استراحة البيان: بين اغنية خضرة ونشيد المارسيليز: يكتبها اليوم- محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

جزاها الله خيرا... مجلة (اخبار الامارات) لقد اسعدتنا مؤخرا بنشرها صورة لمدينة العين ملتقطة من الجو فاذ بالعين ــ النظرة لا المدينة ــ ترتوي من بقعة ندية زمردة تكاد خضرتها تعزف لحنا متألق الانغام عذوبة وندى وسندسا ونماء. ومهما تعددت ألوان الطيف, ومهما اختلفت الثقافات والافكار وتنوعت الرؤى بين الناس, فالذي لاشك فيه ان الخضرة واللون الاخضر سيظل يتربع على عرش الافئدة ويظل رمزا لكل ما ينتفض بالحيوية وكل مايزدان بالخصب والبركة والازدهار. الا ترى الى الوجدان الجمعي عن العرب والمسلمين عندما يرسمون في افئدتهم وبين جوانحهم صورة مثالية لجنات الفردوس فاذا بها وقد اكتست بالخضرة التي تجسدها اشجار النخيل والاغنيات وتجري من تحتها الانهار متدفقة بالمياه التي تتدفق باكسير الحياة في اوصال هذه الاشجار؟ او لا تذكر قصة الرجلين في سورة الكهف اذا قال (جعلنا لأحدهما جنتين من اعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا) . كل هذه الرؤى وكل هذه الصورة تنثال على الخاطر مكسوة بالخضرة.. نفس اللون المبارك الذي يكسو الثياب السندسية التي يرتديها الفائزون بنعيم الجنة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا عجب ان يعمد المصريون الى اعزاز هذه الصورة المجيدة الخضرة للجنة ونعيمها, فإذا بهم ــ المصريون ــ يمعنون في تدلل هذا الصورة الرائعة للجنة ويستخدمون منطق التصغير للتدليل فاذا بها (جنينه) وهي كلمة يستخدمها اهل مصر علما على حديقة وارفة الظل, ندية العشب ساجية الخضرة, ثم اذا بهم يطلقون على ابنائهم اسم (خضر) وعلى بناتهم في ارياف الدلتا والصعيد, اسم خضرة (بفتح الخاء) وهو الاسم الذي تحمله واحدة من اشهر الاغنيات القديمة للموسيقار محمد عبد الوهاب ـ وقد انشدها منذ 55 عاما بالضبط (1943) بعنوان (مين زيك عندي ياخضرة) . والطريف ان مؤلف هذه الاغنية التي تبدو في مطلعها عاطفية وغزلية لم يكن مؤلفا محترفا, ولا شاعرا متفرغا بل كان واحدا من باشوات ذلك العصر, هو صاحب السعادة على سن ورمح ــ عبد المنصف باشا محمود وكان ايامها مدير مصلحة خفر السواحل وقد حكى لي صديق مخضرم هو المرحوم المهندس علي فهمي الداغستاني وقد تولى في عهد السادات وزارة النقل والمواصلات فقال: كنا جماعة من الطلاب في الاربعينات نحتاج في رحلاتنا الى نشيد قومي او وطني يذكي حماسنا.. ولما انشد عبد الوهاب اغنية (مين زيك عندي ياخضرة) اصبنا بخيبة امل شديدة, الاغنية جميلة المعاني ورقيقة الالحان... والمفروض انها تخاطب الراية ـ العلم المصري في ذلك الوقت وكان العلم أيامها راية خضراء يتوسطها هلال وثلاث نجوم.. ولكن معاني الاغنية بكل رقتها وغزلياتها ابعدت اللحن تماما عن القوة او الفتوة او الحماس لذلك ــ يضيف الاستاذ الداغستاني ــ ذهبنا الى اللواء عبد المنصف محمود نقول: كيف يا باشا تكتب اغنية تخاطب المدعوة خضرة بوصفها رقة وغصن البان.. وتطلب منها ان تجود عليك بنظرة وتتغزل في عيونها وفي رموشها.. الخ ثم يقال ان هذا كله مجرد اشادة بالراية المصرية وانك قصدت بها شحذ العزائم وتحميس الهمم بين الشباب. يومها رد عبدالمنصف باشا قائلا: ــ الذنب كله على عبدالوهاب الله يجازيه, لقد حول اغنيتي الحماسية الى طقطوقة لا اكثر ولا اقل, وانما كان قصدي ان يغني كلماتي بشكل حماسي تماما كما يغنون نشيد المارسيليز في فرنسا. وبمناسبة الجنينة وتصغير الجنة الفردوسية الموعودة ثمة اغنية فريدة في بابها انشدتها المطربة آمال الاطرش المعروفة باسم اسمهان وعنوانها (دخلت مرة في جنينة) وهي من تأليف وتلحين الاستاذ مدحت عاصم الذي كان شخصية فريدة بدورها في الحياة المصرية طيلة الربع الثاني من هذا القرن العشرين وكان مصارعا ومغامرا وشاعرا وموسيقيا وراعيا للفن ومديرا للشؤون الموسيقية بالاذاعة المصرية ثم كان ايضا من العناصر الوطنية المجاهدة التي ابلت احسن البلاء في معركة بورسعيد المجيدة ضد العدوان الثلاثي في عام 1956 ولعل اهم ما تميز به هذا الانسان المتعدد المواهب انه كان مثقفا عصريا وفنانا مجددا, استطاع ان يفهم ابعاد صوت اسمهان الذي كان من اجمل الاصوات العربية في عصرنا اذ جمع بين الانوثة والدفء الانساني والاناقة في الاداء ويضم ــ كما يقول صديقنا المايسترو سليم سحاب ــ في ابعاده الصوتية فئتي او طبقتي السوبرانو والمتسو سوبرانو ــ اعلى الطبقات عند الصوت النسائي في الغناء الاوبرالي الاوروبي. قال الراوي: ان الكاتب الكبير عباس محمود العقاب شوهد في شوارع القاهرة في مقتبل الاربعينات يجول بين دكاكينها بالترام تارة وسيرا على الاقدام تارة اخرى وكان هدفه هو العثور على نسخة واحدة من اسطوانة (دخلت مرة في جنينة) ولم يوفق الاستاذ العقاد في الحصول على اسطوانته المنشودة نظرا للرواج الكبير الذي لقيته الاغنية الشهيرة اولا لان لحنها جاء جديدا على الاذن العربية, جاء وفق ايقاعات وئيدة كأنما هي خطى السائر على قدمين الى حيث عالم الخضرة والشجر والنبات والطيور المؤتلفات دقات موسيقية بغير زركشة او زخرفة لحنية, ثم ان الاغنية في كلماتها الشعرية جاءت كما قال العقاد يومها ــ بديعة وجديدة من حيث السرد القصصي ــ اغنية تحكي حكاية متكاملة ذات بداية ونهاية وكان هذا بدوره امرا جديدا على فن التأليف في الغناء العربي ربما لم يسبقه سوى اغنية عبدالوهاب الجميلة والشهيرة ايضا (مريت على بيت الحبايب) التي تحكي بدورها عن لحظة اي والله لحظة, وقفها العاشق الهيمان امام بيت الحبيب يحكي عن مشاعره بكل ابعادها وتداعياتها وكان ان دامت اللحظة عشرين دقيقة كاملة, واغنية (مريت) بالمناسبة من تأليف الشاعر السفير احمد عبدالمجيد وقد انشدها عبدالوهاب عام 1932 وهو نفس العام الذي اخرج فيه عبدالوهاب الى الناس مقطوعة (في الليل لما خلي) سيدة الاغاني العربية في العصر الحديث وهي من تأليف امير الشعراء احمد شوقي بك وكانوا يخاطبونه بلقب يا باشا, لماذا؟ لانه كان يحمل رتبة البيك المتمايز ممنوحة من جانب السلطان العثماني شخصيا في اسطنبول, أرأيت اذن الى مؤلفي اغاني ذلك الزمن الجميل, عبدالمنصف باشا, والسفير احمد عبدالمجيد, وامير شعراء العصر البيك المتمايز احمد شوقي, هم رجالات متمايزون بدورهم في المجتمع من حيث المكانة والرتبة والموهبة والارتقاء بالفن الجميل, ترى هل لنا ان نذكرك ان عميد مؤلفي اغاني هذه الايام في مصر المحروسة اسمه الريس.. بيرة! فاللهم لطفك ورحمتك بالعباد وأذواق العباد.

Email