استراحة البيان:أهمية أن يكون لديك مطار: بقلم- محفوظ عبدالرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

في زمن الصبا والاملاق كان بعضنا يحلم ببيت جميل وعندما حصلنا على هذا البيت الجميل، حلمنا ببيت آخر على الشاطىء ، ولقد رأيت بعضها فإذا هي كأنها قصور الاحلام. والغريب انني لم احلم ابدا مثلهم، وان كنت احيانا ـــ مع احلام اليقظة ـــ اتمنى ان امتلك مطارا! وهي رغبة غريبة بل تبدو مضحكة من شخص يخاف الطائرات والطيران بل وتاريخه مع المطارات لا يسر عدوا ولا حبيباً. ربما اتت هذه الرغبة من اعجاب قديم بأحمد سالم ولم يكن في جيلي من ليس مفتونا بهذا الشاب الوسيم. كنا معجبين به كممثل ومخرج وكرائد اذاعي وسينمائي لكنه ايضا كان يملك طائرة خاصة يقودها بنفسه. ولقد قادها من لندن الى القاهرة في عام 1932 اذا لم تخني الذاكرة واذا خانتني فلعل هذا حدث بعد ذلك بعام او عامين على الاكثر. وبعد ان هبط احمد سالم بطائرته في مطار امبابه بالقاهرة قضى يومه، ثم عاد ليطير الى قريته ابوكبير بمحافظة الشرقية. ولانه كان خطط لهذا منذ وقت فلقد اعدوا له مطارا خاصا تضاربت الآراء في مساحته. وقال لي احدهم انه كان خمسين فداناً وهو ما اشك فيه، فحتى في ذلك الوقت عندما كانت الطائرات تحتاج الى ممرات طويلة، كانت الخمسون فدانا اكبر بكثير من اي مطار. وكنت معجبا مثل غيري بالازياء التي يلبسها احمد سالم وبالسيارات التي يركبها، والنساء اللاتي يحببهن مثل اسمهان وكاميليا وتحية كاريوكا وامينة البارودي حفيدة الشاعر الكبير. ولكن اعجابه الاكبر كان بامتلاكه مطارا. فلقد ادركت آنئذ ان المطار لا يمثل ما يعنيه فقط، بل يمثل ايضا القوة، والاستقلال والحرية. وبالتأكيد زادت تجربتي الاولى بالمطارات هذا الاحساس بالمطارات وكان ذلك عندما ذهبنا في جماعة كبيرة لنودع اول زميل لنا يسافر الى الخارج. ولم اكن قد دخلت المطار قبل هذه المرة وان كنت رأيته من الخارج مرات، ولم يكن هناك سبب لدخوله ولم اكن املك الشجاعة لاسكات فضولي، فأدخل المطار دون سبب وربما كنت اظنه منطقة عسكرية ممنوع الاقتراب منها. وكان السفر في تلك الفترة صعبا وكنت من اسرة ريفية ترى في الغربة افظع آلام الانسان ومع ذلك فلقد كنا مبتهجين ونحن نسير في هذا المكان الفسيح، نتبادل الاحاديث مع بعضنا ومع الزميل المحظوظ الذي تعاقدت معه احدى الشركات الالمانية للعمل في الجزائر وكان اكثر ما اثار دهشتي وكان لابد ان يفعل هذا ان صوتا في الميكروفون نادى على احد زملائنا وكرر النداء. وقفت مذهولا: اننا لم ندخل المطار فقط. بل هم يعرفون اننا هنا في المطار. رغم اننا لم نسجل اسماءنا وربما احسن زميلنا »اسماعيل« بالفخر لانه تميز علينا جميعا بان الميكروفون يعرف اسمه. وغاب »اسماعيل« وودعنا صديقنا وانتظرنا عودة »اسماعيل« طويلا وحاولنا ان نبحث عنه فلم نجده كان اول شخص اعرفه يضيع في المطار! ولما كان انتظارنا في المطار، قال احدهم انه ربما تأخر حيث كان ولم نكن نعرف اين كان فظن اننا انصرفنا ولذلك عاد الى البيت. وذهبنا الى بيته فقالوا لنا انه منذ خرج معنا لم يعد وظللنا اياما نسأل عنه حتى عرفنا ما حدث. وهو ان اجهزة الامن قررت اعتقال صديقنا »اسماعيل« وذهبوا الى بيته لتنفيذ هذا الامر، ولما لم يجدوه عرفوا انه ذهب الى المطار فذهبوا الى هناك حيث نادوا عليه فلما ذهب ليعرف سبب النداء عليه اعتقلوه. واذا اقتربت من الحركة السياسية في ذلك الزمن ستجدهم اسموا كل حركة اعتقال باسم كما كان العرب يسمون معاركهم. فكانت هناك ايام البسوس وداحس والغبراء وهوزان وغطفان وغيرها ولقد اسموا حركة الاعتقال هذه »حبسة مااعرفش« لانهم لم يعرفوا سببا لها وقيل ان السبب الحقيقي في بطن امن الدولة! المهم ان تجربة المطار هذه اثرت فيّ تأثيرا كبيرا فذات مرة كنت مسافرا الى عاصمة عربية وتدخل الجو فتغيرت حركة الطيران، وعندما وصلت كان في انتظاري بعض الاصدقاء الذين نادوا عليّ في الميكروفون. لكنني فاجأتهم بانني بينهم فلما سألني احدهم لماذا لم اذهب الى الاستعلامات للرد على النداء قلت له: هل انت مجنون؟ من يرد على النداء يختفى عاما!! وزادت رغبتي في امتلاك مطار فعندما تمتلك تصبح حرا ولا تمسك بك الشرطة. وهذا ما اكده رئيس الجمهورية الوحيد الذي اعرفه غير زميلنا الكاتب التشيكي فاتسلاف هافين، والذي اقصده رئيس جمهورية افريقي سابق. وبطبيعتي لا اعرف هؤلاء القوم، لكنني كنت على سفر واكتشفت ان السيد الرئيس يقطن الغرفة المجاورة. فلقد كان ايضا في زيارة لنفس البلد. ومنذ ان اتى ضقت بحياتي. فلقد كان حرسه على باب حجرتي يرقبونني في الدخول والخروج. وانتهزتها فرصة ونحن في المصعد. وابديت ضيقي من جيرته. وبدل ان يغضبه الرئيس كما توقعت، ضحك من قلبه، وادركت من هذا ان الرؤساء السابقين لا يغضبون مما يغضب منه الرؤساء الحاليون. وفي الفترة الباقية كنا عندما نلتقي يهز احدنا رأسه للآخر، ويدهش الناس لان كلا منا يعرف الآخر. وبعد عام تقريبا صمم صديقي اسماعيل ان التقي بالسيد الرئيس السابق. وبالتأكيد لم يكن الرئيس السابق يعرف اسمي، فالرؤساء السابقون لا يعرفون الاسماء، لكنه عندما رآني تذكر علاقتنا العابرة في الفندق. وفتح ذراعيه مرحبا. ونحن نتقابل كثيرا. ويرى فيّ مستمعاً جيدا، ولقد حكى لي بين ماحكى ان الانقلاب الذي حدث ضده، تم وهو مسافر. ولما وصل الى مطار بلاده عرف بالاخبار في المطار، لان من يديرون المطار كانوا من رجاله، وفكر الرئيس السابق بسرعة. لوانه استمر في طريقه ودخل البلاد ربما عاد الى كرسي الرئاسة. لكنه من ناحية اخرى قد يلقى حتفه على الطريقة الافريقية. وهو نفسه استخدم هذه الطريقة مع آلاف من معارضيه. اما اذا عاد مرة اخرى فسينعم بحياته مع بضعة ملايين اخرجها الى بنوك العالم توقعا لليوم الاسود الذي أتى وما كان يرجو أن يأتي فضلا عن علمه في انه قد يعود يوما! وامر الرئىس السابق قائد الطائرة بالعودة الى السماء مرة اخرى. ولانه يحب »الهاوية« حكى لي كيف ان الانقلابيين تنبهوا الى عودته، فأسرعوا الى المطار يطلقون الرصاص. في الوقت الذي كانت فيه الطائرة تبتعد عن مدى المدافع. ولقد نسيت ان اقول لك ان ماجمعني بالرئيس السابق لم يكن عدواني غير المتوقع في المصعد، ولا رغبة صديق مشترك في ان يعرف كلا منا بالآخر، بل حب الرئيس السابق بالسينما، بل وهوسه بها. من هذا كله ادركت ان حبي للمطارات له مبرر، وان رغبتي في اقتناء مطار هي رغبة مشروعة. ولقد كان خالد بن الوليد اعظم قواد العرب ربما لانه كان عندما يمر على مكان يتخيل انه يقود فيه معركة، واظنني هكذا. لا اقصد طبعا انني قائد جيش. بل اعني انني كلما مررت على مكان يصلح مطارا، تأملته، ومدى صلاحيته لهذا. ما يقلقني هو قضية الامن. هل سيكون في هذا المطار ميكروفون؟ ومن الذي سينادي على الناس في هذا الميكروفون؟ ومن يضمن لي ان اكون جالسا في مطاري الخاص، فاسمع اسمي في الميكروفون؟ هذا وحده يكفي لان يصيبني بالرعب! ولنفرض انني ذهبت لاعرف سبب النداء، من يضمن لي انهم لن يحبسونني لعام، وربما أكثر. ولقد ذهبت الى صديقي اسماعيل ولقد صار الان رجل اعمال ناجحاً وحكيت له عن هوسي في امتلاك مطار، وتوقعت ان يقول لي بحكمته: ان الزمن تغير. ولكنه تنهد وقال لي: لا شيء تغير ياصاحبي، فاحذر المطارات وبالذات الميكروفونات! لكن رغبتي في امتلاك مطار مازالت مشتعلة.

Email