مراعاة السياق الزماني في كتاب الله

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاء في سنن النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قدامة بن مظعون شرب الخمر في البحرين فَشُهِد عليه، ثم سُئِل فأقرَّ أنَّه شربه، فقال له عمر بن الخطاب «ما حملك على ذلك»؟ فقال: لأنَّ الله يقول «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالِحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات» «المائدة: 93»، وأنا منهم، أي من المهاجرين الأولين، ومن أهل بدر، وأهل أحد، فقال عمرُ للقوم: أجيبوا الرجل، فسكتوا، فقال لابن عباس: أجبه، فقال: إنما أنزلها الله عذراً لمن شربها من الماضين قبل أن تحرم وأنزل: «إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان» حجة على الباقين.

الصفا والمروة

وجاء في صحيح البخاري أنَّ عروة بن الزبير قال: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: «إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما». فو الله ما على أحدٍ جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة.

قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي إنَّ هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أُنزِلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهَلَّ أي بعد الإسلام، يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلمَّا أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا:

 يا رسول الله إنا كنَّا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: «إن الصفا والمروة من شعائر الله».. حتى نهاية الآية، قالت عائشة رضي الله عنها: «وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما».

مفتاح جديد

هذه الأحاديث تدلُّنا على مفتاح جديد من مفاتيح فهم القرآن وتدبر معانيه، وهو مراعاة السياق الزماني الذي نزل فيه القرآن الكريم، أو ما يسميه أهل التفسير «أسباب النزول»، ولو تأملنا في قصة قدامة المقدسي وعمر بن الخطاب نجد أن الخلل في فهم قدامة المقدسي جاء من عدم مراعاته للسياق الذي نزلت فيه آيات تحريم الخمر، والتي تقضي برفع الجناح عن الصحابة الذين ماتوا قبل تحريم الخمر تحريماً قاطعاً.

وكذلك الحال في قصة عروة بن الزبير مع أم المؤمنين، فإنَّ عروة بن الزبير لم يراعِ السياق الزماني الذي نزلت فيه آية السعي بين الصفا والمروة، فقد كان الأنصار في الجاهلية يهلون لمناة الطاغية، فتحرج الأنصار من الطواف مع وجود الأصنام بعد إسلامهم، فجاء القرآن ليبين لهم أنَّ السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله، وأنَّه لا جناح عليهم في الطواف بينهما دون اعتبار لوجود هذه الأصنام في الوقت الحاضر.

وهكذا هو الحال في كثير من آيات القرآن الكريم، نمرُّ عليها دون أن نفهم كثيراً من معانيها، أو نفهمها على غير وجهها، كما حصل مع قدامة المقدسي وعروة بن الزبير.

ومن ذلك مثلاً قول الله تعالى في سورة البقرة: «يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنَّ البرَّ من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون» «البقرة: 189».

كتب التفسير

فلو سألت عن معنى قوله تعالى: «وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنَّ البرَّ من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها» لم تجد عند أكثر الناس جواباً لها، والسبب في ذلك عدم مراعاة السياق الزماني الذي نزلت فيه الآية.

وإذا عدنا لكتب التفسير تمكنَّا من معرفة الظروف التي نزلت فيها الآيات، فقد أورد ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره آثراً عن جابر رضي الله عنه قال: كانت قريش تُدعَى الحُمْس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام أي حال كونهم مُـحـْرِمين، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذ خرج من بابه، وخرج معه قُطْبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله، إن قطبة ابن عامر رجل تاجر وإنَّه خرج معك من الباب.

فقال له النبي عليه السلام: «ما حملك على ما صنعت؟!»، قال: رأيتك فعلتَه ففعلتُ كما فعلتَ. فقال: «إني رجل أحمس» أي من قريش قال له: فإن ديني دينك. فأنزل الله «وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون» «البقرة: 189».

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة البقرة أيضاً: «ثم أفيضوا من حيث أفاض النَّاس». ولك هنا أن تتساءل لـمَ قال تعالى: «ثم أفيضوا من حيث أفاض النَّاس» ولم يقل: أفيضوا من عرفات.

والجواب أنَّ قريشا كانت لا تقف بعرفة؛ لأنها ليست من الحرم، بل تقف بمزدلفة لأنَّها حرم، فأمرهم الله أن يفعلوا كما يفعل الناس وأن يتركوا ما أحدثوه من الوقوف بمزدلفة وتركهم الوقوف بعرفة، والدليل على ذلك ما رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسَمّون الحُمْس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يَأتَي عرفات، ثم يقف بها ثم يُفيض منها، فذلك قوله: «من حيث أفاض النَّاس».

والحاصل أيها القارئ الكريم أنَّ كثيراً من الآيات لا يمكننا فهمها، أو لا يمكننا فهمها على الوجه الصحيح، نظراً لعدم معرفتنا بأهمية مسألة مراعاة السياق الزماني، أو ما يسميه أهل التفسير أسباب نزول القرآن الكريم. والمطلوب منَّا أن نُعمِل هذه القاعدة لنفهم كلام الله عزَّ وجل في كتابه الكريم.

Email