( استراحة البيان: تعظيم سلام للعم (تاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

اكتشفت فائدة للكتابة في التاريخ لم تخطر على بالي من قبل وهي ان تقابل اصحاب التاريخ قبل ان يرحلوا او ترحل انت .. فلقد قابلت في فترة متقاربة اخ عبدالحكيم عامر (المهندس حسن عامر) واخ جمال عبدالناصر (عادل عبدالناصر) ورجلا كتبت عنه احدى الصحف الامريكية العسكرية انه مسؤول بنسبة كبيرة عن اسقاط حلف بغداد, وقد اكتب لك عنه ذات مرة, كما قابلت ابنة ممثل الاربعينات الشهير احمد سالم (نانا سالم). وبعض هؤلاء يفتح لك الستار عن عالم غريب, واحداث اغرب, وكان من هؤلاء من لم يكتف بما يحكي بل يضع بين يدي قصة غريبة ووثائق هذه القصة. القصة بطلها استاذ جامعي سابق والآن في منصب سياسي بين السلطة وبيننا نحن فقراء هذه الامة, وهو مشهور لانه يعتبر الهجوم على الفترة الناصرية همه الاول والاخير. والبطل الثاني للقصة هو ضابط سابق ويشارك الاستاذ الجامعي السابق في المنصب, ويزيد عليه في منصب آخر. ولا يضايقك انني لا اصرح بالاسماء فانا اخشى وجع الدماغ واخفي ما اخفي حتى لا يسحبوني الى المحكمة, وهو مكان لا احب الذهاب اليه, ورغم خوفي من المحاكم الا ان بعضهم جرني اليها وفي ذلك خسارة لي, وفي رأيي أن اللجوء الى القضاء في موضوعات الرأي والثقافة جريمة حتى لو كان صاحبها على حق. والمرة الوحيدة التي ذهبت فيها الى المحكمة باختياري كانت للدفاع عن يوسف شاهين رغم اختلافي معه, فقد هالني ان يمنع مخرج كبير من ان يعبر عن رأيه. وهذا الحديث الطويل عن القضايا لابد ان يلفت نظرك وربما اثار قلقك, ومع ذلك فانا احاول اخفاءه, كما وادعو الا يكون ما سأكتبه سببا للمتاعب. اعود الى هذا الشخص الذي ينتمي الى التاريخ, ولنرمز له بحرف (ع) فلقد حكى لي قصة الدكتور والضابط ثم دعمها بالوثائق المذهلة, ولنبدأ القصة منذ بدايتها. في عام 1963 لم يكن الدكتور دكتورا بل كان يعمل (كمساريا) في شركة النقل العام, والكمساري هو الذي يسميه بعض اللغويين بالجابي, ويركب الاتوبيس ويتقاضى ثمن الركوب من الراكبين, وهي مهنة لم اصدق ابدا ان احدا يمتهنها وتصور نفسك في شهر يوليو او اغسطس تركب اتوبيسا غير مكيف يسع اربعين شخصا ولكن فيه عمليا مائة واربعون شخصا وعليك ان تخترق الاتوبيس من اوله لآخره, ومن آخره الى اوله لتتقاضى الاجر من الراكبين, ولتمنع من يتهرب منهم لثماني ساعات كل يوم, مهنة بشعة, ولا اقصد التقليل من شأنها فهي مهنة شريفة. وركب الاتوبيس ضابط شاب, ولولا ان (ع) قدم الي الوثائق التي تثبت انه ركب الاتوبيس لما صدقت, فلقد كان الضابط ينتمي الى الضباط الاحرار, وكان شهيرا, ولم يكن صعبا عليه ان يشتري سيارة او ان يركب تاكسيا. ولكن على اي حال لم تكن المواصلات العامة مستحيلة كما هي الآن وكان بعض الاكابر يركبونها. المهم ان الرجل ركب الاتوبيس وهذا ثابت بالوثائق الرسمية وبعض سائقي المواصلات العامة يعتبرونها ملكية خاصة, وهذا طبيعي, فاذا لم يكن هناك مالك محدد بالاسم فالسائق هو صاحب السيارة ولذلك قاد السائق السيارة الى احد المقاهي للحصول على كوبي شاي له وللكمساري الذي لم يكن قد اصبح دكتورا كما ذكرنا. وفي هذه الحالات يغمغم الراكبون بالاحتجاج ولا يزيد الأمر عن هذا, اما السائق والكمساري فيصنعان اذنا من طين واخرى من عجين. وفي هذه المرة احتجت امرأة على هذا التأخير ولابد انه كان لها مبررات للعجلة, وبدلا من ان يصنع الدكتور ــ ولم يكن دكتورا بعد ــ اذنا من طين واذنا من عجين ثار على المرأة وسبها سبا يعاقب عليه القانون. ويبدو ان الضابط تذكر المعتصم والمرأة التي استنجدت به وربما فكر انه شارك في القيام بالثورة من اجل هذه المرأة فهب واقفا في عنترية وسب الكمساري, فسبه الكمساري فاستخدم الضابط عضلاته المفتولة وانهال ضربا على الدكتور باعتبار ما سيكون, ولم يكتف بهذا بل جره إلى قسم الشرطة حيث حرر له محضرا. ولان هناك تحالفا تقليديا بين الجيش والشرطة فلقد قام ضباط القسم بمجاملة زميلهم وذلك بضرب الكمساري الذي اصبح دكتورا فيما بعد. وبعد ثلاثة ايام من الضرب المتواصل افرجوا عن الدكتور بعد ان تنازلت المرأة عن حقها, وبعد ان اوصى الضابط بأن يكتفوا بما حدث, واعتبر انه اعطى الكمساري درسا لن ينساه. وفعلا لم ينس الكمساري الدرس فلقد اكمل دراسته وحصل على الماجستير ثم الدكتوراه ليكتب عن الناصرية وينافس الضابط على مكانته, اراد ان يكون اقرب للسلطة من الضابط نفسه. ولكن الامور تغيرت بسرعة واصبح الهدف الذي عاش من اجله لا يفيد, فانقلب الدكتور ــ وقد اصبح الان دكتورا ــ مائة وثمانين درجة. قال (ع) ان علقة 63 كانت السبب في كراهية الدكتور لهذه الفترة, وانا لا اصدق هذا ففي رأيي ان الافكار هي مجموعة تراكمات تستمر لسنين, وان الانسان لا يغير رأيه لحدث واحد مهما كان جسيما. ولكن (ع) يعترض على رأيي ويطلب مني أن افسر له انقلاب الدكتور على افكاره جميعا وذات ليلة. واذا كانت العلقة ــ يقول (ع) ــ ليست كافية ليغير المرء آراءه فسأذكر لك مائة حالة غير الناس فيها آراءهم لاسباب اكثر سخافة, فهناك فتاة مثقفة قاطعت السينما لانها كانت تحلم ان تكون نجمتها الاولى, وسعيد باشا والي مصر اعطى لديليسبس حق حفر قناة السويس لانه ــ أي ديليسبس ــ كان يجيد طبخ المكرونة التي يحبها سعيد, وسلفه عباس اغلق المدارس لان احد المدرسين تصرف تصرفات لا اخلاقية. وعندما قاطعت (ع) اضاف ان الدكتور كان ضد الستينات لانه ضرب فيها علقة على مدى ثلاثة ايام كاملة, والمدهش ان الضابط انقلب ايضا على آرائه, فعلا هي كوميديا سوداء. ورغم ان الضابط كان هو الضارب لا المضروب الا انه قرر ان يغير آراءه وايضا في لحظة, فلقد اعلنوا انهم في حاجة إلى واحد من اهل اليمين, فسارع الضابط السابق يقدم نفسه ويثني على الغرب وامريكا بالذات, ويعتذر عن كل آرائه السابقة وربما عن كل افعاله. وهكذا التقى الضابط السابق والدكتور. ولأنني لست من اهل السياسة ولأنني من اهل الدراما فلقد سرحت طويلا مع هذه العلاقة المركبة, وهذه التحولات المدهشة, وقلت لصاحبي (ع): تظن ان الدكتور يعرف الضابط؟ ونظر إلى (ع) كما لو كان ينظر إلى معتوه وقال: انظر إلى ما بين يديك يا استاذ, هذا هو محضر الشرطة وفيه اسم الدكتور ثلاثيا واسم الضابط ثلاثيا (ومازال حتى الآن ثلاثيا) , كيف تسأل اذا كان هذا يعرف ذاك؟ رويدك يا صاحبي! ولنبدأ القصة من اولها.. ضابط ضرب كمساريا, صار الكمساري دكتورا, كتب يهاجم الضباط في كل شىء حتى في حروبهم وادعى العسكرية, وقال انه لا حرب قبل حرب اكتوبر, ربما فعل ذلك كي نقول انتقاما من ضابط اعتدى عليه, ولكن ألا يمكن ان يجهل من هو هذا الضابط وان تكون الكراهية مطلقة؟ فتح (ع) فمه في دهشة ولم يعلق, ولا ادري هل اقتنع بأن سؤالي يستحق الاهتمام, ام ان صمته دليل على سخافة الفكرة. وتصورت ان الدكتور ذهب إلى عمله مبكرا وزاحم ليبحث عن مكان وهو الخبير بالزحام, واخيرا وصل إلى مكان بجوار الضابط السابق وحيّاه, وبدأت المناقشة في موضوع ما فأخذ الاثنان الموقف نفسه: الضابط لأنهم طلبوا منه أن يكون في اليمين, والدكتور لأن الضابط اليميني حاليا اليساري سابقا ضربه ذات مرة منذ خمسة وثلاثين عاما! تعظيم سلام للعم تاريخ!! يكتبها اليوم : محفوظ عبدالرحمن

Email