يلمسون ضياع الحقيقة في حدّتها: الحوارات الساخنة على الفضائيات وفق آراء المشاهدين، د. وليد قصاب: هذه الحوارات تعتمد على نزعة الاكتساح والغاء الآخر

ت + ت - الحجم الطبيعي

زادت حدة المنافسة بين القنوات الفضائية على عمل الحوارات الساخنة والمناقشات الحامية التي اعتمدت في لغتها على الحدة وارتفاع الصوت ومحاولة اثبات وجهة نظر واحدة والغاء وجهات النظر الاخرى التي يجب ان يكون لها موقع في البرنامج . وقد اكد عدد من المهتمين والمشاهدين على ان من المهم وجود نقاط اتفاق قبل بدء الحوار وعدم التبرم من اظهار الرأي الاخر مع تمثل الاسس الموضوعية وادب الحوار وعدم الانفعال والابتعاد عن العصبية و (النرفزة) وضبط النفس حتى يؤتي الحوار ثماره ويخرج المشاهد في النهاية بالنتيجة المرجوة التي يريدها من البرنامج. نزعة الاكتساح في البداية يحدثنا الدكتور وليد قصاب استاذ الادب والنقد بكلية الدراسات الاسلامية والعربية فيقول: كثرت في الاونة الاخيرة ظاهرة الحوار المفتوح والنقاش الحر عبر الفضائيات التلفزيونية التي تتيح بث الاراء المختلفة على مستوى واسع عريض وبقدر ما يرتبط المشاهد العربي بما يسمع من آراء حرة ووجهات نظر متعددة يسؤوه ان قليلا او كثيرا مما يشهده تنقصه روح الحوار الهادف والموضوعية البعيدة عن الخطابية والصوت العالي ونزعة الاكتساح والغاء الاخر. ان في القرآن الكريم مثلا مبادىء حضارية رفيعة في ادب الحوار تمثلت في ايات موجزة كقوله تعالى: (وجادلهم بالتي هي احسن) و (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) , وابرز ما يميز الحوار الحضاري الناجح هو الهدوء وعدم الانفعال وضبط النفس وخفض الصوت والابتعاد عن الحدة والعصبية والاعتداد بالرأي, لقد تعلمنا من احد المجتهدين الكبار قوله: (رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب) وفي هذه العبارة من الادب مالا حصر له اذ فيها الى جانب الثقة بالنفس عدم القطع بامتلاك الحقيقة واجتناب الغطرسة والهوى, وان كثيرا مما نشاهده من حوارات سواء في القنوات الفضائية او الندوات او المحاضرات او ما شاكل ذلك لا يستفيد كثيرا من هذه الاسس وان المرء ليأسف على ذلك من وجوه عديدة: اولا: ان يكون المتحاورون من الطبقة العليا من مثقفين ومفكرين ومسؤولين ممن يفترض فيهم ان يكونوا على عكس ما يظهرون عليه. ثانيا: ان حوارهم يبث من خلال القناة الفضائية الى قطاع كبير من الناس في انحاء العالم ما يعطي صورة غير مرضية. ثالثا: انهم في مقام من يفترض فيهم الاسوة الحسنة ولا سيما امام عامة الناس او امام النشء على الاقل. ان احدا كائنا من كان لا يستطيع ان يدعي انه يحتكر الحقيقة او يصادرها بل هو يقدم في كل ما يقول وجهة نظر لا اكثر ولا اقل, كما ان ارتفاع الصوت والحدة في الحوار له انعكاسات سلبية اهمها انه يضيع في حمأة الانفعال وجه الحقيقة وقد ثبت علميا ان استقبال المتلقي لمعلومة تبث لديه بعنف وصخب هو اقل بكثير من استقباله لها بهدوء, وان حدة طرف تحمل الطرف الآخر على الحدة بشكل تلقائي فيبدو الحوار عندئذ وكأنه معركة او صراع وليس نقاشا موضوعيا جادا ينشد الحقيقة ويبحث عنها, وكذلك فان التطرف في الرأي والغلو فيه يقودان الى تطرف مماثل عند الاخر وهنا تضيع الحقيقة ايضا ويغيب التوسط والاعتدال اللذان هما دائما من سمات الفضيلة والحق. ويضيف الدكتور وليد قصاب بقوله من المسؤول عن هذه الحدة؟ ويجيب: هناك عوامل عديدة سببت هذه الحدة وهذه المشادة التي تحدث وهي: غيبة الوعي عند المتحاورين وعدوى البيئة العربية التي لا يزال يغلب عليها الاستبداد والتسلط حتى على مستوى الافراد, مع افتقاد الموضوعية عند قوم لا يزالون يحسبون ان الغوغائية وارتفاع نبرة الصوت هما معايير الانتصار وغلبة الخصم, والذي يدفع ثمن ذلك كله هو دائما المشاهد المسكين. تشويش الذهن ويقول دكتور فتحي الزبيدي المذيع بتلفزيون دبي: انا اعتقد ان البرنامج الذي يقدم فائدة للمشاهد لابد وان يحمل رسالة تمثل اخلاق المجتمع وعاداته وتقاليده والبرامج التي بدأت منذ فترة وبها الحوارات الساخنة واطلاق الشائعات فانها تعمل على تشويش ذهن المشاهد العربي والمسلم وانا كمشاهد اريد ان اخرج بنتيجة بعد مشاهدة هذا البرنامج, فبعض هذه البرامج او نقول اكثرها تطرح المتناقضات وتخلو من العقلانية وتمتلىء بالاتهامات والشائعات والسباب ولا تحمل رسالة هادفة او مجدية, وانما تعتمد على العواطف واخراج الاشياء المكبوتة لدى المشاهدين, وقد رأينا ردود المشاهدين الذين بدوا كطرف ضد طرف اخر وكانت لهم آراء اساءت كثيرا للعادات والتقاليد, ويخرج المتابع من ذلك بتصور ان هناك تساو بين الرأيين المتناقضين من جانب المشاهدين ونتيجة لذلك يكون هناك تساو بين الحق والباطل بين الرأي الصحيح والرأي الخاطىء. ويضيف الدكتور فتحي الزبيدي: هناك اداب للحوار وقواعد يجب الالتزام بها وعدم الخروج عليها ومن هذه القواعد محاولة الالتقاء على نقاط التفاهم وليس نقاط الخلاف, عدم الاستهزاء بالطرف الاخر, عدم رفع الصوت لان رفع الصوت يغلب العاطفة على العقل, يضاف الى ذلك معرفة المذيع او المقدم موضوع الحوار وجوانبه المختلفة, صحيح ان مقدم البرنامج لا يفهم في كل الموضوعات ولكن لابد وان يدرس الموضوع الذي هو بصدد تقديمه ويحضر له بشكل جيد. فأنا ارى ان حدوث هذه الامور على شاشات الفضائيات العربية والاسلامية شيء مؤسف وكأننا بذلك نفرق اكثر مما نجمع. نظم ومعايير ويقول الشيخ احمد اسماعيل من دائرة اوقاف دبي: ان الاسلام هو اسمى الاديان حيث ارسى قواعد الاعلام ورفع من قيمه ومبادئه وقد قال الله سبحانه لنبيه: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) ومن هنا جاءت التعاليم السمحة لتضع للقائمين على الكلمة اسسا رفيعا في كيفية البلاغ, وحرية الكلمة كفلها الاسلام ولكن وضع لها نظما ومعايير بحيث لا توغر الصدور ولا تمزق الصفوف ولا تشتت شمل الامة ولا تغرس الحقد والكراهية في قلوب المسلمين بعضهم مع بعض وقد امرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (كونوا عباد الله اخوانا) وقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم اخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) اما اذا كانت حرية الكلمة تؤدي الى ماهو ضار بالمجتمع الاسلامي فليعلم صاحبها ان مصيره الى جهنم وبئس القرار, وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم الا حصائد السنتهم) هذه هي تعاليم الاسلام في الحفاظ على الكلمة والحفاظ على الاسلام والمسلمين ولكن بعد التطور الاعلامي العالمي الذي جعل العالم قرية صغيرة يلتقي فيها ابناء العالم كله من خلال الشاشات الصغيرة والاجهزة المختلفة رأينا بعض القائمين على هذه الاجهزة من خلال القنوات الفضائية لا يعرفون اصول الاسلام في الحوار وسادت المجادلة التي لا فائدة منها ولكن الشر يحيط بها فرأينا الحوارات متعددة الاسماء مختلفة المعاني ظاهرها فيه العزة والرفعة وباطنها فيه الذلة والهوان, فهل هناك يد خفية ملوثة بالحقد على الاسلام والمسلمين تدير هذه الحوارات ام هناك ضعاف الايمان الذين لا يحرصون على الاسلام ولا على المسلمين؟ ان القرآن الكريم بين ان الفتنة اكبر من القتل وتارة بين انها اشد من القتل ومع ذلك يتعمد البعض اثارة الفتن بين المتحاورين والمستمعين بل نرى ان الفتنة تنصرف الى الشعوب بعضها مع بعض فما الفوائد الجمة التي يبتغيها مسؤولو الاعلام من خلال هذه الحوارات؟ هل التشهير والسب والفرقة والخلاف؟ ان كل واحد ينشد الحق ولكن اين الحق الذي يبتغيه هؤلاء؟ ان اعداء الاسلام والمسلمين كثيرون يتربصون بنا الدوائر ونحن نساعدهم على ذلك حتى يبثوا سمومهم في نفوس المسلمين وان الامة العربية التي مزقها اعداؤها سنين عدة وتتطلع الى الوحدة في عصرنا هذا والى التكامل الاقتصادي والسياسي لابد ان نفيق من غفلتها ويستيقط ضمير ابنائها ليطهروا اعلامهم من هذه الفتن التي تبثها بعض القنوات كما اناشد القائمين على هذه البرامج ان يكفوا عن هذا الاسلوب وان يجعلوا هدفهم الاعظم من الحوار الرقي بالمجتمع فهناك امور كثيرة تحتاج الى علاج من الامراض التي اجتاحت شباب الاسلام من مخدرات وعقوق للآباء وقطيعة للرحم وبعد عن الدين واهمال في الدراسة. الخروج من التقليد ويقول سعيد ماجد الشامسي مدير مدرسة ابن تيمية بعجمان: اسلوب المشادة في الحوارات على القنوات الفضائية موجود في الدول الغربية وهو اسلوب جديد ولا توجد من وجهة نظري اية مشكلات او سلبيات فهي موجهة للمثقفين وللمشاهدين المتابعين لاننا في عصر الاعلام والثورة المعلوماتية ويحتاج فيها المشاهد العربي الى معرفة الحقائق ومعرفة وجهات النظر المختلفة, ولابد من الخروج من التقليد الذي لازم الحوارات في التلفزيونات العربية الى آفاق جديدة من طرح وجهات نظر مختلفة والمدافعة عنها, ولكن يحتاج ذلك الى دقة في التنظيم من القائمين على البرامج والمذيع ويكون هناك انضباط حتى لا يمل المشاهد وان تكون الموضوعات جادة وتطرح بحيوية, والابتعاد عن الحكم مسبقا على رأي او تبني رأي من جانب المذيع ومساندة الضيف على حساب الآخرين والابتعاد كذلك عن التحامل على الناس. اضاءة الجوانب المظلمة ويقول خميس محمد عبدالله ـ مدير تحرير مجلة المعلم ــ هناك بعض القضايا في الحقب التاريخية المتأخرة المشاهد في حاجة ماسة لكي يعرف خلفياتها وما اسبابها؟ فهناك كثير من التساؤلات عن حرب 1967م هل هي نكبة ام نكسة؟ مثال اخر عن الدولة العثمانية حيث كنا حتى عهد قريب نعتقد انها دولة غازية في حين ان فيها جوانب مشرقة كثيرة منها مواقف السلطان عبدالحميد من قضية فلسطين وهذه الاحداث لم يسلط عليها الضوء من قبل بشكل كاف للسيطرة الاعلامية المنفردة. اما في الوقت الراهن وبعد ان اصبح العالم قرية كونية او عالمية بدأت كل قناة فضائية تقدم الصراحة والوضوح واضاءة الجوانب المظلمة من القضايا العربية لكسب مشاهدين جدد ولا شك ان طرح ذلك مهم جدا لتنوير المشاهدين وتعريفهم حقيقة الاحداث. لكن في بعض الاحيان نلاحظ في الحوارات ان بعض المقدمين والمذيعين يريدون تغليب الرأي الذي يريدونه ويعكسونه على المشاهدين فهم يأخذون موقفا مسبقا من بعض الاحداث, والبعض الاخر يكون الطرح لديه بموضوعية ومصداقية مع وجود معلومات واضحة مقنعة مثل برنامج (البعد الرابع) لجمال ريان في تلفزيون ابوظبي, ونلاحظ كذلك ان عددا من القنوات الفضائية بدأ يبرز لديها نوع من الاثارة والمشادة وهذه غير مستحبة وغير مقبولة لان الرأي الصحيح هو الذي يفرض نفسه وليس المتكون من رفع الصوت والضرب على الطاولة والمشاحنات التي عن طريقها لا يمكن التوصل الى الحقيقة, والمذيع هنا يضرب على الوتر الحساس فهو يقوم بعملية شحن الاطراف المتحاورة وهذا مطلوب بعض الشيء شرط ان لا تتحول لمشادة تخرج كل من المتحاورين عن اطار الحوار, ولابد من احترام عقل المشاهد حتى لا يبتعد عن مثل هذه البرامج ويريح نفسه. ويضيف خميس عبدالله: مهم جدا ان يكون المذيع موضوعيا في ادارته للحوار وان يبتعد عن الحكم مسبقا او تغليب كفة طرف على طرف بل عليه ان يعطي الفرصة متساوية للجميع للادلاء بآرائهم, ويجب ان لا تمر بعض الموضوعات المتحاور عليها بصورة سريعة ولكن لابد من معرفة الصورة الصحيحة عنها وابعادها والاسباب الواضحة والرئيسية فيها للوقوف عليها والاستفادة منها في المستقبل كما حدث في غزوة احد عندما انهزم المسلمون بسبب البعض فنزل القرآن الكريم موضحا سبب الهزيمة بصورة جلية ومن تسببوا فيها حتى يأخذوا حذرهم ويستفيدوا منها في المستقبل. نافذة جديدة للرأي ويقول ابراهيم عاصي ـ مدير تحرير مجلة الشواطىء ــ لقد علمنا الاسلام الحنيف وعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم اصول الحوار واصول الدعوة في القرآن الكريم (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن) وهناك كثير من الايات الكريمة تدعو الى الاسلوب الحسن في الاقناع على عكس ما يحدث اليوم من الاقناع بطريقة الاثارة في الحوارات التي بدأت في الظهور على القنوات الفضائية وتتصدى لمناقشة القضايا المتنوعة صحيح ان هذه الحوارات نافذة جديدة للرأي في مجتمعنا العربي ولكنها يجب ان تكون على المستوى المأمول وان يكون الضيوف على المستوى نفسه من القضية المطروحة وهذا يقع بالدرجة الاولى على عاتق المحاور الذي يجب عليه ان يدير الحوار بحيادية ولصالح المشاهد اضافة الى ان يكون المتحاورون الضيوف متفقين على محاور معنية وان يكون المشاهد هو المستفيد من ذلك حتى لا يخرج وكأنه لم ير شيئا. وقد شاهدت بنفسي مثل هذه البرامج فوجدت ان بعض الضيوف الذين يفترض فيهم ان يكونوا قدوة لا هم قدوة ولا شيء بل تخرج منهم الفاظ غير لائقة كما تصل بعض هذه الحوارات الى طريق مسدود. ومن البرامج الاشد سخفا برنامج كان يتحدث عن (تعدد الزوجات) واستضاف المذيع احد الشخصيات التي ليس لها علاقة من قريب او بعيد بهذا الموضوع وكان من نتيجة ذلك انسحاب الضيفة الاخرى من الحوار, صحيح ان المذيع او المعد يجد صعوبة في ايجاد شخصيات لمناقشة الموضوع ولكن في المقابل يجب الابتعاد عن السقوط في سوء الاختيار وبالتالي سقوط البرنامج, اضافة الى عدم الخلط بين الفكرة والذات سواء من جانب المعد او الضيوف وعدم استباحة العادات والتقاليد. وتقول هدى علي عشيرة: لابد ان نفرق بين البرامج التي تكون فيها اثارة لمجرد الاثارة والبرامج التي تعتمد على احترام عقلية المشاهد بطرح القضايا المهمة والحيوية والاعداد لها اعدادا جيدا مضافا اليها الاثارة, فالبرامج من النوع الاول لن تجد لها صدى ولن تجد لها جمهورا يداوم على متابعتها لان المشاهد لا تستطيع مثل هذه البرامج ان تستغفله كل الوقت وانما يأتي اليوم الذي يختار قناة اخرى وبرامج اخرى يستطيع الاستفادة منها هذا من جانب ومن جانب اخر فان على القائمين على هذه البرامج سؤال انفسهم عن مصير برامجهم وهل يتابعها ويشاهدها نسبة كبيرة من المشاهدين وهل تركوها وذهبوا الى برامج اخرى وقنوات اخرى؟ وما السبب في ذلك؟ وعليهم معرفة ذلك بالطرق المعروفة والصحيحة ليقيموا انفسهم ويقفوا على الاساليب السليمة للبرامج. تحقيق السيد الطنطاوي

Email