استراحة البيان: رسائل وأشياء أخرى: يكتبها اليوم - ظاعن شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

تلقيت ومثلي آخرون كلمات وعبارات جميلة وغريبة, طارت في الفضاء واستقرت في زاوية ضيقة من زوايا هواتفنا النقالة.. كنت أعتقد ان خللا ما أصاب عقل الهاتف , وان تلك المشاعر المتدفقة, والحس الرومانسي, والبوح المثير, ما هي إلا علامات وبوادر ذاك الارتطام, الذي تعرض له الهاتف في غضون الاسبوع الماضي, من جراء سقوطه من يدي. ولكن الأمر أصبح مختلفا بعد الرسالتين الأولى والثانية.. فقد كتبت الرسالة الثالثة بحروف وكلمات احتاجت دقائق لفك رموزها, ولاني لست ذاك المتبحر في فك الشيفرات أحسست بالانتشاء وأنا أنتهي من معرفة ما تريد أن تقوله الرسالة, وفي الوقت نفسه ضحكت من نفسي على نفسي لسذاجتي وعدم درايتي بأسرار اللغة الجديدة التي بدأت تأخذ دورها في تشكيل ثقافة العالم. ببساطة كانت حروف الرسالة المبثوثة عبر جهاز الهاتف, مكتوبة بحروف انجليزية, وقد اعتقدت ان مرسلها أراد مداعبتي لمعرفته حال تلك اللغة عندي, ولكن بعد قراءة متعثرة اكتشفت انني لا أفهم شيئا من تلك العبارات الممددة في صندوق الرسائل الخاص بهاتفي.. ومن جديد كررت المحاولة فاكتشفت سذاجتي لان الرسالة مكتوبة باللغة الأوردو ولكن بحروف انجليزية, ذلك ان لغة الهاتف والبرمجة لا تأخذ إلا ما يكتب بتلك الحروف, فأصبحت العبارة (سلام, كيساه هيه ماي فلاور) وبعدها وضعت علامة استفهام وحرفان بينهما نقطة لا أعرف هل هذا توقيع المرسل أو الحروف الأولى من اسمه. عموما ابتسمت وأنا أرى هذه التقنيات الجديدة التي تمدنا بها (اتصالات) يوميا, لقد كان ذاك الصباح بالنسبة لي صباحا جميلا عندما وجدت في الزاوية اليمنى من شاشة الهاتف علامة تدل على وجود رسالة, ورغم انني لست مشتركا في تلك الخدمة إلا ان الفضول حملني إلى البحث عن الرسالة ونصها مثلما حملني إلى معرفة كاتبها ومرسلها.. خاصة وان أغلبنا تحركه الأسرار الخفية فيبحث عن مكنوناتها لاهثا وراء خيط أو عدم, ورغم التعب الذي يؤطرنا من جراء ذلك نبحر في المحاولة المليون خلف تلك الأسرار المثيرة. وحتى لا ألهث كثيرا أو أذهب بعيدا وراء تلك الفنون والتقنيات الاستهلاكية التي أصبح الكل من هواتها ومريديها, أضع نقطة قديمة وتافهة هنا اكتشفها العرب منذ أزمنة غابرة, ورغم ذلك لا أبدأ من أول السطر كما يفعل الكثيرون, بل أكمل تلك الحكاية القديمة التي يحاول التقنيون الهروب منها فيجدونها أمامهم مرسومة, يتجهون شرقا فيرونها قدرا محتوما, فيعدلون ويتوجهون غربا فتصبح حياة ومبدأ. انها الكلمة المكتوبة والمرسومة بشفافية الحس التي يحاول العالم الحديث بتقنياته الهروب منها ليعود إليها مجبرا, فأي معنى للورد الذي لا تصاحبه بطاقة مكتوب على وجهها كلمات من عشق ومطر. وأي معنى للصوت القادم من سماء الحب دون أن يقدره الآخر برسالة ود. هكذا نجد أنفسنا نعود من حيث لا ندري إلى طبيعتنا فنكتشف اننا مجبولون على اللغة والكتابة فنكتب وننتشي, ونسبق الأزمنة بمراحل والتقنيات بسنوات ضوئية, فمن كان يتوقع أن تسبق العرب في أدبياتها الأمم الأخرى وتصف هذا الفضاء المفتوح الذي يعج بمئات المحطات الفضائية التي تتسابق في بث الأحداث الفنية والسياسية والرياضية أولا بأول, فها هو أحد شعراء الأزمنة القديمة يقول: غنت سليمى بالحجاز فأطربت مع بعدها أهل العراق نشيدا ولو انها رقصت بمصر فقد ترى في اصبهان لقدها تأويدا وكأن الشاعر بحسه سبر أغوار هذا الزمن وعاش أيامه وتواصل مع قنواته الفضائية. وحتى لا تأخذنا تلك القنوات بمدها المرئي أعود من حيث أبحرت حيث شواطئ الكلمة المكتوبة, فأنا وغيري استيقظنا ذات صباح على (مسبح) أو رسالة تأمرنا أن نقرأها, فلبينا ذاك الأمر بحميمية مطلقة واكتشفنا انه مهما قادنا تطور الآلة الصماء عاودنا الحنين إلى رؤية تلك الأبجديات الجميلة التي نكون منها الأسماء والأفعال والضمائر والاشارات والأرقام فنهجي بعضها ونهمل بعضها, ونتواصل مع بعضها الآخر.. لقد أثارني ذاك الفضول الانساني اللاهث وراء تلك الخدمة التجريبية التي بدأ الجميع برمجتها في هواتفهم ليس من باب التباهي بالتقنيات الجديدة التي يستقبلونها أو يتعاملون بها, بل من باب أن تلك التقنية حركت في دواخلهم أشياء دفينة, أشياء صغيرة لكنها مهمة للشعور الانساني الذي توقف فجأة عن الحركة عندما داهمته الوسائل التكنولوجية بسطوتها وتأثيرها المباشر, لكنه عاد فجأة أيضا إلى حركته عندما عادت تلك الأشياء إلى طبيعتها وتلقائيتها. أعود فأسأل عن أهمية الرسائل ومدى تأثيرها ووقعها على الإنسان, وأكمل فأجيب بكلمات شعرية قالها أحد كتاب الأغنية: رمت رسايلها عليّ وفي وسطهن كانت صور حروف من حب وحكي وأسرار يعرفها القمر إنه صباح جميل.. تتثاءب فينهض الحب, وتنهض فينهمل مطرا رقيقا.

Email