صقر قريش ومعجزة بني أمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الخامس عشر من شهر رمضان سنة 138هـ ـ 756م عبر عبدالرحمن (الداخل) بن معاوية بن هشام الملقب بـ«صقر قريش» البحر نحو الأندلس ليؤسس دولة أموية قوية هناك، بعد أن نجا من مطاردة العباسيين، ليتجه نحو الغرب.

ولد عبد الرحمن بن معاوية في بلاد الشام في الخامس من رمضان سنة 113هـ. ونشأ في بيت الخلافة الأموية بدمشق في كنف جده الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك عقب أن مات والده. وعقب سقوط الدولة الأموية هرب عبدالرحمن من بطش بني العباس، الذين لحقوا به ليقتلوه.

إنها السنن تدور على بني أمية كما على الأمم والممالك، ما توحد قوم وتكاتفوا إلا وأصبحوا عصاة على كل كائد، وما تناحروا وغرتهم زينة الدنيا وزخرفها إلا وأضحوا لقمة سائغة في فم الأعداء والمتربصين.

أفل نجم الخلفاء الأقوياء من الأمويين ولم يعد هناك كعمر بن عبدالعزيز والوليد بن عبدالملك، فما كان من العباسيين إلا أن أعلنوا الثورة على الأمويين ولم يبقوا أو يذروا أحداً منهم على قيد الحياة.

بداية الرحلة

علم عبد الرحمن بن معاوية -وهو في العراق- أنه لن ينجو من بطش العباسيين إلا بالابتعاد إلى مكان لا سلطان لهم عليه، ولم يكن هذا المكان إلا الأندلس، إذ إن مشارق الأرض ومغاربها دانت للدولة الإسلامية. وهنا بدأت الرحلة المعجزة. هرب ومعه أخوه الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، والدَّرَكُ خلفه، فاعترضهم نهر الفرات، فألقى بنفسه يسبح في الفرات هو وأخوه، وخارت قوى أخيه الذي ناداه أعداؤه بالأمان، فاغتر بأمانهم ولم يسمع نصح أخيه، فذبحوه أمام عينيه وهو يبصر.

أجل، انطلق عبدالرحمن يصل الليل والنهار قاطعاً الصحارى المهلكة في رحلة معجونة بالتعب والمشاق التي تنقطع فيها أعناق سفن الصحراء. لقد سار عبدالرحمن من العراق إلى الشام، ومن الشام إلى مصر، ومن مصر إلى طرابلس الغرب، ومن طرابلس إلى تونس، ومن تونس إلى الجزائر، ومن الجزائر إلى أقصى المغرب، وليس معه إلا غلامه بدر، وعزيمة لا تقل عن الجبال الراسيات رسوخاً وثباتاً، ليعبر البحر إلى الأندلس، وكل ذلك وهو ضعيف مطارد أعزل، ومريض أيضاً.

إلى الأندلس

لم يرضَ ابن معاوية أن ينفرد في أقصى إفريقيا حتى وإن كان بعيداً عن أيدي العباسيين، لأن طموحه كان أبعد من النجوم، وبما أنه لم يجد فيها الأرض التي تحقق طموحه في إقامة دولة للأمويين، فإن نظره كان يجب أن يتجه إلى الضفة الأخرى.. إلى الأندلس.

التي كادت تمزقها الحرب الأهلية، وتتعرَّض لهجمات النصارى في الشمال، حيث كان من العسير على الأندلسيين الاتفاق على زعيم يلتف الجميع حوله، فتوجَّه بطموحه إلى هذا الإقليم بالغ الأهمية، ووجد فيه الفرصة لجمع شتات بني أمية في دولة تخلف دولتهم المدمرة.

ففي الخامس عشر من شهر رمضان استطاع عبدالرحمن الداخل العبور بجيشه مضيق جبل طارق إلى داخل الأندلس بهيبة وزحف إلى أشبيلية وبايعه أهلها، ثم نجح في دخول قرطبة العاصمة، ليسيطر على كافة أرجاء الأندلس، ويؤسس هناك خلافة لبني أمية من العدم بعبقرية فذة أعجزت العباسيين وأدهشتهم، حتى بقيت دولته قرنين من الزمان وأنجبت خلفاء لمع نجمهم في الأندلس فصارت درة العالم الإسلامي علماً وحضارة وازدهاراً.

ليس المقام هنا مقام السرد التاريخي للأحداث التي واجهت الداخل في رحلته، ولكن المقصود هو تسليط الضوء على تجربة بشرية حصلت بالفعل، لإنسان أصر على بلوغ المجد فلم يعقه عن هدفه المستحيل، ولم يقف أمام همته أي عائق طالما أن الإصرار زاده والعزيمة والصبر متاعه.

الاستيقاظ من الغفلة

آن لشباب الأمة وفتيانها أن يضعوا سير أمثال عبدالرحمن الداخل نصب أعينهم، فالتحديات عظيمة، والسباق طويل، والمنافسون أشداء. بسرعة خيالية تنتقل الأمم من مرحلة إلى أخرى ونحن قابعون في لذائذ الحياة والاستهلاك الأخرق لما ينتجه غيرنا، دون أن يكون لنا بصمة في هذه الحضارة وهذا السباق، أفلا يجدر بنا أن نستفيق من هذه الغفلة ونعمل على الخروج من وحول الشهوات وبهارج اللهو لكي نفيد أنفسنا وأمتنا ونضع لبنة في هذه الحضارة؟

Email