فلاسفة الإسلام

أمين الخولي.. «فن القول» بين البلاغة والفنون الأخرى

ت + ت - الحجم الطبيعي

ولد رحمه الله في أول مايو سنة 1895م الموافق 1313ه، بقرية (الشيه او شوشاي) مركز اشمون بمحافظة المنوفية، وكان والده قد دخل الأزهر، ونال قسطاً من التعليم الأزهري، لم يتمه ولم يتخذه وسيلة للتكسب بمعنى البحث عن وظيفة في معهد ديني أو مسجد أو كتاب، وإنما عاد إلى أسرته يرعاها وحقله يتعهده، وقد كان هذا شائعاً في الأرياف المصرية، كأن الباعث الأهم لدى مثل أولئك القوم هو تحصيل العلم ومعرفة الحلال والحرام ومحاولة تطبيقه في الحياة، وفي المجتمع الصغير الذي هو الأسرة..!

والأستاذ أمين الخولي هو الآخر تعلم في الأزهر الشريف، ثم التحق بمدرسة القضاء الشرعي، وتخرج فيها سنة 1920م ليكون عضواً بهيئة التدريس، وفي سنة 1923م عين إماما للمفوضية المصرية بروما، ثم بالمفوضية المصرية ببرلين، فتعلم اللغة الايطالية، ونصيباً من اللغة الألمانية وعاد سنة 1927م ليكون مدرساً بكلية الآداب بالقاهرة، ثم أستاذاً مساعداً ثم أستاذاً، فرئيساً لقسم اللغة العربية، فوكيلاً لكلية الآداب،

وانتقل سنة 1953 مستشاراً فنياً لدار الكتب، ثم مديراً عاماً لإدارة الثقافة العامة بوزارة التربية والتعليم، حتى بلغ سن التقاعد سنة 1955م وعين عضواً بمجمع اللغة العربية سنة 1961م، واصدر مجلة الآداب شهرية واستمرت سبع سنوات، وكان في كل مكان شغله مصدر نشاط علمي موفور، وموضع مناقشات جادة تنم عن عقل وعلم معاً. ثم انتقل إلى رحمة الله في سنة 1385هـ الموافق سنة 1966م.

كتب عن نفسه فقال: حوالي سنة 1902 حمل من الريف، وألقى به في حجر خالته، تحت رعاية جده لأمه، وعم أبيه، في الوقت نفسه، وهو شيخ أزهري، يعيش هو وابنه ـ خال الغلام ـ وأصهار لهم كذلك، خدمة للعلم بالأزهر الشريف.. ودفعوا به لصغره إلى مدرسة مدنية، كانت مرحلة بين التعليم الأولي والابتدائي، ولكن جده الشيخ لا يكتفي بما كان في مثل هذه المدارس او المكاتب من حفظ القرآن، فأخذه ـ أي جده ـ بحفظ لوح كبير كل يوم، حتى يوم الجمعة،

وحفظ القرآن بداية وعيادة، وحفظ متني التجويد (التحفة والجزرية)، وجود له القرآن بقراءة حفص في بضعة أشهر يقرئه في كل يوم ربعين. وأخذه في زمن التجويد بحفظ المتون، في التوحيد والفقه والنحو، كمتن السنوسية، والكنز، والاجرومية، والألفية، وبدأ يحضره دروساً له في التوحيد وغيره، كما علمه مبادئ العلوم والحساب. وألحقه سنة 1907 بمدرسة القيسوني التي خلف مسجد القيسوني.. وهي من (الكتاتيب) المشتركة التي كان يتعلم بها بنات الأسر العثمانية، التي تمثل الأسر ذات الأصول الارستقراطية وكانت المدرسة تعد لامتحان الفقهاء والعرفاء، الذين يقومون ـ بعد التخرج ـ بالتدريس في هذه (الكتاتيب).

وقد التقى في هذه المدرسة بالشيخ (محمد الطوخي) ناظرها قوي الشخصية، الذي كان يمارس نوعاً من حياة المغامرة، اذ كان تاجراً، ثم حصل على قدر من المعرفة، وصل به إلى نظارة المدرسة وكان جريئاً فاهماً للحياة فهماً، له مواقف ذات تأثير كبير في نفس تلميذه النجيب.. هذا إلى انه استطاع ان يتعرف على قدرات تلميذه، ويرهف صفاته الطيبة، وبخاصة الصدق والشجاعة..!

ويقول الأستاذ عن نفسه أيضاً: حين كانت إحدى الإجازات أعددت خطبة، رآها (العريف)، وهي كانت وظيفة أشبه بالمدرس المساعد او النائب في كليات الطب او المعيد ولكن في الكتاب فلم تعجبه وجاء الشيخ (الطوخي) وقرأها، وأبدى إعجابه، ثم أوقفني على المكتب ودعاني لإلقاء الخطبة..!

وانتقلنا من (درب الاغوات) إلى حارة (المرداني) بعمارة (حمزة بك) .. وكانت مدرسة (خواند بركة) تشركنا في نفس العمارة.. اذ أمطرت السماء، فذهب المدرسون إلى مكان يحتمون فيه من المطر، وبقينا في الفناء، فقلت قولاً معيباً في الشيخ (أمين الجندي) ـ ناظر (خواند بركة) ـ وعلم بالقول فأخبر الشيخ (الطوخي)، واعترفت بما قلت، فسامحني الشيخ (الجندي) لصدقي، وضربني الشيخ (الطوخي) تهذيباً لي وترضية للشيخ (الجندي)..! ولما زار المدرسة الأستاذ عبدالعزيز جاويش المفتش الأول للغة العربية اشتبك مع الشيخ (الطوخي) في جدال، أدى إلى استقالته من الوظيفة، وافتتح قسماً في مدرسة حرة، اسمها (المحروسة) فتحول معه عدد من الطلاب، وبينهم تلميذه (أمين).

وبعد ذلك دخل مدرسة عثمان باشا ماهر، ومنها إلى مدرسة القضاء الشرعي، وكانت هذه المدرسة تفرض على طلابها في الصفوف الأولى أن تظهر منابت شعر لحاهم، وفي العام الذي يليه تترك لتصير قدر السنتيمتر وبعدها تستطيل أكثر، ثم تعفى نهائياً في العام الأخير ليكون الخريج بادي الوقار تأهيلاً له لتبوؤ منصة القضاء.. مع ان الطالب كان يدرس الجبر والهندسة النظرية والفراغية وعلم الهيئة ومبادئ الفلك والطبيعة والكيمياء والتاريخ والجغرافيا بجوار أصول القانون وشرح لائحة المحاكم الشرعية ونظام المرافعات، والتفسير والفقه والحديث والتوحيد، هذا سوى النحو والصرف والأدب وهذا كله لا غبار عليه وانما كان يضايق الأستاذ أمين أن طريقة التدريس ذاتها كانت طريقة قديمة كأنها آتية من العصور الوسطى، وبلهجة غير معروفة..!

ورغم ذلك تعلموا في هذه المدرسة العدالة السائدة المطبقة على جميع طلابها، والمطبقة كذلك على جميع مدرسيها، وعلى النظافة التامة والنظام التام وروح المودة بين المدرسين والطلاب بل وبين ناظر المدرسة عاطف بركات باشا، مما جعل الأستاذ امين وغيره يتأثرون جداً بشخصيته القوية الأخاذة التي زرعت فيهم الاستقلال وقوة الشخصية.

والحق ان مثل عاطف بركات هم الذين يصنعون الأجيال صنعاً على وجه عطائهم الخلقي والتربوي فإذا قيل إن هذا الناظر لم يجرب عليه كذب مرة قط، فهمنا لماذا نشأ اليوم فصام صارم بين أجيالنا وبين الأخلاق، ولا حول ولا قوة الا بالله..! فإذا بحثوا لهذا الرجل عن عيب، فما وجدوه الا في عدم مجاملته حتى حيث لا تضر المجاملة بالخلق وصراحته التي قد تحرج، ثم نظامه العسكري في غير ترفيه..!

وهكذا اشرف هذا الرجل والرجال قليل على تخريج رجال نفعوا وطنهم وربوا أجيالا على قوة الشخصية واستقلال الرأي واحترام الآخر احتراماً كاملاً في حياتهم العملية، ومن اجل ذلك كانت اجتهادات الأستاذ أمين الخولي اجتهادات نافعة، والتي تعددت ميادينها، فكتب في التفسير والتشريع والآداب والنحو والبلاغة كتابة تدعو إلى التجديد، وتحاول بناء اسس علمية طريفة، وقد جمع خلاصة آثاره النقدية في كتاب سماه (مناهج تجديد) وهي مناهج جديدة في دراسة هذه العلوم، وشغله تعدد هذه المناهج عن التطبيق العلمي لما يود ان يسنه من القواعد الجديدة الا في مادة البلاغة فقد افرغ لها كتاباً تجديدياً خاصاً سماه (فن القول)، ولعلّ هذا قد اتى من توزع نشاطه على عدة فنون او علوم، فكان يغرس في كل حقل بعض البذور، ويتجاوزه إلى حقل آخر، ولو اقتصر على بعض دون بعض لأتى بالرائع المعجب..!

وقد بدت عليه ملامح الابتكار منذ كان طالباً، لأنه كتب في عهد الطلب اجزاء عن السياحة الإسلامية، وعن الجندية في الإسلام، ثم وضع رسالة عن آداب البحث والمناظرة بعد تخرجه مباشرة، واشرف على تحرير مجلة (القضاء)، فنهض بها نهوضاً كريماً، وكانت مهمة صعبة لأنه يعلق كثيراً على ما ينشر بها من البحوث، فيخالف وجهة نظر الكاتب، وقد يكون استاذه وحين رجع من اوروبا اصدر بحثاً تحت عنوان (تاريخ العقيدة الإسلامية) قال في مقدمته: «انه بحث مستحدث يراد به تاريخ العقيدة الإسلامية ومكانتها بين الاديان السماوية، وما كان حال الناس حين دعوا اليها، وكيف تدرج بها التنزيل، والى اين امتد بها التأويل».

والبحث جديد حين صدر في ايامه، وقد تبعته بحوث مماثلة تعتبر امتداداً له، ثم اختير لتدريس الفلسفة في كلية اصول الدين، فكتب للطلاب فصولاً عن نشأة الفلسفة وتطورها، كما كتب بحثاً مستفيضاً عن «الملل والنحل» والبحثان لم يصدرا في كتابين مستقلين بل وزعا في هيئة ملازم على الطلاب، وكأن الكاتب رأى ان الموضوعين في حاجة إلى زيادة لم تستكمل، فآثر الانتظار وهي تؤدة علمية حميدة..! وحينما انتدب للتعقيب على ما ينشره المستشرقون في (دائرة المعارف الإسلامية) من آراء شاذة ذكر الأستاذ في هذا الصدد إن أهم ما يقتبس من علماء الغرب في الدراسات الإسلامية هو أساليب البحث، وطرائق النقد الحر المنظم، اما الأحكام التي تنتهي بها البحوث فليست في الكثير منها موضع اتفاق، وكان لا يستنكف ان يصرح برميهم بعدم الإنصاف..!

وكتاب (فن القول) هو اظهر الكتب التي ألفها الأستاذ أمين الخولي لأنه خطا بالبلاغة خطوة تالية لخطوات السابقين، فقد درس اولاً الصلة بين البلاغة والفنون والجمالية الأخرى، كما دعا إلى تنسيق العناصر الأدبية تنسيقاً يؤلف منها مجموعة متحدة متماسكة، واهم ما ركز عليه هو إقامة الدرس على أساس وجداني ذوقي، لا يعتمد على التحديد المنطقي بل يهدف إلى التنبيه الوجداني الواعي إلى تذوق الأثر الأدبي بعيداً عن التلقين والالتزام، وإذا كان القدماء لم يهتموا بالربط العام للمقال الأدبي إذا اتجهوا إلى الكلمة فالجملة، ولم يلحظوا الترابط بين الجمل المتعاقبة، فإن فن القول يدعو إلى النظر البلاغي للأثر الأدبي باعتباره كلاً متصلاً لا جملاً تتوالى.

ومن أنفس ما كتبه أيضاً رسالته التي عنون لها بـ «صلة الإسلام بإصلاح المسيحية» وهي رسالة ذات أهمية كبرى، وقد ألقاها في مؤتمر المستشرقين المنعقد في بروكسل سنة 1935م فكانت صيحة لافتة قوية، وقد قال الأستاذ: إن منهجه في البحث عن هذه الصلة المؤكدة للإسلام في إصلاح المسيحية قائم على دراسة الاتصال المادي بين المسيحية والإسلام، إذ إن الإسلام واجه أوروبا منذ توطن في الأندلس وجنوبي فرنسا وايطاليا وجزر البحر الأبيض المتوسط، منذ فتح المسلمون نابولي وجنوة، وتغلبوا على رومية في القرن التاسع حتى استنقذها البابا يوحنا مستعيناً بملكي فرنسا وايطاليا، وهي حقائق تاريخية مسجلة، ثم الحروب الصليبية بأمواجها المتعددة، ومن اجل ذلك كان علماء المسيحية في هذه الفترة يقلدون العرب، وتم ترجمة القرآن ترجمات عديدة، رحمه الله.

بقلم: علي عي

Email