فنون إسلامية

إحياء السكن العربي.. إعادة الاعتبار لمفردات مناخية

ت + ت - الحجم الطبيعي

جرفت موجة التحديث في مدننا العربية وهي تمضي متسارعة، التقاليد الفنية الراسخة للبيت العربي، تلك التقاليد التي عبرت عن الشخصية المتميزة لحضارة الإسلام بقدر ما جسدت الاختزال العملي لخبرات الانسان العربي في تعاطيه مع الأحوال المناخية لبلاده والقيم الاجتماعية السائدة فيها.

وفيما عدا بعض المناطق التي حافظ سكانها على تقاليدهم القديمة في بناء المنازل، دهست العمارات الحديثة الشاهقة والابراج السكنية في طريقها المنازل العربية التصميم واجبرت اصحابها على التخلي عنها لمطاولة بنيان ناطحات السحاب.

لقد افرزت التجربة الحضارية الاسلامية نمطا متميزا من المنازل التي عاشت فيها الطبقات المتوسطة من برجوازية المدن، وهو نمط لا يتجاوز ارتفاعه الطابقين في اغلب الاحيان، ليتماشى مع تخطيط شوارع العصور الوسطى التي تميزت دوما بأنها طويلة متعرجة وضيقة في ذات الوقت، وقد استدعى ذلك عدم الارتفاع بطوابق المنازل للحفاظ على حدود ملائمة من التهوية والاضاءة الطبيعية للبيوت والطرقات.

ونظرا للتقارب الشديد بين الدور، عبر الطريق، لم يستطع المعمار العربي ان يعتمد على النوافذ المطلة على الطريق لتوفير التهوية او الاضاءة لوحدات المنزل، طالما كانت التقاليد الاجتماعية والقيم الدينية تحض الناس على عدم الاطلاع على حرمات جيرانهم وخصوصياتهم.

ومن ثم لجأ العرب إلى إنشاء فناء للدار يتوسطها من الداخل وسموه في وثائق العصور الوسطي باسم «الكشف السماوي»، وربما أطلقوا عليه ايضا اسم الصحن اسوة بمثيله في المساجد الجامعة، حتى ان بعض المؤرخين لفنون الإسلام يرون في تصميم الدار العربية صدى من نوع خاص للتخطيط العام للمساجد.

وحول الفناء الأوسط توزعت قاعات البيت ووحداته، متطاولة الجدران، وفق نظام خاص روعي فيه عزل اهل البيت عن الزوار المحتملين، فيم يعرف باسم السلاملك والحراملك، وخصصت قاعات الطابق الارضي لاستقبال الزوار فيما افردت القاعات العلوية لأهل الدار.

وفي الوقت الذي غطيت فيه النوافذ العلوية الضيقة المطلة على الطريق بأحجبة من خشب الخرط (المشربيات) ذات البرامق الضيقة، غشيت النوافذ الداخلية المطلة على الفناء مع اتساعها بأحجبة من خشب الخرط ذات برامق واسعة، ويعرف النوع الاول باسم الخرط الميموني والثاني بالخرط الصهريجي لدى النجارين من اهل الصنعة.

لقد وفر هذا التصميم للمنزل العربي التقليدي صفة «السكن» بالمعنى الحرفي للكلمة، وأصبح المنزل بمساحته الكبيرة مقراً لإقامة اسرة ممتدة حافظت بتماسكها على أنبل القيم العربية في التكافل الاجتماعي على المستوى الأسري.

لقد أحس سكان المدن العربية الذين وجدوا انفسهم محاصرين داخل الشقق السكانية في عمارات شاهقة بأن معضلاتهم مع السكن لاتنتهي مهما اتسعت الحجرات وتعددت.

فالإطلالة المفتوحة على الجيران الفضوليين تحرم الاهل من التحرك بحرية وهم بملابس النوم امام نوافذ الهواء، واغلاقها يرفع درجة الحرارة المختزنة اصلا في الجدران الاسمنتية، الامر الذي يرفع من الناحية الفعلية تكلفة تحويل الشقة إلى «سكن».

وقد تنقلنا من المراوح الكهربية إلى المكيفات الهوائية بما تحمله من ضجيج وكلفة مادية وصحية بلا نهاية او حدود، وتزايد اعباء الرقي إلى الأدوار العلوية، صعود السكان في المصاعد الكهربية، كلفة ومخاطرة، ورفع المياه وامدادات الكهرباء والاثاثات والاحتياجات المعيشية.. الخ .

لقد كانت هذه المعضلات وراء هروب الفئات العليا من الطبقات المتوسطة من الأحياء الراقية الحديثة في المدن والتي كانت قبل نصف قرن قبلة الاثرياء والاقامة بها عنوانا على سمو المكانة الاجتماعية، وأخذت تظهر في محيط الحوافر الكبرى أحياء جديدة تعيد انتاج فلسفة المنزل العربي، ولكن وفقا لمعطيات أوروبية فيما يعرف بالمنتجعات او نظام الفيلات.

ويعتمد هذا النوع من المنازل ، على الحد من الكثافة السكانية بالاقتصار على طابقين او ثلاثة من البناء مع احاطته بمساحة مكشوفة لتوفير الاضاءة والتهوية، وغالباً ما تغرس الاشجار والنباتات في هذه المساحات الخلوية المكشوفة.

بيد ان هذه التصميمات الأوروبية والمستحدثة لم تنجح في معالجة المعضلات المناخية للمدن العربية التي تقع كلها تقريبا في المناطق المدارية. فهذه المناطق تمتاز بتطرف مناخها القاري، فالبون شاسع بين درجات الحرارة صيفا وشتاء، وليلا ونهارا، مع ارتفاع ملحوظ في درجات الرطوبة بالمدن المطلة على المسطحات المائية الواسعة على البحر المتوسط والبحر الاحمر والخليج العربي ايضا.

وهكذا انتقلت وسائل التهوية والإضاءة الاصطناعية من شقق الأبراج إلى الدور والفيللات الجديدة، وربما كان السبب في ذلك هو ان المهندسين المعماريين الذي تلقوا علومهم وفقا لمناهج نمطية تمت صياغتها في دول الشمال الأوروبي، لم يتسع خيال بعضهم لإدراك الفوارق المناخية والتباينات الاجتماعية التي تفصل مجتمعاتهم بميراثها الحضاري عن المجتمعات الأوروبية.

بل إن بعضا من هؤلاء المهندسين راح يعرض على قصاده من الراغبين في البناء كتالوجات لدور تم تنفيذها بالفعل في دول مثل ايطاليا واسبانيا وجزر الكاريبي لإعادة انتاجها مع قليل من التصرف المفسد للذوق العام.

وإذا كان إحياء الفن المعماري للمساجد الإسلامية قد وجد له رعاه من هيئات حكومية واهلية قادرة على التفكير والتخطيط واجتذاب الكفاءات، فإن أمر الإحياء المعماري في العمارة المدنية لم تتوفر له مثل هذه الحظوظ، وظل نهبا لاعتبارات السوق العقاري.

لقد آن الأوان لأن تعطي اقسام الهندسة المعمارية في جامعاتنا العربية قدراً من الاهتمام لدراسة الأسس العملية والفلسفية التي قام عليها المنزل العربي، لعل ذلك يساعد الاجيال القادمة من الانشائيين على ابتكار نماذج اكثر انسانية وأقوى التصاقا باحتياجات المواطنين في مدننا، ولجذب انتباه المخططين في مجال العمران لنتاج افكارهم.

إن اعادة الاعتبار لتقاليد بناء السكن العربي تستدعي البدء في دراسة التأثير الايجابي لعدد من المفردات التقليدية التي شاع استخدامها في المنازل التقليدية، ولعل في المقدمة منها الفناء السماوي المكشوف الذي يتوسط الدار.

فقد اثبتت دراسات المعماريين الفرنسيين الذي صاحبوا حملة بونابرت على مصر والشام ان هذا الفناء يساعد على ترطيب الاجواء في اوقات النهار وتدفئة وحدات البيت اثناء الليل، بفضل الحجرات والقاعات الموزعة حوله والتي تلعب دور الخزان الحراري فتختزن درجات الحرارة المنخفضة ليلاً لتعيد بثها في اوقات القيظ النهارية.

ذلك بالإضافة إلى الفائدة الصحية من دخول أشعة الشمس إلى وحدات المنزل والشعور الذي ينتاب السكان بالراحة والخصوصية وهم يشاهدون زرقة السماء واطلالة القمر والنجوم.

ومن المفردات التقليدية ايضا عنصر «المقعد» الذي يواجه هبوب الرياح المنعشة، كرياح الشمال في حوض البحر الابيض، فهو يوفر تهوية طبيعية منعشة حتى في أشد أيام الصيف حراً.

وقد تنبه المعماريون القدامى إلى أهمية توفير مصادر طبيعية للتهوية بالنسبة للقاعات الداخلية التي قد لا تتوافر لها نوافذ مطلة على الطريق العام او حتى على الفناء الداخلي، وجاءت قرائحهم بابتكار ذائع الصيت لدى دارسي فنون العمارة وهو ملقف الهواء او الباذهانج حسب مصطلح اهل حرفة البناء في العصور الوسطى وثمة تطبيقات حديثة لهذه الفكرة.

وخاصة في المنشآت العامة والصناعية، وتعتمد فكرة «الباذهانج» على دفع عامود من الهواء المنعش إلى دواخل القاعات عن طريق اصطياده بوحدة معمارية من الطوب الاحمر والاخشاب على هيئة صندوق مفتوح الغطاء في مواجهة الجهة التي تهب منها الرياح الصيفية، ويتم رفع هذا الغطاء المتحرك عند الحاجة وغلقه بعد ذلك بوسائل ميكانيكية بسيطة، وكانت هذه الوحدة اكثر فاعلية وفائدة من وسائل التهوية الاصطناعية وهي بالطبع اقل كلفة.

واحسب أن الاستخدامات ذات الطابع الزخرفي المتزايدة لأحجبة الخشب المخروط ستسهل ـ إلى حد بعيد ـ إعادة توظيفها لتحقيق الاغراض الوظيفية لها من كسر لحدة اشعة الشمس وتوفير للتهوية الطبيعية الملائمة مع حجب الاتربة فضلاً عن الغرض الاجتماعي منها ألا .

وهو توفير الخصوصية لسكان البيت، ذلك ان الفارق بين الضوء الباهر بالخارج والاضاءة الناعمة في دواخل المنازل تسمح للسكان ان يروا الطريق عبر البرامق الخشبية للمشربيات دون ان يلحظهم المارة في الطرقات.

ـأستاذ الآثار الإسلامية ـ جامعة القاهرة

Email