استراحة البيان: على طريقة جوبلز صحافة دخيلة على لغتنا العربية: بقلم : مصطفي كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

على عرش الصحافة الناطقة باللغة الانجليزية يستوي اليوم ملياردير يهودي اسمه مردوخ. ومع أنه يحمل الجنسية البريطانية , ويملك في بريطانيا 38 صحيفة كبيرة, منها الفاينانشال تايمز على سبيل المثال, الا أنه فضل الاقامة في استراليا, حيث ضم الى ممتلكاته اكثر من ثلاثة أرباع الصحف الاسترالية, والنيوزيلاندية, فضلا عن ثلاث شبكات تلفزيونية في الولايات المتحدة الامريكية.. والبقية تأتي. ومنذ أيام ترددت في أوساط الصحافة العالمية قصة تقول أنه عرض على (تيد تيرنر) صاحب ومدير شبكة سي ان ان مبلغ ألفي مليون دولار ليدخل بها شريكا في شبكة الاخبار الاولى بالعالم كله. ولكن تيرنر رفض العرض قائلا انه لا يجد اي مبرر (لتلويث) اسم السي ان ان بشراكة من هذا النوع. ومن المؤكد ان تيد تيرنر لديه اكثر من سبب لكي يعتبر الشراكة مع مردوخ (أمرا ملوثا) .. ولكن هذا لم يؤثر في اللقب الذي يحمله مردوخ مقرونا باسمه في كل مكان على ظهر الأرض.. وهو (ملك الصحافة العالمية.. روبرت مردوخ!! ومع ذلك فان مردوخ ليس أول من حمل هذا اللقب. وانما سبقه اليه بريطاني آخر كان اسمه لورد بيفربروك. ولورد بيفر بروك الذي توفي في أواخر الخمسينات هو صاحب ومؤسس مدرسة الاثارة في الصحافة البريطانية.. والتي يسمون صحفها باسم (صحف التابلويد) نسبة الى حجم (التابلويد) الذي تصدر به, وهو نصف الحجم المعتاد للصحف اليومية.. والتي ما لبثت أن أصبحت اكثر الصحف توزيعا بمتوسط 5.4 ملايين نسخة للعدد الواحد.. وهو رقم نستطيع ان نتصور مدى ضخامته عندما نذكر أن التايمز بجلالة قدرها لا توزع اكثر من 800 الف نسخة يوميا.. وقد اكتسبت صحف التابلويد المملوك معظمها للورد بيفر بروك هذا الرقم الهائل في التوزيع لأنها تخصصت في جذب القراء عن طريق الجنس (الفضائح) الجرائم.. دون أية مراعاة لقواعد الأدب والأخلاق, أو لتأثير ما تنشره على المجتمع ومستقبله الممثل في أجياله الصاعدة. وكان لفخامة اللورد بيفربروك عبارة مشهورة اعتاد أن يرددها في كل مكان, يقول فيها: (أنا أعلم أن كل الناس يلعنوني, ولكن هذا لايهمني, طالما هم يشترون صحفي ويقرأونها) !! وبالرغم من كل السلبيات السائدة في مجتمعنا العربي, فإن مدرسة بيفربروك (الاثارة بأي ثمن) لم تلق رواجا لدينا, مع أنه كانت هناك محاولة جادة في هذا السبيل في أواسط الاربعينات, ولكن المحاولة لم تنجح ربما لأن اهتمامات الأجيال الصاعدة حينذاك, وهم الوقود الاساسي لصحافة الآثارة والفضائح, كانت اكثر تركيزا على قضية الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية. ولكن المحاولة عادت لتتكرر في هذه الأيام بقوة والحاح متمثل في عشرات صحف (التابلويد) التي لا يكاد يمر أسبوع دون ان تنزل علينا صحيفة جديدة تعتمد كلية على الآثارة والفضائح والافتراء من أجل اجتذاب القراء.. ومع تزايد هذا النوع من المطبوعات التي نسميها صحفا على سبيل المجاز احتدمت المنافسة فيما بينها, حتى أصبح السبق عمن يكون أقدر على (اختراع) الفضائح, وليس فقط على كشفها. غير أن هذه التابلويدات على اختلاف أساليبها في الآثارة, تكاد تتفق في شيء واحد, ذلك هو مسخها المقصود للغتنا العربية السليمة التي حرصت صحافتنا على الالتزام بها على مدى عشرات السنين باعتبارها القلعة الأخيرة في جبهة الصمود ضد الغزو الثقافي المتدفق علينا من الخارج. ولكن هذا على أية حال ــ ليس موضوعنا اليوم. أما ما دفع الى هذا الحديث كله فهو نبأ غريب من أفحش أنباء الآثارة نشرته واحدة من تلك الصحف المجهولة الأب وتناقلته أشباهها بلهفة كأنما اكتشفت فيه معينا جديدا للآثارة يمكن استثماره لعدة أعداد قادمة. أما النبأ فيقول, ان ناقدا أجنبيا معروفا على الصعيد العالمي, بعد أن قرأ ثلاثية نجيب محفوظ مترجمة الى الفرنسية, اكتشف ان اديبنا الكبير, العربي الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل, اقتبس ثلاثيته من رواية ديستيو فسكي (الاخوة كارامازوف) واضافت الصحيفة أن الناقد الاجنبي أعد دراسة هامة حول اكتشافه, سيقدمها للحصول على درجة الماجستير (ومن احدى الجامعات الكبرى) .. ولو تمعن القارىء قليلا في (النبأ) لأكتشف أنه مفبرك من أوله الى آخره.. وان كانت الفبركة فيها بعض الذكاء. فالصحيفة لم تورد اسم (الناقد) مكتفية بوصفه انه (ناقد كبير) , ولم تذكر حتى جنسيته وان تركت لذكاء القارىء ان يكتشف أنه لابد وأن يكون فرنسيا طالما هو قرأ الترجمة الفرنسية لثلاثية نجيب محفوظ, ولم تقل أيضا اسم (الجامعة الكبرى) التي ستقدم لها الرسالة, تاركة ايضا لذكاء القارىء ان يكتشف أنها لابد أن تكون السوربون أو ما يعادلها. طبعا الفبركة تعتمد على أن 50 بالمائة من قرائها لم يسمعوا باسم ديستيوفسكي وأن 90 بالمائة من هؤلاء لم يقرأوا رواية الأخوة كارامازوف, وأن كل الذين قرأوها لم يفكروا أبدا في المقارنة بينها وبين ثلاثية نجيب محفوظ. ولكن كل هذا لايهم. طالما ان الخبر مثير. ويمكن أن يضيف للتوزيع عشرة او عشرين قارئا جديدا.. وليلعنوا بعد ذلك أسماء الصحيفة وصاحبها ومحرريها.. فحسب مذهب بيفر بروك, المهم أن يبتاعوا الجريدة.. ويدفعوا الثمن. كان جوبلز وزير دعاية هتلر, يقول (اكذب واكذب واكذب, حتى تصدق نفسك. فكلما كانت الكذبة اكبر, وغير معقولة بالمرة, كلما وجدت عددا اكبر من الناس يرددونها, واكثر استعدادا لتصديقها) . ولكن جوبلز دفع أخيرا ثمن فلسفته الكاذبة.. حينما انتحر, بعد أن قتل زوجته وأبناءه السبعة, حتى يختفي الى الأبد آخر أثر له في الوجود. ترى.. متى تدرك صحافة التابلويد الدخيلة مغزى المصير الذي انتهى اليه داعية النازي الاكبر؟

Email