رفضها الجميع واحتضنتها الخدمة الوطنية

أخبروها أن جميع الجهود لايجاد أسرة بديلة لها باءت بالفشل، فمن يريد أن يستقبل في منزله فتاة قاربت الثامنة عشر ومدمنة على المؤثرات العقلية ومعتادة على حياة اللهو والسهر، لا أحد فكر في الأسباب التي دفعتها إلى تلك الحياة، والآن وجدوا لها الحل في الالتحاق بالخدمة الوطنية، وهي أكثر الأماكن التي يمكن أن تستطيع فيها مواصلة علاجها النفسي والسلوكي، وإيجاد فرصة حقيقية لكل تعيش الحياة التي تستحقها.

الآن تستطيع بدء حياة جديدة من خلال خدمة الجهة الوحيدة التي اهتمت بها ورعتها، وهي دولتها، فقد عرفت اليتم يوم ولادتها، وكأن أمها وهبتها روحها يومها وفارقت الحياة التي لم تكن تليق بها، أما والدها فقد كان ذلك اليوم في السجن حيث كان دائماً في معظم أيامه بعد ذلك، فهو لا يكاد يخرج منه حتى يعود إليه ثانية بتهم تعاطي المخدرات وشرب الخمر، ولم يكن لها في ذلك الوقت سوى جدتها لأبيها، فقد تخلى عنها أعمامها وعماتها خوفاً من سوء سمعة أبيها، أما أخوالها فهم من جنسية عربية ولم تسمع عنهم شيء في حياتها.

براءة بائسة

في طفولتها لم تكن تشعر بحجم مأساتها، فجدتها العجوز كانت توفر لها الطعام والمسكن دون الرعاية الكافية، وما إن وصلت إلى عامها الثالث عشر حتى بدأت تشعر بأنها مختلفة عن صديقاتها في المدرسة، بدأت تقارن ملابسها الرثة بملابسهن الفاخرة، وكل تلك الأشياء التي كن يمتلكنها لم يكن لها نصيب منها، حتى أن مستواها الدراسي كان متدنياً فكانت تعيد السنة تلو الأخرى، ولا أحد يهتم بمساعدتها على تجاوز مواضع الضعف وتقويتها.

بدأت تكبر وزادت احتياجاتها، وفي المقابل لم تجد سوى ملابس وعباءات جدتها القديمة مقابل أفخر الملابس التي ترتديها صديقاتها، وقررت مغادرة المنزل بحثاً عن حياة جديدة، وبالفعل تركت بيت جدتها لتسير في الشوارع بلا هدى، حتى عثر عليها مجموعة من الشبان فاصطحبوها معهم، وبقت لديهم ثلاثة أيام حتى عثر عليها رجال الشرطة بعد أن شكوا بصغر سنها، وتبين أن جدتها أبلغت عن غيابها، وفي المحكمة كان الحكم تسليمها لولي أمرها.

أسابيع قليلة قضتها لدى جدتها، لم يتغير فيها شيء، لذلك تركت المنزل مرة ثانية ولكن هذه المرة كانت تعرف أين تذهب، فتوجهت مباشرة إلى مجموعة الشباب الذين تعرفت عليهم في السابق، وهذه المرة كانت تتنقل معهم بين مدينتي أبوظبي والعين حتى يصعب على رجال الشرطة إيجادها، وبالفعل استغرق الأمر ثلاثة أسابيع ليتم العثور عليها، ولكن هذه المرة تم الحكم بإيداعها في مركز تأهيل الفتيات، وهناك وجد المشرفون صعوبة في التعامل معها لشراسة طباعها وعدم تجاوبها مع قوانين المركز، ولكن اضطرت النيابة للافراج عتها وتسليمها لولي أمرها، لصغر سنها الذي لا يستحب معه بقاءها فترة طويلة في المركز.

تكرر غيابها عن المنزل، وتكرر معه دخولها مركز التأهيل لفترات متفاوتة، وفي آخر مرة لهروبها وكانت قد تجاوزت السادسة عشر، تعرفت إلى سيدة سيئة السلوك فآوتها، وعلمتها تعاطي المؤثرات العقلية، واصطحبتها إلى الملاهي الليلة حيث تتناولان الكحول وترافقان الرجال، وبقيت لدى هذه السيدة أكثر من ستة أشهر إلى أن تم القبض عليها وهي في حالة غير طبيعية، ولدى فحصها تبين أنها مدمنة على تعاطي المؤثرات العقلية، وحكم بإيداعها في مركز التأهيل، بينما لم تستطيع إثبات تهمة تسهيل التعاطي على تلك السيدة لعدم وجود دليل.

وبعد صدور الحكم قامت بمغافلة مشرفات وحاولت الانتحار برمي نفسها من الأعلى، ولكن تم السيطرة عليها وانقاذها، وبإحالتها إلى الطب النفسي تبين أنها تعاني من عدد من المشكلات النفسية، وكان قرار نيابة الأسرة بأن تبقى أكبر فترة ممكنة في المركز، لعدم صلاحية منزل أسرتها لرعايتها وتقويم سلوكها. وبدأ وفق المعطيات الجديدة وضع خطة إعادة تأهيل كاملة تعتمد على العلاج النفسي والسلوكي والطبي لعلاجها من الإدمان، وتم إعادتها إلى مقاعد الدراس بعد أن بدأ العلاج يثمر عن ولادة فتاة جديدة، وبالتالي استطاعت الحصول على شهادة التعليم الأساسي.

وفي هذه الفترة التي وصلت إلى أكثر من عام ونصف، كانت الجهود حثيثة للحصول على أسرة بديلة، لأن إقامتها طالت في دار الرعاية، ولا يمكن إعادتها إلى أسرتها حتى لا تعود للهروب منهم نحو المجهول بكل احتمالاته السيئة، وكان لا بد مع اقترابها من عمر الثامنة عشر إيجاد بديل مناسب ومؤتمن على مستقبل الفتاة وحياتها. وفي هذه الأثناء جاء المرسوم السامي لاقرار الخدمة الوطنية ليفتح أفاقاً جديدة، وكانت الفكرة بأن تلتحق الفتاة بالخدمة الوطنية حيث يمكن أن تشعر بقيمتها وجدوى حياتها من خلال تقديم خدمة مميزة للجهة الوحيدة التي اهتمت بها ورعتها، وهي دولتها، وكذلك شكلت الخدمة الوطنية أملاً بإيجاد فرصة عمل وحياة كريمة بعد انتهاء مدة الخدمة. وافقت الفتاة على الفكرة بسعادة، وبعد ذلك تم استدعاء والدها والطلب منه التعهد بإلحاقها بالخدمة الوطنية، وقد وافق أيضاً لتجد الفتاة لنفسها أسرة حقيقية أكبر مما كانت تحلم.

تنشر البيان بالتعاون مع دائرة القضاء في أبو ظبي، صباح كل أحد، قصة من أروقة القضاء، بهدف توعية المجتمع

الأكثر مشاركة