كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

الثقافة بمعناها الواسع، تشمل كل تجليات التعبير المشترك كالحِكَم والأمثال الشعبية وكل الموروثات. إنها وليدة تفاعل الناس ومتطلبات حياتهم، ليتم تناقل المنجز جيلاً بعد جيل ضمن منظومة الهوية. هنا نتلمس عروق الذهب الذي بلورته التجارب حتى انتهى إلينا عبر اللغة بما يلخص قصة عناق طويل مع الحياة.

يقول الحق عز وجل: «وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ» وقصة هذا المثل الذي ضربه الله تعالى للدلالة على شناعة إتيان الفساد بعد الإصلاح طوعاً، أن التي كانت تفعل ذلك امرأة معروفة في مكة، كانت تسمى خرقاء مكة، وكانت تغزل، فإذا أبرمت غزلها تنقضه، وقيل إنها أسلمت بمكة، وتسمى رَيطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وسميت جعرانة، وكانت بها وسوسة، ولم يكن لها نظير في فعلها ذلك، فقد ذُكر أنها كانت امرأة خرقاء مختلّة العقل، ولها جَوارٍ، وقد اتّخذت مِغْزلاً قدر ذراع، وصِنّارَة مثل أصبع، وَفَلْكَةً عظيمة على قدر ذلك، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهن فتنقض ما غزلته، وهكذا تفعل كل يوم، وروي عن ابن عطاء أنها شكت جنونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبت أن يدعو لها بالمعافاة، فقال لها عليه الصلاة والسلام: إن شئت دعوت فعافاك الله تعالى، وإن شئت صبرت واحتسبت ولك الجنة فاختارت الصبر والجنة.

وذكر ابن عطاء أن ابن عباس أراه إياها. وذهب بعض العلماء إلى عدم تعيينها. فقد قال الرازي: إن المراد بالمثل الوصف دون التعيين، لأن القصد بالأمثال صرف المكلف عنه إذا كان قبيحاً، والدعاء إليه إذا كان حسناً، وذلك يتم به من دون التعيين.

فلا فائدة من ذكر اسم هذه المرأة في القرآن، لأن الله عز وجل يحذر من صفة معينة، ولا يحذر من فاعل الصفة، فاكتفى بذكر الصفة دون ذكر الواقع فيها، وهذا أدب عظيم يربي القرآن المسلم عليه في أن نصحح الأخطاء ونحذر منها، دون التشهير والتنقص لأصحابها، وأن نتناول الأفكار دون الأشخاص، والحق أن هذا خلاف ما عليه الكثير من الناس اليوم أثناء الردود والحوارات، عندما تترك الأفكار والآراء، ويُنتقل إلى اتهام الأشخاص ونياتهم وتنقصهم، ولا شك أن هذا من ضعف العلم والحجة، ودليل إفلاس من الفكر والحكمة، وهو خَلاقُ الجهال والضعفاء، وهي صفة حمق «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ» يعني: من بعد إبرام وتعب وإتقان، فهذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد، فشبهه بامرأة تفعل هذا الفعل، فكان حالَها إفسادُ ما كان نافعاً محكماً من عملها وإرجاعه إلى عدم الصلاح، فنهوا عن أن يكون حالهم كحالها في نقضهم عهد الله، وهو هنا عهد الإيمان بالرجوع إلى الكفر وأعمال الجاهلية. ووجه الشّبه الرجوع إلى فسادٍ بعد صلاحٍ.

 

Email