استراحة البيان: الفن وليس الماضي.. هو الجميل!! يكتبها اليوم - جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحنين الى الماضي شعور طبيعي عندما يمتد بنا العمر, وحين نصطدم بتعقيدات الحياة, وحين نشعر بالغربة عن الواقع ويداهمنا الخوف من المستقبل . وعالمنا العربي يمر منذ سنوات بمثل هذه الحالة وهو يعيش حالة الانكسار وغياب الأحلام. سواء على مستوى الوطن أو على مستوى المواطن المهموم بما يراه, والمهموم أكثر بما ينتظره. هناك جيل كامل يحن الى هذه السنوات القليلة التي يبدو أننا سرقناها من الزمن.. ما بين انتصارنا في حرب السويس في منتصف الخمسينات, وبين الانكسار في 67. هذه السنوات العشر التي انجزنا فيها ما يكاد يشبه المعجزة.. التحرر, والانطلاق في طريق التنمية, واستعادة الثروات المنهوبة من قناة السويس الى المؤسسات الكبرى الى البترول بعد ذلك, وأول وحدة في التاريخ الحديث, وجيل شاب يتولى المسؤولية وينجز الكثير, والإبداع ينفجر في كل المجالات, والاصلاح لايبدو لها آخر. لكن الانتكاسة تقع, والأحلام الكبرى تغيب, ومسيرة التراجع تبدأ, وتبدأ معها ظواهر اللجوء الى الماضي, ومع عودة حزب الوفد بدأ الحديث عن الجنة التي كانت في مصر قبل ثورة يوليو 1952!! ومع ظهور جماعات التكفير والهجرة بدأ الحديث عن العودة للعصور الاسلامية الأولى.. لا لكي نستمد الطاقة الروحية لمواجهة الواقع وتغييره. وإنما لنعيش كما تعيش افغانستان تحت حكم الطالبان.. حيث التلفزيون حرام وتعليم البنات مرفوض وكل ما تأتي به الحضارة ويتوصل اليه العلم الحديث.. حرام في حرام! الحنين الى الماضي شيء والهروب الى الماضي شيء آخر. الحنين يمكن ان يكون فعلا إيجابيا حين نستلهم الماضي ونفهمه ونعرف مصادر القوة فيه ونقاط الضعف لننطلق بعد ذلك الى المستقبل ونحن أكثر قدرة على التعامل معه. أما الهروب فهو انسحاب من الحياة ــ يأسا أو غضبا ــ لكي نرتمي في الظلام.. لا تبصر عيوننا شيئا ولا تفكر عقولنا إلا في المستحيل الذي هو إعادة الماضي الذي يصبح في هذه الحالة مخاصما للتطور وعائقا عن إبداع الجديد الذي يفتح أبواب المستقبل. داهمتني هذه الخواطر وأنا أشاهد المعرض الجميل للفنان الكبير الصديق حلمي التوني, والتوني ينطلق في كل أعماله من إيمان عميق بأن العمل الفني يستمد قيمته من ارتباطه بالوطن والأمة بكل ما يعنيه ذلك من استلهام للواقع والتاريخ, الناس والشوارع, الملامح المتميزة والاحاسيس الخاصة, الافكار والمعتقدات والخرافات, النيل والنخيل وأحلام الصبايا وهموم الرجال.. لتكون اللوحة في النهاية عملا لا يصدر إلا في مصر ليحمل روحها وأشواقها وفرحها وانكساراتها, وهو يؤمن أن هذا هو الطريق الوحيد لكي نبدع فنا حقيقيا, دون الجري وراء (التقاليع) التي قد تناسب الغرب وقد تعبر عن هموم الانسان هناك, ولكن (المحلية) وحدها هي طريقنا الذي يجعل العالم يلتفت إلينا, ويستمع لموسيقانا, ويقرأ أدبنا, ويستمتع بما نبدعه من نحت وتصوير. يعود التوني الى ما يسميه (الزمن الجميل) .. إنها لحظات الصبا وتفتح الروح والعقل على منابع الجمال وسحر الفن.. يقف أمام أم كلثوم وعبد الوهاب وممثلة السينما الجميلة بطلة رصاصة في القلب لعبد الوهاب.. المصرية اليهودية راقية ابراهيم.. وفاتنة المسرح التي رحلت أخيرا والتي كانوا يطلقون عليها (سارة برنارد) الشرق. ويقف التوني أمام بعض الوجوه من الأسرة المالكة السابقة, وبالتحديد أمام الملكة فريدة الزوجة الاولى للملك السابق فاروق والتي كانت وجها محبوبا من الناس, ثم شقيقة الملك الأميرة فوزية الزوجة الأولى لامبراطور ايران الأخير رضا بهلوي.. ربما بسبب الضجة التي آثارها زواجها ثم طلاقها, أو بسبب القصص التي تناولتها هي وأخواتها وأمها والتي كانت أحد أسباب ضياع هيبة الأسرة المالكة قبل الثورة.. أوضاع القليل الذي كان قد تبقى منها! ومع كل هذه الوجوه يتذكر الفنان الكبير الوجه المقابل.. الحارة المصرية وبنت البلد بالملاية اللف و(البرقع) الذي يخفي ولا يخفي الوجه, ويرسمها كأنها خارجة لتوها من ديوان بيرم التونسي.. ذلك العاشق لتراب مصر الذي قال بعد عشرين سنة من المنفى: أقول لكم بالصراحة اللي في زماننا قليلة عشرين سنة في السياحة وأشوف مناظر جميلة ما شفت يا قلبي راحه في دي السنين الطويلة الا ما شفت البراقع واللبده والجلابية فناننا الكبير يرسم وجوها أحبها وأحبها الناس باعتبارها رموزا لزمن جميل ينبغي أن ننظر اليه باحترام.. ولذلك يضع عنوانا لمعرضه (وجوه جميلة من زمن جميل) . ولأن التوني ليس فنانا يرسم ويمضي لحال سبيله, فإنه يحرص على أن يقدم أفكاره التي جاء منها المعرض.. وهي أفكار تحتاج للمناقشة, فالزمن الجميل عنده هو النصف الأول من القرن.. والستينات زمن جميل ولكنها حادث طارىء ولذلك لم يستمر! والنمو الطبيعي كان قبل ذلك.. والمفهوم أن هذا هو الذي ينبغي أن يستمر! ولان القبح يحاصرنا هذه الأيام, فإن التوني يلجأ للقديم ويتحصن به.. ولكن الجنوح يأتي من القول بأننا لم نستطع أن نفعل مثلما فعل هؤلاء المبدعون. ليس لدينا الآن تمثال مثل نهضة مصر, والعمارة الجديدة قبيحة, ولمسة الجمال غائبة, ومن هنا فلابد من مراجعة لا تصدق الأمجاد والشعارات الزائفة, ولا تلتفت الى الرموز الكرتونية, ولا تنبهر بأشباه النجوم, بل تنظر الى الماضي باحترام.. والملاحظة الأولى هنا أن النماذج التي صورها الفنان الكبير كانت كلها ــ فيما عدا الملكة فريدة والأميرة فوزية ــ نماذج لشخصيات لا يختلف عليها أحد. وظلت جميعها جزءا من وجدان الأمة بعد الثورة وحتى الآن.. مازال طه حسين هو رائد التنوير. وأم كلثوم وعبد الوهاب ازدادا في الستينات تألقا. والشيخ رفعت كان ومازال سيد المقرئين, وفاطمة رشدي مازالت ذكرى جميلة, وراقية ابراهيم اليهودية المصرية التي اعتزلت وسافرت لامريكا لتعمل في الأمم المتحدة مازالت أفلامها تذاع في التلفزيون, ومازالت تبهر المشاهدين بجمالها وعبد الوهاب يقول لها: علشان تبطلي تاكلي جلاس وتدوبي في قلوب الناس والملاحظة الثانية.. أنه اذا كان المعرض للذين أسهموا في اثراء الوجدان المصري والعربي, فلا مكان هنا لفوزية وفريدة. ولو كان المقصود إعادة الاعتبار للأسرة المالكة فلا علاقة للاثنتين بذلك, واعتبار الأسرة ظل محفوظا بالنسبة لمن ساهموا في بناء مصر.. ولا أحد يتحدث عن بناء مصر الحديثة الا من خلال محمد علي ثم جمال عبد الناصر.. فهما فقط من بين حكام العصر الحديث اللذان فهما دور مصر وسعيا لتحقيقه من خلال مشروع قومي.. ولذلك تم ضربهما. أما فوزية وفريدة فهما في النهاية جزء من الكارثة التي انتهت اليها الأسرة المالكة حين أفلس النظام قبل أن يسقط في عام ,1952 المبرر الوحيد لوجود فوزية وفريدة أنهما كانتا ملء السمع والبصر في هذه الفترة, وتعاطف الناس معهما بعد الأزمة التي تعرضتا لها. والملاحظة الثالثة والأهم أن الستينات لم تكن حدثا طارئا, ولم تكن حدثا منقطعا عما سبقها, ولم تكن نبتا غريبا في التربة المصرية. بل ان العكس هو الصحيح.. فيوليو هي الحقيقة الكبرى في كل تاريخنا الحديث, وما حدث في الخمسينات والستينات هو أن أشواق الناس للعدل والحرية والاستقلال وجدت طريقها لتكون واقعا, ومن هنا انفجر بركان الإبداع في كل المجالات. ان مسرح الستينات لا يمكن مقارنته بمسرح فاطمة رشدي, وسينما الستينات والخمسينات هي الاجمل, ولا يمكن مقارنة راقية ابراهيم بفاتن حمامة, أو بالساحرة سعاد حسني شفاها الله, ولا يمكن مقارنة إبداع مخرجي الاربعينات بسينما أبوسيف ويوسف شاهين وتوفيق صالح وشادي عبد السلام. والأجيال التي تعلمت من طه حسين الشجاعة والحرية أبدعت في القصة والشعر والرواية ما هو جدير بكل احترام. والفن التشكيلي ظل على صعوده في هذه الفترة, واذا كانت تماثيل السجيني لم تجد مكانا لها في الميادين فالعيب لم يكن في الابداع وإنما في أشياء اخرى. والأغنية مع جيل عبد الحليم حافظ بلغت قمة لم تتكرر. أما القبح والرداءة وفقر الابداع فجاءت مع زمن الردة التي قادتنا الى ما نحن فيه على كل الأصعدة, لقد أجهضوا الحلم الحقيقي الذي سطع في الخمسينات والستينات والذي ورث أجمل ما أبدعته مصر قبل ذلك ليصنع منه المشروع القومي الذي انقضوا عليه بعد ذلك.. فكان ما كان. .. ويظل الفن الجميل يوقظ فينا أجمل المشاعر وأرق الأحاسيس, ومع فنان مثل التوني تطل أفكاره من خلال ما يرسم لتبدأ حوارا لابد منه. قد تختلف معه في الكثير, ولكنك لابد أن تتفق معه حين يقول: اننا نستحق زمنا أجمل ونستطيعه لو أردنا!!

Email