واو الحال في القرآن الكريم

ت + ت - الحجم الطبيعي

حرف الواو أحد حروف المعاني، والحروف في الغالب ليس لها معنى واحد، فقد تأتي الواو للعطف نحو: (جاء محمدٌ وعليٌ)، أو للقسم نحو: (واللهِ لأزورنَّك)، أو للاستئناف نحو: (رأيت محمداً. وعليٌ يصلي) أو تأتي الواو لتدلَّ على جماعة الذكور نحو: (أكلوا الطعام). وقد عدَّ ابن هشام - في كتابه الممتع «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» للواو خمسة عشر معنىً، وفصَّل في أحوالها وضرب الأمثلة التي تبين تلك الأحوال.

وسوف نحصر الكلام في هذه العجالة على نوع واحد من أنواع الواو التي استعملت في القرآن الكريم، هذا النوع يسميه أهل اللغة (واو الحال) ويُسميه بعضهم واو الابتداء، أو واو الوقت، وهي تفيد معنى المصاحبة والالتصاق، نحو قولك (جاء محمد والشمسُ طالعةٌ) أي جاء محمد والحال أنَّ الشمس طالعة، وأن طلوع الشمس مصاحب وملتصق بمجيء محمد، وكأنهما جاءا في وقت واحد.

وقد يُـؤتى بهذه الواو للفصل بين الحال والنعت، ويمكننا أن نوضِّح الفرق بين الحال والنعت بجملتين، ذكرهما الدكتور فاضل السامرائي في بحث له عن (واو الحال). الجملة الأولى تقول: (ما مررت برجل إلا له مال) والثانية تقول: (ما مررت برجل إلا وله مال)، فمعنى الأولى أنك لم تـمرَّ إلا برجل غني له مال وأنك لم تـمرَّ على رجل فقير قط. أمَّا الثانية فمعناها أنك لم تـمرَّ برجل إلا حين يكون غنياً عنده مال.

وأنك لن تذهبَ لرجل فقير أبداً، فالجملة الأولى فيها وصف عام، والثانية حال متنقلة. ونظيره قولك: (مررت برجل أخوه يعمل)، وقولك: (مررت برجل وأخوه يعمل) والفرق بينهما أنك في الجملة الأولى وصفت الرجل الذي مررت به بأن له أخاً يعمل، ولا يلزم أنك مررت به حال كون أخيه يعمل فعلاً. وأما الجملة الثانية فمعناها أنك مررت بالرجل في الوقت الذي كان فيه أخوه يعمل حقيقة.

وقد جاء في القرآن الكريم مثل هذا، وذلك في قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذِرون)(الشعراء208)، وجاء في قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم)(الحجر4). (فما السر في مجيء الآية الأولى دون واو الحال خلافاً للآية الثانية؟!!)

إذا تقرر ما ذكرناه آنفاً علمنا الفرق بين الآيتين، فمعنى قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) أنَّ الله عزَّ وجل لم يهلك إلا القرى التي هذه صفتها، جاءها منذِروها، ولكنهم أصروا على كفرهم وعصيانهم، ولو أتى بالواو فقال: إلا ولها منذِرون لكان المعنى أنَّ الله عزَّ وجل لم يهلك قرية إلا حال وجود المنذِرين فيها، وهم الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والتسليم، وهذا يعني أن الهلاك مصاحب وملازم لوجود المنذِرين قبل خروجهم منها، وهذا مخالف للنقل والعقل.

أما آية الحجر وهي قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) فمعناها أن الهلاك مصاحب للأجل المعلوم ملتصق به لا ينفك عنه. ولو جاءت الآية بغير الواو لدلت على أنَّ الأجل المعلوم وصف عام لتلك القرى التي كتب عليها الهلاك، ولكن هذا الوصف العام لا يلزم أن يكون مقارناً ومصاحباً للهلاك بل قد يأتي الهلاك قبل الأجل أو الأجل قبل الهلاك، وهذا المعنى فاسدٌ عقلاً ونقلاً.

ومن الأمثلة القرآنية أيضاً قول الله عزَّ وجل: (وسيق الذين كفروا إلى جهنَّم زمراً حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها..)(الزمر71) وجاء بعدها قوله تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها..)(الزمر73) (فما السرُّ في زيادة واو الحال في الآية الثانية؟!!)

زيادة واو الحال في الآية الثانية تدلُّ على أنَّ أبواب الجنة كانت مفتوحة للمتقين قبل وصولهم إليها، وهذا فيه إكرام للمتقين وتطمين لقلوبهم قبل الوصل لأبواب النعيم، ودليل ذلك قوله تعالى: (هذا ذكر وإنَّ للمتقين لحسن مئاب جناتِ عدنٍ مفتحة لهم الأبواب)(49-50). وحذف الواو في الآية الأولى يدلُّ على أنَّ أبواب النار لا تفتح إلى عند سَوْقِ الكفار إليها. وكما أن فتح الأبواب قبل قدوم أهلها فيه من معاني الإكرام والترحيب، فإن غلق الأبواب في وجوه الكفار والمجرمين قبل قدومهم فيه من معاني التخويف والترهيب لعدم علمهم ما ينتظرهم خلف تلك الأبواب من العذاب الأليم. أضف إلى ذلك أن فتحها فجأة في وجوههم يسبب لهم الخوف والهلع الذي لا يتصوره عقل.

إنَّ كل ما ذكرناه في هذه العجالة يتعلق بمعنى واحد فقط من معاني الواو في القرآن، فكيف لو تتبعنا بقية تلك المعاني، وحاولنا الوقوف على وجه الدلالة فيها. نسأل الله عزَّ وجل أن يفقهنا في دينه ويعلمنا تأويل كتابه.

من كلام الخالق عز وجل وبلاغة قوله في الذكر الحكيم؛ القرآن الكريم، نغوص في تفاصيل الحروف ونبحر في كمال المعاني، لنرسم لقرائنا الأعزاء أجمل الصور الكتابية على هيئة أسرار ربانية بديعة. هذه الأسرار التي نستشفها من آيات قرآنية، تجسد بجمال تعابيرها واكتمال معانيها، كل ما لا يستطيعه بشر ولا يقوى عليه مخلوق. فيها تجد الكلمة الأوفى والصورة الأنقى والإعجاز الأبقى، فيها أيضاً القول الفصل لكلام الخالق ذي الكمال، فليس أبلغ من كلام الله عز وجل قولاً. هو أصدق الحديث كلاً وجزءاً، وهو أوفى فاتحة وأكمل خاتمة، إنه القرآن الكريم الكتاب المحفوظ الذي لا ينقص تلاوة وإبحاراً واستزادة في العلم والنور؛ ولقارئه السرور.

«بديع الأسرار» محطة رمضانية ارتضيناها لكم من أنوارنا «أنوار رمضان»، لنمتع العقول ونقنع القلوب، بكلمات ربانية تتجلى فيها كل المسميات الحصرية؛ فيها الجمال والكمال والمثال، والإيحاء والوفاء والبناء؛ والتمام ختام.

Email