جذور

مصائد الإسفنج في الخليج العربي (2 من 2)

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحدثنا في الحلقة السابقة عن أشهر الدراسات والمسوح في المجالات المتنوعة التي أجراها البريطانيون في المنطقة، ومنها تقرير عن الإسفنج في مياه الخليج أعده راندولف كيركباتريك Randolph Kirkpatrick، الذي اتضح أنه حينما أُعد كان ضمن إطار تتبع المعلومات الدقيقة التي تساعد المسؤول على اتخاذ القرار النهائي بما يمثله ذلك من قبول ورفض يساعد في النهاية على تحديد الرد المناسب.

الاحتفاء والقبول

احتفى بهذا التقرير المسؤولون البريطانيون في الخليج، وأشاروا إليه حتى في مراسلاتهم في عام 1909، وعاملوه على أنه وثيقة سرية. ويكتب آخرون رسائل يستفسرون هل يعاملون هذا التقرير باعتباره وثيقة سرية أم أنه وثيقة يمكن للجمهور الاطلاع عليها.

وقد احتفظت سجلات المقيمية بالنسخة الأصلية التي خطها كيركباتريك بيده قبل أن تطبع، وهذا يدل على ما أضفوه على التقرير من سرية، مع أن العمل بحد ذاته يندرج تحت المسوحات الميدانية العلمية.

ومن الغريب أن تقرير كيركباتريك ظل في أدراج الساسة البريطانيين في الخليج مدة من الزمن، حتى طلبه منهم أحد مسؤولي التاريخ الطبيعي بالمتحف البريطاني بتاريخ 11 ديسمبر 1916.

خلفيات وأسرار

إلا أنه مما أثار التساؤل هو: ما خلفيات هذا التقرير؟ وما الذي دفع السلطات البريطانية إلى استدعاء أحد المتخصصين لإجراء هذا المسح الميداني؟ ولِمَ هذه الحماسة لهذا التقرير؟

وبعد البحث والتقصي ومراجعة عشرات الوثائق تمكنت من الحصول على رسالة بتاريخ 18 مايو 1905 موجهة إلى سكرتير الحكومة للشؤون الخارجية من قِبل شركة تدعى شركة استكشاف الإسفنج (The Sponge Exploration Syndicate Limited) من ثلاث صفحات فيها إشارات إلى تأسيس الشركة منذ عام 1862.

وأنها مسجلة في لندن، وفيها شرح عن مهام الشركة الاقتصادية والإجرائية المتعلقة باستخراج الإسفنج والمتاجرة به، وبيعه، والطبيعة الإدارية لعمل الشركة، وأنها مسجلة لدى الحكومة الإيرانية في 1 فبراير 1905؛ وبالتالي أسست ما يشبه المكتب لها في بوشهر، وتزعم القيام بعدد من المسوحات للسواحل الإيرانية على الخليج للتعرف على إمكانية استخراج الإسفنج، واستغلاله اقتصادياً.

الوفرة والجدوى

في تلك الرسالة إشارة إلى وفرة الإسفنج في الخليج حسب رأي الشركة، وأنه لم يسبق لأحد استغلاله والاستفادة منه تجارياً على نطاق واسع، وأن المسح الميداني ربما يمتد جغرافياً من سواحل مسقط إلى سواحل جزر البحرين، وإلى مصب شط العرب، بل وإلى سواحل ظفار، وجزر كوريا موريا.

مراسلات تترى

ومن ذلك التأريخ تتابعت المراسلات حتى فاقت المائتي وثيقة بين عامَي 1905 و1916.

لم تترك شاردة ولا واردة إلا أحصتها. وأصبح كل واحد خبيراً في الإسفنج والبيئة البحرية وعلم الأحياء، ومن هنا، وفيما يبدو استدعت السلطات البريطانية العالِم كيركباتريك لإجراء المسح الميداني، وإعداد تقرير موجز ومركز بعد تلك الرسالة بستة أشهر، إلا أنه تخللت تلك الأشهر الستة مراسلات ومباحثات تصيب القارئ بالملل والذهول في الوقت نفسه.

تخوف وحذر

ويدل جزء من تلك المراسلات على توجس وتخوف المسؤولين البريطانيين من قيام الشركة بالإضرار بمصالح عرب الخليج المعتمدة على الغوص لاستخراج اللؤلؤ، وهي المهنة التي يعتمد عليها أغلب سكان الخليج، وهم يصرحون بأن الاندفاع في دعم الشركة وعملها ربما يمس حقوق العرب التي وثقوها في معاهدات معهم؛ ما قد يسبب لهم إرباكاً واضطراباً هم في غنى عنه.

وإن كانوا يقرون في الوقت نفسه بأهمية فتح باب جديد للعمل للأهالي، إلا أن ذلك لن يكون على حساب رتابة الوضع العام في الخليج، كما أن عمل الشركة قد يسبب ضرراً بقاع الخليج، فيؤثر بالتالي على نمو الأصداف الحاملة للؤلؤ.

ودفعهم هذا الأمر أيضاً إلى البحث في بنود المعاهدات القديمة مع شيوخ الخليج، وطبيعة علاقة التاج البريطاني معهم. وهذه من قبيل الفلسفة التي لا طائل منها. وهذا الحرص على أرزاق أهالي الخليج ليس من قبيل المحبة الخالصة، بل من قبيل السياسة الفاحصة.

مسؤول تلو مسؤول

يكاد ينخرط في تلك المراسلات التفصيلية أغلب المسؤولين البريطانيين من لوردات وساسة في وزارة الخارجية في لندن وفي حكومة الهند البريطانية، وفي المقيمية البريطانية في بوشهر والوكالات السياسية في مسقط والبحرين، وكل يدلو بدلوه، حتى لو لم يكن لديه اطلاع دقيق على هذه المَهمة.

وكان من ضمن الاقتراحات أن يُمنح عرب الخليج ثلاثة كيلومترات تحيط بكل هير من هيرات الغوص، ثم تتولى الشركة استخراج الإسفنج فيما وراء ذلك. وهذا الاقتراح قبل مجيء كيركباتريك بخمسة أشهر. ويلاحظ الباحث كثرةً في مراسلات الشركة، وإصراراً على المضي في المشروع مهما كلف، حتى أنهم أشركوا في مراسلاتهم هذه لوردات إنجليزاً.

امتياز واتفاق

في 29 أغسطس 1905 تمكنت الشركة من عقد اتفاق مبدئي مع شاه إيران حول عملها في السواحل التابعة لإيران على الخليج العربي. وفي 19 نوفمبر 1905 منح سلطان عمان فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي موافقة مماثلة للشركة.

ضمن عقد من ثمانية بنود حدد مجال عمل الشركة، وما تتحصل عليه من مستخرجات بحرية أخرى تؤول إلى الحكومة العمانية، إضافة إلى دفع مبلغ 30 روبية لكل 24 وزنة من الإسفنج بعد تجفيفه. من الغريب أن هذا الاتفاق مدته 15 عاماً.

ولرغبة السلطات البريطانية في تجنب السخط العربي فإن كل عمل الشركة تركز على السواحل الإيرانية، وعلى السواحل العمانية إلى خصب فقط. وحتى الاتفاق مع السلطان أخذ نصيبه من المراسلات والاستفسارات بين المسؤولين البريطانيين، مبدين وجهة نظرهم حتى بعد عامين من عقد الاتفاق.

سفينة الشركة

رست سفينة شركة استكشاف الإسفنج في ميناء بندر عباس في أوائل يوليو 1906 للعمل في السواحل المحيطة بجزيرة هرمز، وعلى طاقمها ستة غواصين يونانيين.

ولشدة حرارة الجو عند هرمز لم يمكنهم العمل سوى 18 ساعة، كما أنهم لم يجنوا شيئاً من عملهم حول جزيرة خارج، إلا أن المسؤولين البريطانيين في الخليج لم يرحبوا كثيراً بهذا الاتفاق. ومن الجدير بالإشارة أن الغواصين اليونانيين سرعان ما عادوا إلى بلادهم، ولم يطيقوا حرارة جو الخليج.

عالِم البحار

وبعد المسح الذي قام به راندولف كيركباتريك دخل على الخط العالِم الكبير البروفيسور سير إدوين راي لانكستر (Sir Edwin Ray Lankester) (1847 - 1929) عالِم الأحياء وأحد أشهر علماء الحيوان البريطانيين.

والمدير الثالث لمتحف التاريخ الطبيعي في لندن، الذي أبدى رغبته في سبتمبر 1906، بإرسال سفينة علمية تتبع المتحف البريطاني، تتولى جمع عينات من إسفنج الخليج، ونقلها إلى لندن لدراستها وتحليلها، إلا أن هذا الطلب لم يتم؛ نظراً لطول الإجراءات، وتعقيدها.

وخلاصة القول أن هذا المشروع الاقتصادي لم يطل به البقاء، بل توقف بحلول عام 1910، إلا أن تلك الوثائق تقدم لنا معلومات قيمة حول الاشتباك بين السياسة والاقتصاد والعِلم، وتلبسها في الوقت نفسه بمسوح الأهواء الشخصية، والرغبات الذاتية.

كما نستنتج منها أن السلطات البريطانية المهيمنة، مهما أوتيت به من قوة، تُبقي مساحة للحوار والنقاش والقبول والرفض بما يحقق المصالح العامة للمملكة البريطانية العظمى، بل وحتى العلماء الكبار، فهم يدورون في الفَلك نفسه، فلا يشذون عن النسق العام للحكم البريطاني.

 اقرأ أيضاً:

 مصائد الإسفنج في الخليج العربي ( 2-1)

Email