استراحة البيان: مبارك العقيلي... أصل وصورة

ت + ت - الحجم الطبيعي

من يتابع الحلقات اليومية عن حياة شاعر الجزيرة العربية مبارك بن حمد العقيلي التي يكتبها الأديب الشاعر جمال بن حويرب المهيري , وتواصل (البيان) منذ بداية شهر رمضان نشرها, من يتابع تلك الحلقات يجد متعة في القراءة لا تضاهيها متعة حيث يلتقط كاتب الحلقات تفاصيل دقيقة عن تاريخ المنطقة غالبا ما يغيب اكثره عنا, اما لقلة المصادر, أو لعدم وجود باحثين محليين يهتمون بالتقاط مثل تلك الموضوعات البحثية المهمة. وتأتي متعة القراءة في اليوميات التي تتحدث عن العقيلي كونها يوميات تأخذ الطابع الروائي المتلاحق والمكثف, فأحداثها متتابعة ومتلاحقة, وبين سطورها تتناثر التواريخ والمواقف والاحداث والاشعار والاحزان والافراح, وعلى ألسنة شخوصها يرتدي تاريخ هذه المنطقة عباءة الحضور والتواصل مع زمن يتفاعل مع هبوب الرياح, انه الزمن الذي نبحث عنه الان بين اوراق الماضي, ونتابعه بشغف كلما مرت ذاكرة الوقت عبر صورة قديمة ترسم ملامح وجه مجهول نتمنى لو كنا نعرفه. من هنا التمس العذر لي وللآخرين من القراء الذين يحرصون على تجميع تلك الحلقات, فنحن امام دوامة العصرنة واللهاث لا نستطيع ان نلتقط الانفاس, فالتغيير الذي تشهده المنطقة يكاد ينسينا انفسنا لسرعته وتواصله, هذا ما يفسر اهتمام اغلبنا بالتشبث بأية معلومة عن تاريخ المنطقة وشخوصها واحداثها وصورها, وادبها وفنونها, وكأن من وجد مخطوطا قديما يؤرخ لطقس من طقوس الحياة المعاشة قديما قد حصل على كنز ثمين. اعود فالتقط خيط الحديث لاشير إلى ان العالم بأكمله يشهد مثل تلك النزعة المثيرة, فالمذكرات التاريخية سواء كانت ادبية تتحدث عن ظاهرة أو شخص ما أو سياسية ترسم بؤرة صراع لوقائع ودسائس ومؤامرات أو احداث معينة هي الاكثر مبيعا في العالم, خاصة وان النفس البشرية تبحث دائما عما وراء الستار وتتحرق لمعرفة الوجه الاخر للشخصيات الكبيرة التي تحيطها بهالة من الاعجاب والدهشة والتقدير فتحاول معرفة كل التفاصيل الدقيقة عن تلك الوجوه التي اعطتها الحياة رونقها واضافت اليها كذلك اسرار الدهشة والاعجاب, فما بالنا بأحداث وشخصيات لمنطقة كانت بعيدة كل البعد عن متناول الحدث اليومي, وبعيدة كذلك عن التفاعل مع مستجدات الامور والتطورات التي تحدث بين خطوط الطول والعرض التي تلف خاصرة الكرة الارضية, تلك المنطقة المتشابهة في عاداتها وتقاليدها وآدابها وفنها وكرمها وناسها, والمطحونة آنذاك بالبحث عن لقمة العيش اليومية وسط احوال اجتماعية واقتصادية لا يعلمها الا الله. وامام الانفتاح الذي تشهده منطقتنا ودولنا على العوالم الاخرى بفضل الخير الذي حبانا الله به ودوران عجلة العمل والتطور ضاعت ملامح وجه الحياة قديما, واختلفت الصورة, لكن الاصل ظل ثابتا محفوظا في ذاكرة الآباء الذين عاصروا تلك الفترات بحلوها ومرّها, ومن هنا نستكشف سر الاشراقة والسرور على وجوه الآباء كلما عرض فيلم سينمائي أو تلفزيوني يحكي تفاصيل الحياة اليومية قبل خمسين عاما أو حتى قبل ثلاثين عاما من الآن, أو كلما نشرت صحيفة يومية أو مجلة اسبوعية حديث ذكريات مع احد الاشخاص الذين عاصروا تلك الفترة, وما تلك اللهفة, والارتدادة على حفظ وجمع الصور القديمة الا شاهد آخر على تعلق ابناء هذا الجيل بكل ما يمت أو يمس تاريخ المنطقة وأحوالها قديما. ان التقاط التفاصيل اليومية أو البحث عنها في اوراق التاريخ المتناثرة وتحليلها وتبويبها, وتشذيبها ومتابعتها واعدادها تحتاج إلى فرق بحث متطوعة قبل ان تكون مسؤولية فردية, فمثل تلك الاعمال يجب ان تمر عبر مؤسسات متخصصة في العمل الجمعي التراثي, فتاريخ منطقتنا مليء بالصور النابضة بالعطاء والكفاح, ومليء بالوجوه والشخصيات الادبية والسياسية والاجتماعية التي اعطت الكثير من الجهد, ونذرت نفسها للعمل وانارة طريق العلم امام اناس كانت التلقائية حياتهم في كل شىء, فلا قيود ولا تكلف, ولا حواجز ولا عقد ولا ضغوط نفسية رغم قلة ذات اليد, فالصبر هو مفتاح الحياة المعاشة بخيرها وشرها وكأن لسان حالهم يقول: إذا ما أتاك الدهر يوما بنكبة - فافرغ لها صبرا ووسع لها صدرا فإن تصاريف الزمان عجيبة - فيوما ترى يسرا ويوما ترى عسرا ومن هنا فلا عجب ان يبحث اغلب الناس في التاريخ والجغرافيا عما يمت لهم بصلة ويفتشون وسط صور الماضي عن وجوه ربما يعرفونها واخرى يجهلونها لكنهم يتشبثون بها لعل وراءها حكاية قديمة تطرزها ذاكرة ما, ولعل هذا هو سر الاهتمام المتواصل بسيرة العقيلي, تلك الذاكرة التي لم تكن بعيدة عن جيل الوسط من معاصريها الذين يذكرون بدقة تفاصيل وملامح من حياته وتاريخه وادبه, ولعل الذين مازالوا يحفظون ذاك الوجه القديم بتجاعيده الكثيرة وانفه الكبير والذين عرفوه جيدا يدركون اهمية تلك الاوراق المتطايرة والاشعار الجميلة العذبة المتناثرة هنا وهناك شرقا وغربا, فهي قبل ان تكون شعرا وفنا وادبا وسيرة لحياة شاعر امتلك ادواته وصنعته, هي كذلك نبض لحياة اولئك الناس البسطاء الذين حفظوا العقيلي وعاشروه وفتحوا قلوبهم له, هي تجسيد لذاكرة حية مازالت تنبض وتتواصل وتتفاعل وترتسم وسط الوجدان, فالشعر تاريخ وموقف والشاعر نبض وحياة, وبين الشعر والذاكرة يتمدد العقيلي بقامته القصيرة وحضوره الكبير وامام بؤبؤ العين يبقى هو الاصل المطبوع والصورة الحاضرة, فيعيش غريبا ويموت غريبا وكأنه يسمع الشاعر زهير بن ابي سلمى عندما قال: ثلاث يعزّ الصبر عند حلولها - ويذهل عنها عقل كل لبيب خروج اضطرار من بلاد يحبها - وفرقة اخوان, وفقد حبيب يكتبها اليوم- ظاعن شاهين

Email