بلاغة الحديث

صورة السائل يوم القيامة مفزعة ومهينة

ت + ت - الحجم الطبيعي

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس على وجهه مزعة لحم» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم «رواه الإمام البخاري في صحيحه».

ثم يروي لنا أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام للصلاة فقال «خياركم ألينكم مناكب في الصلاة» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من السؤال ويحبذ العمل والكسب الحلال والملاحظ أن هذا الهدي ربط بين الدنيا والآخرة فهو يسأل أي سائل في الدنيا ثم نراه يوم القيامة من الخزي والعار والفضيحة ليس في وجهه لحم من الذل.

أيها الأخوة المؤمنون: تأملوا معي البلاغة النبوية في هذا الحديث الشريف.

المزعة هي القطعة وقد كني عن الذل والسقوط يوم القيامة بسقوط اللحم أو أريد المشهد حقيقة: ما وجهه في الدنيا.

قال القاضي عياض رحمه الله كما ورد عند الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: قيل: معناه يأتي يوم القيامة ذليلاً ساقطاً لا وجه له عند الله وقيل هو على ظاهره، وجهه عظم لا لحم عليه عقوبة له وعلامة له بنبيه حين طلب وسأل بوجهه كما جاءت الأحاديث الأخرى بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها المعاصي.

فإذا قصدنا الكناية من التعبير رأينا كيف يغلف معنى الذل والهوان بسقوط لحم الوجه ولكن سياق الكناية يحتاج إلى رجعة إلى سباق الحدث فثمة سقوط متدرج قطعة قطعة مما يوحي بالرعب إلى أن تصل إلى المنظر المفزع فالكناية حركة حسية واحدة كانت خاتمة لحركات متتالية كل طلب بسقوط قطعة إلى أن يتلاشى منظر اللحم من الوجه فيجتمع فيه الرعب والقبح. والوجه أكرم الأعضاء الظاهرة في الإنسان وفيه الدلالة على الإكرام كما في قوله تبارك وتعالى «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام».

كذلك الحكاية عن أخوة يوسف عليه الصلاة والسلام «اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم».

وهكذا أصبح جلياً أن هذه الكناية قدمت صورة مفزعة لغاية من المهانة إذ نتخيل إنساناً بوجه من غير لحم فتكون هذه الصورة بهولها خير منفر من السؤال والإلحاح فيه هذا الإلحاح الذي نتصوره في سقوط اللحم قطعة قطعة في سياق النص.

وعبارة (ليس في وجهه مزعة لحم) تصور لنا بإفراد كلمة مزعة تسلسل سقوط اللحم كما أن التهويل قائم من جزاء اللفظة الغريبة (مزعة) لا قطعة بأضواء وألوان مرعبة غير محدودة وذلك لمواءمة الموقف الغريب المستهجن والتهويل قائم كذلك في اعتبار الصورة كنائية أو على الحقيقة وهو تهويل قرين الحيرة والاحتمالات المختلفة.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم «عندما قام للصلاة فقال خياركم ألينكم مناكب في الصلاة».

أراد الإسلام أن يكون المجتمع كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص إذ أرشدهم إلى التمسك بحبل الله دعاهم إلى التمسك والتماسك فيما بينهم كالبناء تتصادم أجزاؤه وتتلاصق، والصلاة فضلاً عن المعنى التقليدي لها، منفعة اجتماعية فيها طاعة الإمام، وحسن اتباعه.

والاتساق في الصف والنظام المحكم في أدائها، دليل الفكر الحكيم ودليل على الاستقامة في التفكير والمنهج الديني والخط المستقيم الذي يتجلى ليونة المناكب راحة للقائد الذي يضمن النجاح في الحياة وتنظيم الشؤون أليس هو القائل صلى الله عليه وسلم أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي اخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله.

واستعادة الليونة في الحديث الشريف صورة لمسية تثير حاسة اللمس لوعي الليونة الذهنية، وتمثل إيحاء بانبساط العلاقات وسماحة الصدور فلا يتسمرون في مكانهم ويقصد بالليونة عمران القلوب بالإيمان والتعاطف السهل بين الاخوة والتواضع، والجزئية الحسية لين المناكب مقصودة لتسيير أمر الصلاة والخلق العام الذي يهدف إلى مقصود أيضاً وهو كناية قابلة للتحقيق.

والتعبير باللين لين المناكب كناية لطيفة عن سهولة الانقياد وسرعة الحركة حينما تمس يد المؤمن كتف أخيه تؤخره أو تقدمه أو تدعوه لسد فرجة بينهما ليكونوا في الصف كالبنيان المرصوص وليرتسم هذا النظام في قلوبهم فيمكن من تشكيلهم في القتال بلا كلفة أو عناء فالمعنى الكنائي الذي يستتر وراء التعبير وهو سهولة الانقياد للنظام معنى عقلي يحوج إلى الدليل الحسي ليزيد تقرراً في النفس والمعنى الوصفي هو هذا الدليل.

Email