جذور

مصائد الإسفنج في الخليج العربي ( 2-1)

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ أن بسطت بريطانيا هيمنتها على منطقة الخليج العربي، استقرّت سلطتها في المنطقة بالقوّة العسكريّة، والدهاء السياسي، والضبط الإداري، والإتقان التنظيمي، والمتابعة، وضرب الخصوم، وتأليب الأعداء على بعضهم البعض.

وصاحبَ ذلك تعامل واقعيّ مع الأحداث والوقائع والأشخاص والممتلكات.

بالإضافة إلى إجراء الدراسات المناسبة في المجالات المختلفة، وفي الميادين المتنوّعة، وتلمّس مجريات الأمور من خلال الواقع.

وتندرج هذه الدراسات والمسوحات ضمن استطلاع كامل للمنطقة، حتى ولو لم ينفذّ أو لم ينجز فإنّ النتائج تظلّ محفوظة في الأدراج، وأماكن المحفوظات تقدّم للباحثين معلومات قيّمة حول موضوعٍ ما يهمّ المتخصّصين، ويفتح لهم باباً للتأريخ والتسجيل والتحليل. بالإضافة إلى التعرّف على وصف للطبيعة، أو شرح للواقع، أو تفسير لحادثة، أو تشخيص لأمر.

تقرير كيركباتريك

ومن هذه المسوحات المحفوظة تقرير أعدّه راندولف كيركباتريك (Randolph Kirkpatrick) أحد أهمّ علماء الطبيعة والحياة الفطريّة في قسم الحيوان بالتاريخ الطبيعي بالمتحف البريطاني. وله العديد من الدراسات في هذا الميدان. وُلد عام 1863 وتوفّي عام 1950.

وهو من العلماء البريطانيين المتخصّصين في علاج الإسفنج وعِلم العقاقير وعِلم الأحياء. عمل مساعد حافظ اللافقاريات الدنيا في متحف التاريخ الطبيعي البريطاني من عام 1886 حتى تقاعده في عام 1927. ونشر كيركباتريك عدداً من الأوراق حول الإسفنج في القارّة القطبية الجنوبية والمحيط الهندي.

وتخصّص أكثر على نوع يُعرف بـ Merlia، وهو نوع من الإسفنج المرجاني (إسفنج يفرز هيكلاً عظميّاً من الحجر الجيري يشبه المرجان). وكان هو أول مَن فسّر وحلّل ودرس هذا الإسفنج غير العادي بشكلٍ صحيح.

ونشر كتاباً يحتوي على أفكار غير تقليدية حول تاريخ الحياة على الأرض. كان هذا بعنوان: The Nummulosphere: سرد فيه الأصل العضوي لِما يسمّى بالصخور النارية والطين الأحمر السحيق، طُبع عام 1912 في أربعة مجلّدات.

بين الإسفنج والمرجان

يختلف الإسفنج عن المرجان من حيث الطبيعة والتكوين والتركيب والحياة فالإسفنج حيوانات مائيّة بدائيّة تصفّي المياه للحصول على الغذاء والأكسجين وتحتوي على جسمٍ مساميّ ناعم، بينما الشّعاب المرجانية هي حيوانات بحرِية تشكّل مستعمرات وتفرز كربونات الكالسيوم لتشكّل هيكلاً خارجيّاً صلباً يشبه الصخور.

إمكانات إسفنج الخليج

أعدّ راندولف كيركباتريك التقرير في نوفمبر 1905 حول الإمكانيات التجارية لإنشاء مصائد إسفنج بالخليج العربي.

وقد أعدّ هذا العالِم تقريره بشكلٍ مركّز ومُنسّق، ووفق إطار علميّ موثّق. ويُفهم منه أنّه قام برحلة ميدانيّة على متن قارب أبحر به من البصرة إلى كراتشي، وفيما يبدو أنّه زار جزر البحرين، وساحل مسقط وأجرى مسوحات عمليّة.

المسح الميداني والعيّنات البحثيّة

بدأ حديثه بنفي أن تكون هناك أيّة دراسات سابقة حول الإسفنج في الخليج. وصرّح بأنّ متحف التاريخ الطبيعي يمتلك عيّنات صلبة من إسفنج الخليج. بعضها التقطها هو بنفسه أثناء رحلته البحْرِيّة.

ويقول إنّه: لا يوجد من ضمنها ما يشير إلى الوفرة الاقتصاديّة لهذه النّوعيّة من الإسفنج. ويعلن أيضاً أنّه حتى وقت كتابته لهذا التقرير لا توجد في الأصل تجارة رائجة للإسفنج في المنطقة.

ويقارن أنّه في عام 1810 ما كانت توجد تجارة للإسفنج في جزر الهند الغربية إلا أنّه مع حلول عام 1905 يعمل في استخراج الإسفنج آلاف الرجال من أبناء تلك المنطقة.

بمعنى أنّه مع مرور الوقت بدأ الأهالي يقدّرون الأهمية الاقتصاديّة لهذه المهنة الجديدة التي لم يمضِ على دخولها عليهم سوى 95 عاماً.

وهو هنا يكاد يلمح إلى أنّ عرب الخليج يتطلّب منهم وقتاً مشابهاً أو مقارباً حتى يقتنعوا بهذه المهنة الجديدة التي لم يعرفها أسلافهم من قبل الذين قضوا أعمارهم في الغوص على اللؤلؤ.

وصف الخليج

ثمّ يسمّي الخليج بالبحر الأخضر، وهذه ربما لمحة منه إلى ما كان يتمتّع به الخليج من نقاء وصفاء في مياهه في حقبة زمنيّة لم تعرف التلوّث وتدمير البيئة.

ويقول عنه: إنّه من البحار الضحلة المغلقة تقريباً مقارنة بغيره من خلجان العالَم. وهو في أعمق حالاته لا يصل إلى أكثر من 55 قامة بما يساوي 100 متر و65 سم.

وأنّ به مئات الجزر من شماله إلى جنوبه. وأنّ أرضية أعماقه مليئة بالوحل والأتربة والطين والحجارة التي تعدّ بيئة مناسبة لنموّ الإسفنج. ويقارن ذلك بساحل مسقط الذي يمتدّ لعدّة قامات حتى يصل إلى أعماق أكبر.

وتحت عنوان: الظروف المناسبة لنموّ الإسفنج حتى تكون ضمن الحالة الاقتصاديّة الرائجة:

ويشير إلى أنّ حرارة المياه أن تكون بمعدّل مرتفع يساعد على نموّ هذا الكائن البحري. وأن تتراوح الأعماق ما بين 10 (=18 متراً و30 سم) إلى 55 قامة. وأنّ وجود الحجارة البحريّة والشعاب المرجانيّة يساعد كذلك على نموّ الإسفنج.

وتحت عنوان: الظروف المناسبة لنموّ الإسفنج في مياه الخليج العربي حتى تكون تجارة رائجة:

ويذكر أنّ الجزء الشمالي من الخليج القريب من مصبّ شطّ العرب تكثر فيه الأرض الموحلة التي لا تساعد كثيراً على نموّه. ثمّ يلمح إلى أنّ هبوب رياح الشمال أو الرياح الشمالية الغربية تنقل كمّيّات هائلة من الأتربة ترمي بها في مياه الخليج فتزيد من توحّل أرضيّته، كما تشكّل بالتالي حياة بحريّة من نوعٍ خاصّ.

ويشير إلى أنّ حرارة مياه الخليج هي من أعظم عوامل نموّ الإسفنج ونقاوته، حتى حرارة الجوّ تتفاعل معها حرارة المياه. ويقارن ذلك بمياه فلوريدا، ويقارن كذلك بحرارة مياه البحر عند جزر البحرين وعند ساحل مسقط.

وتحت عنوان: طرق جلب الإسفنج

يستعرض بالتالي أربع طُرق معروفة لاستخراج الإسفنج من قاع البحر:

1 - غوص الرجال، وهم يلبسون فقط ما يستر عوراتهم، بمثل ما يغوصون به على محّار اللؤلؤ، ويعلّقون في أرجلهم حجراً ثقيلاً يسحبهم إلى الأسفل ربما بعمق عشر قامات. وحين يصلون يبقون لدقيقتين أو ثلاث بحدٍّ أقصى، يقطعون فيها الإسفنج.

2 - الغوص باستعمال بعض الأدوات التي تساعدهم على البقاء لفترة أطول، وإلى عمق عشرين قامة بما يساوي 36 متراً و60 سم.

3 - الغوص باستعمال أداة خاصّة لقلع الإسفنج، متمثّلة في شوكة ذات جذع طويل جدًا للمقبض ولها نهاية بها شوكتان أو ثلاث شوكات. وهذه الطريقة مستعملة كثيراً في جزر الهند الغربيّة.

4 - استعمال شبكة لالتقاط الإسفنج مصنّعة من وبر الإبل، لها إطار حديدي عند فتحتها، تساعد على بقائها مفتوحة. وكان جامعو الإسفنج يضعونه فيها. وهذه الشبكة التي يذكرها لم يفسّر كيف يتم تصنيعها؟ وأين تصنّع؟ وهل هي مخصوصة بعرب الخليج أم لا؟

الضرر والمحافظة

ثمّ يتساءل هل يمكن جمع الإسفنج بدون الإضرار بقاع المحّار في الوقت ذاته؟ ويجيب بأنّه قد يحدث بعض الضرر على أماكن نموّ المحّار.

وقد تؤثّر على المحّار الصغير الذي لم يكتمل نموّه بعد. وهنا يشير إلى أنّ أيّة من الطرق الأربع تصلح لجمع الإسفنج في مياه الخليج ولا تؤثّر على أصداف اللؤلؤ فيجب اتّباعها بشرط معرفة قدر الضرر.

موقف عرب الخليج

وهنا أيضاً يلمح إلى أنّ عرب الخليج قد يعترضون على جمع الإسفنج لأنّه ليس هو المحصول الأهم في حياتهم بل الغوص على اللؤلؤ هو الأهمّ والأَوْلى.

ويشير إلى أنّه في عام إعداد تقريره كان يعمل في الغوص 30 ألف رجل على متن خمسة آلاف قارب غوص مما يشكّل تنظيماً اجتماعيّاً واقتصاديّاً هائلاً لأبناء الخليج بين شهرَي يونيو وأكتوبر من كلّ عام.

ومن لطائف إشاراته إلى أنّه حتى في حوض البحر المتوسّط، وفي مياه الأمريكيتين يمثّل دخول مهنة جديدة في حياتهم إشكالاً كبيراً قد يغيّر كثيراً من نمط الحياة إلا أن يستوعبوا أهميّتها ودورها الاقتصادي، وعظم تأثيرها الإيجابي على حياتهم.

وهنا يلامس حديثه الواقع الخليجي، بعدم إدخال مهنة جديدة على الأهالي ما لم يدركوا عظم أهمّيّتها المستقبليّة في حياتهم. ولهذا حين أشار إلى مهنة جمع الإسفنج في جزر الهند الغربيّة ذكر بأنّ شيوعها تطلّب على الأقلّ تسعة عقود من الزمن.

الخلاصة

كان صريحاً حينما قال: بأنّ مُعدّ هذا التقرير لا يمكنه الجزم تماماً بأنّ إسفنج الخليج يمثّل جدوى اقتصاديّة يمكن الاعتماد عليها في استخراج هذه المادّة، وصرف مبالغ ماليّة عليها.

وتسخير الإمكانات لاستخراجها. إلا أنّه يؤكّد أنّ مياه الخليج العربي تعدّ بيئة مناسبة لنموّ الإسفنج لتكون تجارة رائجة بشرط مراعاة الوضع الاقتصادي العامّ لأهالي الخليج. بمعنى أنّ الوصول إلى وضع الجمع والتصدير والاستفادة يتطلّب وقتاً طويلاً بعض الشيء.

Email