان طعام الجارة مركون امام بابي وقد برد وانكمش, او افسدته الحرارة وحط عليه الذباب اسرابا, ثم دلني ابو محمود على مطعم للوجبات الساخنة المطبوخة, فلما صرت زبونا مداوما فيه, اعتذرت علانية لجارتي عن قبول صحونها, تمنيت عليها بصوت هادىء وحيادي ان تعود بتوابلها قبل رجوع زوجها الى البيت, فدلقت الجارة صحن الفاصولياء الساخن علي, ولولا اني تراجعت فجأة, لكان وجهي الآن ملطخا بالحروق, ووسامتي السمراء في خبر كان. حين مدت ميسون يدها والتقطت يدي لتجبرني على اخذ قطعة كاتو ثانية, ارتجفت مستسلما لها وهي تدلني على اكبر قطعة , حلفت علي بصوتها العذب العميق ان آخذها, ارتجفت قطعة الكاتو في يدي, استندت بذراعي على الطاولة لاخفي ارتجافي, هل كان هذا عفويا؟ لا اظن .. كان هذا اشارة صريحة وكسرا لكل الحواجز. عند هذا الاستنتاج هدأت, صرت التهم الكاتو على مهل , بتلذذ ازدراه ابو محمود, صرت نكاية به اقرب الكاتو من فمي وكأني اقبل امرأة امامي, بينما عيناي تتابعان ميسون كلما مشت او استدارت, اقبلت او ادبرت, خصوصا حين ذهبت ناحية ام ايمن, ثم انحنت بكل جذعها فوق الطاولة لتطعمها بيدها, حسدت الطاولة, حسدت ام ايمن. دخلت ميسون وصبحت علي, استجمع مشاعري بين شفتي: - ياصباح الورد, والتفت قصدا نحو الاستاذ ابي محمود لاغيظه, لارد له تعاليه علي, ونصائحه الوظيفية باعتباره رئيسي المباشر .. لا اتصور نفسي مكانه بعد عشرين عاما, في نفس الغرفة, وكنت رأيت في احد احلامي, ان كرسي المدير الدوار يحتويني ويدور بي, يدور. ميسون الماء وردي: تغيرت معالم الغرفة بعد حفلة الترحيب الاولى, ثم بعد حفلة الكاتو .. صرت حقل اختبار لثلاثة ازواج من العيون, يوميا, طيلة ست ساعات متواصلات. ام ايمن, تتفحصني كلما دخلت من مفرق رأسي وحتى قدمي, ترمق بتعال تسريحة شعري, تعلق على نوعية احمر الشفاة وسماكة الكحل, تذم شفتيها كلما كان صدر البلوزة اوسع قليلا مما تحتمله, حتى اضطررت الى عقد منديل حول عنقي, تعلق: راحت موضة المناديل .. لايعجبها مني العجب ولا صيام رجب, تحدق في وجهي مثل طبيب امراض جلدية يفحص مصابا بالجرب, كيف سافهمها ان بشرة عائلة الماء وردي لاتعرف التجاعيد, خصوصا وجوه نسائها, لعلها ترتاح, لكنها لاترتاح .. تتأمل تصرفاتي مع زملائي الرجال, خصوصا اسعد, تغار من تدفق الموظفات في الدائرة ليتعرفن علي, كيف سافهمها اني اكره الثرثرة, والكلام في التفاصيل الصغيرة, اكره النميمة اكره الكلام في خصوصيات الناس, بل اكره الذهاب الى المراحيض, لا تعرف ام ايمن كيف تقطع اثنتان من الموظفات حديثهما الهامس وضحكاتهما الغامضة, ليتابعا الحديث السري في مراحيض النساء بعيدا عن العيون والآذان, امام المغاسل يتجمعن اثنتين او مجموعة, ثم تخرج السجائر المخبأة في حقائبهن, وتخرج الاسرار والفضائح والنكات, يتبادلن السكائر, نافخات الدخان بتلذذ وكأنهن قد حصلن على حريتهن , حتى يصلن الى حد الاختناق من اختلاط الروائح بكثافة دخان التبغ, يسعلن , فيضحك الآذن ابو مطير حين يسمع سعالهن المخنوق, ثم يصرخ في الممر بصوت مسموع: - مارلبورو ... كنت .. إل إم بالنعناع اروي ما رأيت لام ايمن فلا تعلق, لا اعرف كيف اتعامل مع المرأة الوحيدة التي تشاركني في الغرفة, لا اعرف لماذا لاتلومني بنظراتها النارية, حين يتعلق الامر بتودد الاستاذ ابو محمود الدائم الي باطرائه لي تلميحا وعلانية, بافتخاره بما انجزه من عمل حتى لو كان عزرائيل قد اخذ اجازة هذا اليوم. اليوم ... خرجت ام ايمن لتجلب تموين الشهر, وطلب المدير الاستاذ ابو محمود لامر ما, خلت الغرفة سوى من اسعد ومني, نهض فجأة, واقترب متلهفا وهو ينحني هامسا لي, بجملة لاهثة, سريعة: - اليوم , الساعة السادسة, انتظرك في كافتريا الاندلس. وحين لم ارد, ابتعد عني بانفعال, دار حول الطاولة, وقف قبالتي: اتمنى ان تأتي, ارجوك. ثم خرج من الغرفة وكأن النار قد امسكت بثيابه. خفق قلبي بشدة, احسست بعطش مفاجىء, تلخبط كياني لجرأته, شعرت ان الكرسي تحتي ستتفكك قوائمه فنهضت صوب النافذة. عاد الاستاذ ابو محمود: هنيالك ياميسون, المدير ينبهني على تقصيركم, وانت واقفة عند الشباك. التفت اليه, لم يلحظ اضطرابي, لم يلحظ انه خاطبني باسمي هكذا, وحين ادرك اننا وحيدان في الغرفة, ابتسم ابتسامته الطفولية, طلب مني بصوت مرتبك عنوان اكبر رجال عائلتنا, ذهب نحو الباب ممسكا بقبضته, ثم رجاني ان اكتب له العنوان, ثم اضعه في اي ملف على طاولته, قال ذلك على عجل وعيناه معلقتان بما وراء النافذة, ثم خرج من الغرفة كأنما من خشية ان يضبطه احد في وضعية انفراد مع امرأة! ايوب الرجب: لم تكن ميسون شيئا, لم تعطني اي ملف بحجة التدقيق, عندما انصرفت فتحت الملفات كلها, قلبتها بعناية, لم اجد فيها عنوانا. خجلت.. لم تنظر ناحيتي ابدا, العذراوات يخجلن حتى لو كن في السبعين, سأفاجئها هذه الميسون, اهه.. جلبت دليل الهاتف,فتحته على حرف الميم.. الماء وردي, ماء وردي عدنان, اهاه, اتصلت, ذكرت للمرأة التي اجابتني اني اريد السيد عدنان, جمدت فترة, قالت: اعطاك عمره.. لا حول ولا قوة الا بالله يا اختي: الله يرحمه.. مين حضرتك؟ ذكرت للمرأة اسمي وصفتي : ايوب الرجب, رئيس شعبة شطب الوفيات, سمعت حشرجة هواء, اطمئني ياخالتي, اريد رقم اقرب ولي امر للانسة ميسون ماء وردي, طولي بالك, الانسة ميسون بخير, بس, معاملة وفاة امها, تحتاج لتوقيع عم او خال, اقتنعت المرأة, اعطتني اسم العم الاكبر, ورقم هاتفه, شكرتها, اتصلت, عرفت بنفسي واسمي وبصفتي الوظيفية, طلبت تحديد موعد للتشرف بطلب يد ابنة اخيه.. الانسة ميسون, رد العم بسرعة لم اتوقعها: الساعة ستة, مليح, شكرته, نقلت عنوانه.. الساعة السادسة سأكون هناك بكامل اناقتي وانطلاقتي وخبرتي الواسعة في الحياة وفي اسماء المواطنين اسعد الحسون: اتطلع في ساعتي للمرة الالف.. السادسة الا ربع, حين اكدت على موعدي معها ذكرتها باسم الكافتريا, لن تنساه.. اية امرأة لن تنسى, خصوصا حين يطلب شاب وسيم مثلي موعدا. ينتصب الجرسون امامي فجأة: لم اطلبك! ابتسم: كنت تضرب بمفاتيحك على طرف الطاولة, احيانا يستخدم الزبائن طريقة جديدة في مناداتي. احسسته يسخر, فقذفته بطلباتي: قالب كاتو صغير, مغطى بطبقة كثيفة من الكريما البيضاء, في وسطه شمعة حمراء, احضر ايضا قرنفلة حمراء. ابتسم لي وكأنه يقرأ في عيني ان هذا اول موعد لي مع امرأة, صفعته بتأكيدي: عندما تدخل ميسون وتجلس ذكرت اسمها تأكيدا على ثقتي بنفسي تأتي من خلف ظهرها, ثم تضع القالب امامها كمفاجأة رفعت اصبعي في وجهه اياك ان تنطفىء الشمعة. حين هز رأسه بتفهم واحترام, مددت يدي الى جيبي والتقطت اول ورقة مالية صادفتها اصابعي, نترتها في وجهه مائة ليرة دفعة واحدة! انحنى.. شعرت بحماقتي.. كانت عشر ليرات تكفيه استدار ليمضي, فاستدركت بثقة اكبر والحروف تخرج من انفي: القرنفلة الحمراء اولا. انحنى: امرك استاذ اشرت له بطرف اصبعي لينصرف وانا اكتم ضحكة عن تغير احوال العباد بسحر ورقة مالية.. عدلت وضع اكتافي بينما عيناي مستمرتان على باب الكافتريا الزجاجي, وقلبي يرتجف, يصطك, يدق مثلما تفعل الساعة المعلقة قربي على الجدار. ميسون الماء وردي اتصل بي عمي, طلب مني المجيء الى بيته مبتهجا: ابن الحلال, اتاك يابنت اخي, الاستاذ ايوب الرجب. لم اع لوهلة تطابق الاسم مع احد اعرفه, تساءلت: مين؟! قال العم: الاستاذ رئيسك في دائرة النفوس. ابو محمود؟! ضحكت, فنهرنى العم: بلا مسخرة, الرجل محترم, هذه اخر فرصة لك لتنسترى واخلص انا من بلاويك. اعتذرت للعم, اكدت له مجيئي.. حين انهيت ارتدائي لاجمل اثوابي وانهيت زينتي ضحكت ثانية وانا اتخيل معاناة ايوب حتى وصل الى عمي, لو انه اختصر, لو انه دعاني الى لقاء معه في اقرب كافتريا. تذكرت موعدي مع اسعد.. تطلعت في ساعتي, السادسة الا ربعا .. ترددت, لابد انه ينتظرني الان, ايوب ايضا في طريقة الى بيت عمي. نظرت في المرآة, فاكتشفت اني اعتنيت بمظهري بشكل مضاعف, كأنما زينتي واناقتي كانت لرجلين. احسست اني كدرفتي شباك مفتوحتين, تهزني نسمات من هنا, ثم تهزني ريح من هناك. الزواج.. من قال اني لا اريده, ما يعرضه على ايوب.. اكبر قليلا على, لن احلم بأصغر منه ليطلب يدي.. موظف, عنده بيت, رئيس شعبة شطب الوفيات, انقبض قلبي. واسعد الحسون.. حسون, لايهدأ عن طيرانه حولي, يعرض علي قصة حب, عشقا وغراما ومواعيد, سهر الليالي ولقاءات في الحدائق والمطاعم, الامساك بالايدي في السينما, هدايا صغيرة تصبح احلى واغلى من الذهب والجواهر وكنوز الدنيا, كلمات حب لاهبة.. احلام, هز كياني هذا الحسون حين دعاني لموعد.. وانا... ركضت نحو الهاتف, اتصلت بأم ايمن, قلت لها اسمعيني ولا تقاطعيني دخيلك, شرحت لها كل القصة, كل التفاصيل .. تحججت بترفعي عن طلب اسعد الحسون وموعده, تذرعت بسؤالي لها عن احوال الاستاذ ابو محمود وتفاصيل ماضيه. ضحكت ام ايمن طويلا, اقلقتني ضحكاتها, قالت اخيرا: عندي دواك ياميسون, خذي نصيحة واحدة تزوجت قبل عشرين عاما, واحدا مثل ابو محمود, ماتت زوجته الاولى.. ضرتي, حتى وفاته بالجلطة كان يعيش معها, وليس معي. والعمل يا ام ايمن؟! فاجأتني حين قالت بحسم: اذهبي الى موعدك مع الحسون ثم اغلقت الخط في وجهي فارتجفت, تدلت من يدي سماعة الهاتف, ارتطمت بالارض واعادها نابض الشريط فاهتزت في الهواء, لاتستقر على حال, دقت ساعة الحائط القديمة معلنة السادسة تماما, عقرباها متعامدان مثل سيف. قاص ومسرحي سوري من مواليد ادلب عام 1959كمجموعة قصص ومسرحيات ابرزها (ساعة باب الفرج) الانفاس الاخيرة لعتريس, نون النساء, حكاية تل الحنطة) .

Email