مستشفى الواحة في العين « شاهد عيان » على ذكريات زمان

مستشفى الواحة في العين « شاهد عيان » على ذكريات زمان

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

مستشفى الواحة في مدينة العين ذاكرة يمتزج فيها عبق الماضي وصورة الحاضر والمستقبل، ويجسد المستشفى قصة تطور مجتمع بكامله، حاملا في طياته وثنايا ذاكرته قصصاً وحكايات يتبادلها أبناء المدينة عن «الدختر» وكيف كانوا يتلقون العلاج وكيف كانت عياداتهم تحت سعف النخيل.

على الطرف الآخر تروي سيدات المدينة ذكريات ولادتهن على أيدي ممرضات هذا المستشفى الذي يعد سجلاً حياً لعدد كبير من أبناء المدينة ممن يتذكرون تلك الأيام الصعبة من شظف العيش والبساطة والأمن وتكاتف المجتمع أيام زمان، ولقد أصبح عدد كبير ممن عملوا في المستشفى من ممرضين وأطباء أكثر من أصدقاء لأهل العين وباتت تربطهم بهم علاقة ود، حيث مضى على وجود البعض منهم أكثر من 40 عاماً أتوا للمدينة في ريعان شبابهم، وفي مقدمة هؤلاء الممرضة التي باتت صديقة الجميع وتعرف بالدكتورة «لطيفة» والتي بدلت اسمها بعد قدومها من بلادها كندا وأقامت في العين سنين عديدة لم تزر بلادها إلا مرات قليلة قبل أن تعود إليها بشكل نهائي منذ سنتين فقط، وقد بلغت من العمر ما لا يساعدها على البقاء وحيدة رغم صداقاتها والعناية التي وجدتها على كل المستويات وفي مقدمتها الرعاية الخاصة التي أولاها لها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان - طيب الله ثراه - حيث كان له الكثير من القصص والحكايات في رعاية وتقدير أصحاب الإسهامات الذين شاركوا في بناء وتطور دولة الإمارات في كافة المجالات.

حكاية المكان مع الزمان نعود لقصة الزمان وحكاية المكان، فكم نحن بحاجة لتجسيد هذه العلاقة الوجدانية.. فلكل شخص منا في داخله حكاية مع المكان سواء الذي ولد فيه أو عاش طفولته وذكرياته أو ذاك المكان الذي يحتفظ فيه بخصوصياته وأجمل لحظات حياته، وفي قصص الشعوب هناك أمكنة دخلت التاريخ، في مدينة العين احتل مستشفى الواحة حيزاً كبيراً من ذاكرة أهل المدينة وأطلق عليه البعض مسمى «القصر الأبيض» وقبل ذلك عرف باسم «اسبيتار» أو مشفى كندي نسبة لفريق العمل الكندي الذي كان يعمل به، ويذكر أبناء المدينة إنه وفي نهاية عقد الخمسينات من القرن الماضي، وصل للمدينة وبدعوة من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ــــ رحمه الله ــــ ممثل الحاكم حينذاك، وفد طبي من كندا استقر في وسط واحة النخيل التي هي جزء من حرم قصر ممثل الحاكم.

حيث كانت البداية لتأسيس أول مستشفى في المدينة، وسارع سكانها للكشف عن أمراضهم التي كانوا لا يعرفون عنها شيئاً يداوونها بالأعشاب ورقية المطاوعة، حيث كان الغذاء في تلك الأيام صحياً والهواء غير ملوث والمنتوجات الزراعية لم تدخلها الأسمدة الكيماوية زادهم حليب النوق والتمر والرطب يفترشون الأرض ويلتحفون السماء والبراجيل هي أفضل أنواع المكيفات.

بدايات بسيطة

أفراد ذلك الفريق لم يكن يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، يقودهم دكتور كندي وزوجته «مريان» انضم لهم بعد ذلك الدكتور ستيت وزوجته أيضاً والتي تولت أعمال التمريض ولحقت بهم الممرضة جيرترديل دايك، والتي باتت أشهر من أن تعرف بين المواطنين والمواطنات، كيف لا وهي الشاهدة على ولادة معظم أبناء المدينة الذين لا يزالون يذكرونها وتتذكر هي لحظات ولادتهم وباتت تعرف بالدكتورة «لطيفة».

وكان العمل اليومي يبدأ منذ الصباح الباكر من منزل الشيخة سلامة، وعلى الرغم من قلة الإمكانات وبساطتها في ذاك الزمن، إلا أن الفريق الطبي استطاع إجراء أكثر من 4 آلاف حالة ولادة خلال 10 سنوات، حيث كانت السيدات تأتين من سلطنة عُمان ودبي والمناطق المجاورة، عن تلك المرحلة وعن ذاك المكان يروي الكاتب ناصري الظاهري في عاموده «سكة سفر»:في مطلع الستينات من القرن الماضي .

وفي وسط مدينة العين، كانت هناك أربعة مبان مميزة عن منازل الأهالي التي كانت مبنية من الطين والجص وسعف النخيل، قصر الشيخ زايد الذي تحول إلى متحف الآن، وغير بعيد عنه مدرسة النهيانية القديمة، ومبنى البريد والبرق، المصنوع من القش على الطريقة الإنجليزية في مستعمراتهم في البلدان الحارة «البريستي» ومبنى أبيض مصبوغ بالنورة، أطلق الناس عليه من أول يوم كلمة «إسبيتار» أو مشفى كندي نسبة للدكتور «بات كندي» الذي وصل في العام 1960 وتوفي في إبريل من العام 2000.

وقد جاء مع زوجته مريان، ولا يعرف الناس اسمه الأول، وحول الناس اسم زوجته مريان إلى اسم «ريم» مثلها مثل العديد من الممرضات اللواتي عملن في المشفى وغيرن أسماءهن دون اعتراض منهن، وبعضهن مازالت صورهن منطبعة في الذاكرة، لاسيما لطيفة، وهؤلاء الطبيبات والممرضات اللواتي أشرفن على ولادة معظم شباب وشابات العين، الذين هم الآن قادة في الدولة والمجتمع وكنا ننادي بهن ماما لطيفة.

وماما أنيسة، ويضيف الظاهري إن مشفى كندي غير مكانه في السبعينات وانتقل إلى مكانه الحالي خلف الوادي، ويُسمى مشفى الواحة، لكنه ظل في ذاكرة الناس بالاسم الذي يعرفونه به «مشفى كندي» وكان المشفى يحضر اللعب للأطفال والقصص المصورة والأقلام الملونة والحلويات والسكاكر التي لم نكن نعرف منها سوى الحلوى العمانية وملبس «برميت» والبشمك في المناسبات، إضافة لذلك كان المستشفى يحضر أفراح واحتفالات الأطفال ويقوم برحلات لمنازلهم.

ويشير الظاهري في روايته لقصة ذلك المكان إن مشفى كندي ارتبط بالأهالي من خلال حرص العاملين فيه على الانخراط في حياة الناس يأكلون من مأكلهم ويلبسون ملبسهم لدرجة إن الممرضات والطبيبات لبسن الكنادير العربية المخورة، والتي تعرف باسم «بوبادلة» المضروبة بالتلي، وكانوا يذهبون للمريض البعيد ولو في منتصف الليالي.

حيث لا كهرباء ولا ماء ويذكر الشواب من أهل المينة أن الدختر نظره ضعيف وكانت المعاملة نصف العلاج والاهتمام غير العادي بالمريض نصف الشفاء وكان الحب المتبادل بين الطرفين مصدراً لسعادة الأهالي.

ويذكر الرواة من أهل المدينة إن المستشفى كان يستقبل المرضى من مناطق مختلفة لاسيما النساء الولادات، وحين يضيق المكان كانت تنصب الخيام تحت شجر السمر والغاف.

وعلى مسافة من تلك الخيام كانت تعلق الذبائح فرحاً بقدوم المواليد الجدد، ولم يكن مشفى كنديا، مجرد مكان للمعالج، بل تحولت مداخله إلى سوق شعبي حيث كانت العجائز تفترش الأرض لتبيع بعض الحاجات الصغير لرواد المشفى الذي لم ينته دوره ولا مكانته على الرغم من افتتاح عدد من المشافي الحديثة، ومازال مشفى كندي يعيش في ذاكرة أهل المدينة.

حكاية لطيفة

من جهتها روت الدكتورة لطيفة في ذكرياتها عن فترة عملها الطويلة حيث غادرت الإمارات منذ سنتين عائدة إلى وطنها الأم بعد رحلة طويلة، مليئة بالحكايات والذكريات عن تلك الأيام التي قضتها في ربوع مدينة العين،حيث كانت شاهد عيان على ولادة عدد كبير من أبناء وبنات المدينة، وقد روت إنها قد جاءت للإمارات منذ العام 1962، قبل قيام دولة الاتحاد، حيث كانت الحياة بسيطة، والبيوت من الطين وسعف النخيل، والنساء يحضرن الماء من الأفلاج على رؤوسهن، والسوق عبارة عن غرفة صغيرة، ولم تكن هناك شوارع، وكان الطريق من دبي للعين يستغرق 8 ساعات، وحدث إن هطل المطر ذات مرة مما أدى إلى إتلاف سقف المشفى، وانتقل بعدها، إلى موقعه الحالي، بعد أن كان الشيخ زايد ــــ رحمه الله ـــ قد خصص له المكان بالقرب من قصره، وكانت غرفة تخزين الأدوية تحت الأرض من أجل الرطوبة، وكانت الصعوبة الوحيدة بالنسبة لها هي اللغة العربية.

وهي مسألة مهمة من أجل التواصل مع المرضى، مما اضطرها للسفر إلى البحرين لتعلم اللغة العربية من خلال دورات تدريبية خاصة هناك حيث إن التعليم في الدولة حين ذاك لم يكن قد أخذ طريقه بشكل منتظم.

لطيفة التي التزمت بالزي الرسمي الوطني للدولة في جميع ملابسها، تؤكد إن علاقتها بشعب الإمارات لن تمحى من الذاكرة، وقد أفنت عمرها وشبابها بينهم، وأكلت من طعامهم وحضرت أعراسهم وولدت أبناءهم وعالجت مرضاهم وكانت تتمنى لو أنها استطاعت البقاء أكثر بينهم إلا أن للعمر أحكاماً.

بقايا صور

ومن بقايا الصور التي تناقلتها وسائل الاعلام كشاهد عيان عن تطور دولة الإمارات والتي ترويها لطيفة عن مشفى الواحة، أن إحدى النساء وضعت طفلها بشهره الثامن مما اقتضى حجزه في المشفى لعنايته، وكانت تلك المرأة تضطر للمجيء يومياً من أطراف مدينة العين لزيارة وليدها والاطمئنان عليه وإرضاعه، وكانت تضطر لاصطحاب باقي أبنائها حيث كانت تضعهم على ظهر الحمار وتمشي مسافات طويلة على قدميها حتى تصل للمشفى، وعندما ترى طفلها تنسى تعبها. ومن الذكريات الطريفة التي روتها لطيفة أن أحد الأطفال كان يصرخ بشدة من الجوع على باب المشفى.

وقد فقدت أمة المصاصة التي توضع على زجاجة الحليب أثناء الرضاعة والسبب في ضياع المصاصة ان العنزة التي برفقة السيدة قد أكلت المصاصة ونظراً لعدم إمكانية توفير مصاصة بديلة قررت الأم ذبح المعزة واستخراج المصاصة من معدتها وإعادتها إلى زجاجة حليب ابنها، وبالفعل تم ذبح المعزة، وأخرجت المصاصة وتم تعقيمها وتطهيرها، وتناول الطفل حليبه من رضاعته.

فيما قامت السيدة بإعداد وجبة غداء من لحم المعزة للعاملين في المشفى تقديراً لهم على جهودهم.ليس في مدينة العين من لا يعرف لطيفة آنفة الذكر، وللصدفة هي ليست طبيبة رغم إطلاق الناس عليها لقب دكتورة، ولا تحمل شهادات طبية، إلا أن خبرتها الطويلة مكنتها من إتقان عملها.

وقد رصدت بذاكرتها وعدستها،رحلة البناء والتطوير، إلى شهدتها دولة الإمارات في مختلف المجالات، لاسيما الصحية منها.

شاهد على العصر

لا يزال مستشفى الواحة شاهداً على تلك المرحلة حيث تمت إعادة تأهيل المبنى من جديد وتزويده بالمرافق الحديثة، مع الاحتفاظ ببعض خصوصياته حيث كان يحتوي على بئر للماء، فيما تم تخصيص جزء من مسكن المغفور له الشيخ زايد رحمه الله داخل مكان المبنى وأطلق عليه مجلس الشيخ زايد ليظل شاهداً على ذاكرة ذلك المكان يروي حكاية الإنسان وعلاقته بالمكان.

وفي مدخل مشفى الواحة احتفظت إدارة المستشفى بنص قصيدة كتبتها إحدى الشاعرات المواطنات وتحمل اسم مهرة محمد معيض الأحبابي سطرت فيها سجل المشفى بكلمات صادقة ومعبرة قالت فيها:

«مشفى الواحة له شان

مشهور في كل البلدان

فيه الدكاترة ممتازين

كند ومريم والأمريكان

حب مريم مع لطيفة

ما ينساه طول الزمان

دكاترة من أول

يوم وقتنا تعبان

إلهم احترام في الدولة

كيل بلا ميزان

أسسوه في الستينات

يوم الغرف عرشان

الله يبارك إلهم فيه

يحيون الخير لكل إنسان

إنحب الشيخ محمد وإخوانه

من سلالة آل نهيان

وإنحب الشعب الشجاع

من شابات ومن شبان..».

داوود محمد

Email