حُسن التخلص في القرآن واللغة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كتب ابن الأثير رسالة إلى بعض الإخوان يخبرهم عن حاله في بلاد الرومان، يقول فيها: «ومما أشكوه من بردها أن الفرو لا يلبس إلا في شهر ناجِر، وهو قائم مقام الظل الذي يُتبرد به من لفح الهواجر، ولفظ شدته لم أجد ما يحققه فضلاً عمَّا يذهبه، فإن النار الـمُعدةَ له تطلب من الدفء أيضاً ما أطلبه، ولكن وجدت نار أشواقي أشدَّ حراً فاصطليت بجمرها الذي لا يُذكى بزناد ولا يؤول إلى رماد، ولا يُدفع البرد الوارد على الجسد بأشد من حرِّ الفؤاد..».

من يتأمل هذه الرسالة يلاحظ أن كاتبها يصف لأخيه ما يعانيه من شدة البرد في بلاد الرومان، فيكفي أنَّه يلبس الفرو في شهر «ناجر» أي شديد الحر، وأنَّ هذا الفرو يشبه الظل الذي يُستَظل به من لفح «الهواجر» أي عندما ينتصف النهار ويشتد الحرُّ.

ومن شدة البرد أصبحت ناره التي أعدها للدفء تطلب الدفء لنفسها. ثم انتقل الكاتب من هذا المعنى انتقالاً سلساً - دون أن يُشعِر القارئ - إلى معنى جديد هو المقصود من إرسال الرسالة، فشرع يصف شدة شوقه لخليله، ذلك الشوق الذي فاق حرُّه النار التي أعدَّها ليتدفأ بها، ما جعله يتدفأ بجمر شوقه الذي لا يشعله زناد – أداة لإشعال النار - ولا ينطفئ فيصير إلى رماد.

انتقال سلس

إنَّ هذا الانتقال السلس من معنىً إلى آخر يلائمه، يسميه أهل اللغة (حُسن التخلص)، وقد عرَّفه السيوطي بقوله: (هو أن ينتقل مما ابتدئ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاساً دقيقَ المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول، إلا وقد وقع عليه الثاني لشدة الالتئام بينهما).

ومن الأمثلة القرآنية لهذه الظاهرة البلاغية ما جاء في سورة يوسف عليه السلام، وذلك في قوله تعالى: ((ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون)) (يوسف 36-37).

نلاحظ هنا أنَّ كلاً منهما سأل يوسف عليه السلام عن رؤيا رآها في المنام، ولكنه عليه السلام انتقل إلى معنى آخر وهو الحديث عن الطعام الذي يأتيهما في السجن، ومن ثَـمَّ تحدث عن فضل الله عليه أن وفقه لترك ملة الكفار، والإيمان بالله العزيز الغفار. فما السرُّ في هذا الانتقال؟!

الظن والتخمين

لما كان سؤالهما عن الرؤيا وتعبيرها وهو علم قائم على الظن والتخمين بين لهما فضل الله عزَّ وجل عليه، وأنه قادر على إخبارهما بما يرزقانه من طعام قبل أن يأتيهما، ثم خلُص من ذلك إلى أمر أهم وهو دعوتهما للدين القويم، واتباع آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام. وبهذا انتقل القرآن من الحديث عن الرؤيا والطعام وهو مقصد دنيوي إلى الحديث عن التوحيد والإيمان وهو مقصد أخروي.

ومن الأمثلة أيضاً قول الله عزَّ وجل في سورة الإسراء: ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)) ثم جاء بعدها قوله تعالى ((وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً)). فما السرُّ في الانتقال من الحديث عن الإسراء إلى الحديث عن موسى عليه السلام وبني إسرائيل؟!

الإسراء والمعراج

قال الزركشي في كتابه «البرهان في علوم القرآن»: (ووجه اتصالها بما قبلها أنَّ التقدير: أطلعناه على الغيب عياناً وأخبرناه بوقائع من سلف بياناً لتقوم أخباره على معجزته برهاناً).

والمقصود أن نبينا عليه الصلاة والسلام لما أخبر قريشاً بحادثة الإسراء والمعراج عجبوا من كلامه واستعظموا ذلك، فناسب ذلك أن ينتقل الكلام إلى الحديث عن بني إسرائيل الذين كذبوا نبي الله موسى عليه السلام رغم ما جاء به من الآيات والمعجزات الحسية التي تدل على صدق نبوته.

وهذا الانتقال ملائم لما سبقه من الكلام عن الإسراء والمعراج؛ لأن تصديق النبي عليه السلام في خبر السماء يأتيه غدوة أو روحة أعجب من قصة الإسراء والمعراج.

وبهذا أجاب الصديق رضي الله عنه لما قيل له: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس، قال لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا وتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟! قال نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة.

أوجه البلاغة

هناك أمثلة أخرى تدل على بلاغة القرآن في باب حسن التخلص، هذه الأمثلة وغيرها من أوجه البلاغة في كتاب الله عزَّ وجل، هي التي أعجزت البلغاء وأسكتت الشعراء وأخضعت لجمالها الأدباء. فسبحان الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً!.

Email