استراحة البيان: ديوان الحب: بقلم - محفوظ عبدالرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

ربما كان من أقدم الكتب التي امتلكها نسخة من ديوان صلاح عبدالصبور (الناس في بلادي) خاصة بعد النهب المغولي لمكتبتي والذي تمثل في شباب الاسرة الذين اهالوها على الارض في ثلاث غزوات على مدى سنوات . وهذه النسخة التي احتفظ بها تلفت نظرك لحظة رؤيتها فهي نسخة متسخة. وليتها كانت كذلك فقط, فلقد اعطيتها الى من كان اجدادنا يسمونهم (وراقين) وطلبت منه معالجة هذا الاتساخ, وفعل, لكنه زاد الامر سوءا, ورغم شرائي لنسخة جديدة الا ان حرصي على النسخة الاولى المتسخة اكبر, فهي ذات قصة طريفة. لقد كانت نسخة جميلة نظيفة واقترضها مني صديق ليقرأها. ثم اعادها لي وهي في حالة بشعة. فنظرت له مصدوما لكنه لم يكن كما توقعت, خاصة انه كان شابا شديد الرقة. واخذ يحكي لي في رومانسية شديدة كيف انه قابل حبيبته, وقد اصطحب معه الديوان, وركبا الترام الى الهرم, وفي هذا الوقت كان الترام يذهب الى الهرم! ونزلا ليصعدا الى الهضبة على اقدامهما, فلما اصبحا في حضن الهرم. جلسا يأكلان (السميط) والجبن ويقرآن شعر صلاح عبدالصبور, ونسيا الدنيا وما فيها, لكنهما اكتشفا فجأة ان الدنيا تمطر, فأسرعا بالنزول من فوق الهضبة, ولعله تذكر ابراهيم ناجي وهو كالطفل يسابق ظله. اذا لم تكن السحب قرأ لغات الظلال وهما يسابقان ظلهما سقط الديوان في الطين. وحاولا علاجه فزاد الامر سوءا. بالضبط كما فعل به (الوراق) فيما بعد. ولقد تزوج صديقي حبيبته. وكانت صدمته الاولى انها رفضت دخول دواوين الشعر الى بيتها وبعد ذلك انفصلا وعاش أعزب ثم اتى الي في فرح ليقول لي انه وجد عروسا قبلت ان يأتي بما يشاء من دواوين الشعر. ولما زرته في بيته, وجدتها قد وضعت الدواوين في خزانة جميلة خلف المطبخ! وعندما عرفت القراءة لاول مرة كان في بيتنا كل سطر كتبه احمد شوقي. فلقد كان ابي شديد الاعجاب به, ولم يكن يجمع كتبه فقط, بل كان ينتقي ما يعجبه من شعر شوقي ويكتبه بخط جميل في كراسات خاصة. كتبت السطور الاخيرة وانا اعرف انها قد تثير علي رياح الجحيم, فمعنى ان ابي كان خطه جميلا انني ادعي ان خطي ايضا جميل. فالخطوط كما يقولون متوارثة. وهذا الخاطر قد يصيب بالجنون كل العاملين في (البيان) الذين يمر عليهم هذا المقال. ففي كل اسبوع تأتيني مكالمات تلفونية تسأل عن هذه الكلمة او تلك فاذا صححتها سمعت ضحكات السخرية او كلمات الغيظ واعتقد اننا لو اتبعنا الديمقراطية في ادارة الصحف (لا قدر الله!) لصوت كل من رأى خطي في (البيان) على منعي من الكتابة! المهم ان ابي كان يختار من شعر شوقي ما يحبه في كراسات جميلة. وكان شوقي ابرز الشعراء الذين احبهم جيل أبي, مثلما احب الجيل السابق محمود سامي البارودي واسماعيل صبري ولان هناك قاعدة تقول بثلاثية الاعلام ومن اعجب الناس بشوقي وحافظ واضافوا اليهما خليل مطران. وكانوا شعراء هذه الاجيال. اما نحن فكان صلاح عبدالصبور احد شعرائنا. وكان هناك ايضا بدر شاكر السياب وكانت قصيدته (مطر) في ذاكرة ووجدان الجيل. وفي يقيني ان اكثر من ادخله الى وجدان جيلي كان الشاعر فاروق شوشه, اما الشاعر الثالث (فالامور كلها ثلاثية كما اشرنا) فهو نزار قباني الذي كان اكثر الشعراء جماهيرية. ولا اظن انه كان ينافسه في هذا شاعر سابق. كان يكفي ان يعرف الناس ان نزار قباني سيلقي شعره في مكان ما, حتى لا تجد مكانا لوضع قدمك فيه. ويكفي نشر مجلة قصيرة جديدة له (واحيانا قديمة) لكي تنفد اعدادها ويكفي ان يصدر اعلان صغير في بيروت عن ديوان جديد له حتى يصاب الناس بهوس البحث عن الديوان. واوافق على ان نزار قباني بدأ وصفه بيديه عندما حطم (تابو) الجنس ودائما مناطق كان الشعر العربي قد نسيها منذ ان مات امرؤ القيس, كنا امام شخص مجنون فالشعراء يتغنون بالعيون والشعر... واذا تجاوزوا يتحدثون عن الشفاه. اما ان يأتي شاعر ويتحدث عن النهود. فهذا وان يسمى شعر بعنوان (طفولة نهد) فهذا مستحيل. اما ان يكون هذا هو اول ديوان شعر ينشره فهذا هو الخبل بعينه. اظن ان نزار قباني كان يعتقد اننا لكي نتحرر علينا ان نحرر العقل بكامله من القيود حتى قيود الجنس. ولم يكن احد يرتاح للنبرة القومية في شاعر الجنس, مثلما لم يكن احد يرتاح لنفس النبرة في قصص احسان عبدالقدوس. لقد كتبت في هذا المكان ذات مرة وقلت ان علي احمد باكثير كان كاتبا كبيرا اضاعه انه كان ضد حركة التاريخ. فلقد كان يمينيا (وارجو الا تقرأ يمنيا وهو فعلا كذلك) لان المد الثقافي كان آنئذ يساريا. واعتقد ان نزار قباني كان في نفس الموقع. لم يكن هناك من يوافق على شعره فاليمين يريد الفخر والهجاء ووصف الناقة. واليسار يريد قضايا الوطن. واظن ان اي شاعر غير نزار قباني ما كان يستطيع المرور من هذا المأزق. فالنقاد من كافة الاتجاهات رفعوا اقلامهم أسلحة في وجهه. ورفضوا جميعا دخوله دولة الشعر. لا نكاد نجد دراسة واحدة عنه في ذلك الوقت. ولجأ نزار قباني الى الشارع ولا اظنه خطط لذلك, لكن ما فعله كان اذكى ما يستطيع فنان مثله ان يفعله. لقد رفضه التقليديون واليساريون فلم يكن امامه في تلك الفترة الا ان يختفي من الحياة الادبية, ولم يكن نزار من الذين يختفون. انه شاعر عنيد. ولفترة طويلة كان الوسط الثقافي يمارس ازدواجية غريبة, فهو يقرأ سرد نزار قباني مع الشارع, ويدعي علنا انه لا يقرأه بل واحيانا يدعي انه لا يعرضه او على الاقل لن يعترف به. وبدأ الجيل يحب على كلمات نزار قباني كما كان يحب على صوت عبدالحليم وفيروز, وبالتأكيد حمل بعض الشبان مع حبيباتهم دواوين نزار قباني الى هضبة الهرم. او لعل الذين لم يذهبوا بعد هضبة الهرم صافي للحب او ان نقل الترام من شارع الهرم أخل بشرط من شروط الحب في هذا المكان. وليس لنا ان نتدخل في طرق الحب بعد تغير الظروف ولكن المؤكد ان نزار قباني كان هذا الشاعر الذي منى كل عاشق بحالة استثنائية وكل فتاة غضبت من حبيبها صرخت (ايظن اني لعبه بيديه) ... وفي فترة خيل الينا ان الشعر هو نزار وكنت اشفق على اصدقائي الشعراء الموهوبين. فها هو موسى يلقي بعصاه فتلقف ابداعهم. ولو كان نزار قباني في بلد آخر لنسجوا صوره على ملابس النساء واغطية النوم, واطلقوا اسمه على افضل انواع الخمر. وفجأة كشف نزار قباني عن وجه آخر انه رجل مهتم بوطنه ووطنه يمتد من الخليج الى المحيط. وذهل القارىء. ماذا حدث لشاعر الرقيق. ولو ان النقد اهتم بنزار قباني في تلك الفترة لاوضح انه لا تناقض على الاطلاق. وان هذا هو الوجه الآخر من الشاعر. وان نزار لو لم يعلن ثورته على جاهلية مجتمعه لظل شعره ناقصا. واصبح نزار قباني في كل حدث قصيدة كأنها العلامة التي توضع على بداية الشارع لتدل عليه. فنكسة 5 يونيو لها قصيدتها وموت عبدالناصر له قصيدته. ومازالت (قتلناك يا آخر الانبياء) تقرأ في ذكرى عبدالناصر في القرى والنجوع. وفي بدايات نزار انماط المثقفين ولما تغيروا فعلوا ما هو اسوأ تجاهلوه كشخص. كان الجميع ينتظرون شعره كما ينتظر العطشى من الغيمة المطر, لم يفكر احد في هذه الغيمة. لم يفكر احد في ان نزار قباني ينزف لهذه التراجيدية الدموية التي يعيشها وكأنه احد ابطال اسخيلوس. مات الابن في غرفة العمليات وماتت الزوجة بين قنابل الارهاب من يستطيع احتمال هذا؟ اننا ندعي بأن الشعر هو (ديوان العرب) وان القبيلة تحتفل عندما يظهر فيها شاعر. وهذا صحيح. ولكننا ايضا قتلنا من الشعراء اكثر مما قتلت اية امة اخرى. من امرؤ القيس وطرفة بن العبد الى المتنبي. واظن ان نزار قباني مات قتيلا. ربما لم نكن نحن الذين قتلناه لكن زماننا هو الذي قتله, ولذلك لن نودعه بكلماته (قتلناك يا آخر الشعراء) ذلك لاننا ضحايا مثله ولسنا قتلته. هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى نرى عددا كبيرا من الشعراء والا فمن يقتلون بعد نزار؟!

Email