التفسير والمفسرون

الإمام فخر الدين الرازي وكتابه «مفاتيح الغيب»

ت + ت - الحجم الطبيعي

هو الإمام محمد بن عمر بن الحسين بن علي القرشي التيمي البكري، أبو المعالي وأبو عبدالله المعروف بالفخر الرازي، ويقال له ابن خطيب الري، أحد فقهاء الشافعية المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار، إذ ترك نحواً من مئتي مصنف، منها التفسير الحافل، والمطالب العالية، والمباحث الشرقية، والأربعين، وله أصول الفقه والمحصول وغيرها وصنف ترجمة الشافعي في مجلد مفيد.

وكان معظماً عند الملوك، في خوارزم وغيرها، وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى، وامتلك من الذهب الإبريز ثمانين ألف دينار وغير ذلك من الأمتعة والمراكب والأثاث والملابس، وكان له خمسون مملوكاً من الترك، وكان يحضر في مجلس وعظه الملوك والوزراء والعلماء والأمراء والفقراء والعامة،

وكانت له عبادات وأوراد، وقد وقع بينه وبين الكرامية ـ أتباع محمد بن كرام ـ وهم من المجسمة المشبهة ـ وكان الفخر الرازي يبغضهم ويبغضونه ويبالغون في الحط عليه، ويبالغ هو أيضاً في ذمهم.

وقد ذكرنا طرفاً من ذلك فيما تقدم، وكان مع غزارة علمه في فن الكلام يقول: من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز، وقد ذكرت وصيته عند موته وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها إلى طريقة السلف وتسليم ما ورد على وجه المراد اللائق بجلال الله سبحانه.

وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه: كان يعظ وينال من الكرامية وينالون منه سباً وتكفيراً بالكبائر، وقيل إنهم وضعوا عليه من سقاه سماً فمات ففرحوا بموته. قال: وكانت وفاته في ذي الحجة، عام 606 هجرية، ولا كلام في فضله ولا فيما كان يتعاطاه، وقال ابن خلكان: فريد عصره، ونسيج وحده، فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات، له التصانيف المفيدة في فنون عديدة، منها تفسير القرآن الكريم، جمع فيه كل غريب وغريبة وهو كبير جداً لم يكمله!

وقال الذهبي في السير: علامة كبير، ذو فنون.. وقال في تاريخ الإسلام: قال الموفق أحمد بن أبي أصيبعة في تاريخه: انتشرت في الآفاق مصنفات فخر الدين الرازي وتلامذته، كان إذا ركب مشى حوله نحو ثلاثمئة تلميذ: فقهاء وغيرهم!

وكان خوارزم شاه يأتي إليه، وكان شديد الحرص جداً في العلوم الشرعية والحكمية حاد الذهن، كثير البراعة، قوي النظر في صناعة الطب، عارفاً بالأدب، له شعر بالفارسي والعربي، وكان ربع القامة كبير اللحية في صورته فخامة، كانوا يقصدونه من البلاد على اختلاف مطالبهم في العلوم وتفننهم، فكان كل منهم يجد عنده النهاية القصوى فيما يرومه منه.

وقال القفطي: قرأ علوم الأوائل وأجادها، وحقق علم الأصول، ودخل خراسان ووقف على تصانيف أبي علي بن سينا والفارابي، وعلم من ذلك علماً كثيراً. وقال طاش كبرى زاده: إمام المتكلمين، ذو الباع الواسع في تعليق العلوم، والاجتماع بالشائع من حقائق المنطوق والمفهوم، بحر ليس للبحر ما عنده من الجواهر، وحبر سما على السما،

وأين للسماء مثل ما له من الزواهر، وروضة علم تستقل الرياض نفسها أن تحاكي ما لديه من الأزاهر، انتظمت بقدره العظيم عقود الملة الإسلامية، وانتظمت بدره النظيم ثغور المحمدية، وخاض من العلوم في بحار عميقة، وراض النفس في دفع أهل البدع وسلوك الطريقة!وأما الشرعيات: تفسيراً وفقهاً وأصولاً وغيرها، فكان بحراً لا يجارى، وبدراً ـ إلا أن هداه ـ يشرق نهاراً! هذا وصف طاش كبرى زاده في كتابه «مفتاح دار السعادة»!

والخلاصة أن الفخر الرازي حائز على ثناء المؤرخين والكتاب والنقاد القدماء والمحدثين خصوصاً من أهل السنة والأشاعرة الذين عبر عنهم ودافع عن أركان طريقتهم ومذهبهم، مستعيناً بثقافته الموسوعية الواسعة التي قل أن يجدوا مثلها في كنانتهم ومن أجل ذلك بذلوا له التقدير والتعظيم، بقدر ما صبت عليه الفرق الأخرى جام غضبها وأطلقت عليه ما استطاعت من شائعات واتهامات..!

ويعطيه أستاذنا الفاضل بن عاشور رحمه الله حقه، بقوله في كتابه «التفسير ورجاله»: تنقل الإمام فخر الدين في البلاد الأعجمية من الري إلى خراسان، إلى خيوة وبخاري، وعامة بلاد ما وراء النهر، ودخل البلاد العربية: العراق والشام، كما استفدنا ذلك من تفسيره وإن لم ينص عليه أحد من مترجميه.

وكان أكثر استقراره وتدريسه بخوارزم وهي مدينة خيوة شرقي بحيرة قزوين، ثم استوطن مدينة هرات من البلاد الأفغانية وكانت وفاته بها. واكتمل حظه من مواد الثقافة الإسلامية فنشأ محلقاً في أفقها بجناحين: من اللغة العربية واللغة الفارسية، إذ أجادهما، وتمرس بآدابهما، واكتملت ملكته البيانية فيهما، قال ابن خلكان: «له اليد البيضاء في الوعظ باللسانين العربي والفارسي».

كان تخرجه أول الأمر بعلوم الحكمة اليونانية ـ أي الفلسفة اليونانية ـ ثم ضم إليها علوم الكلام والأصول والفقه على مذهب الشافعي، وعلوم العربية، فأصبح علماً مفرداً في الجمع والمزج بين الفنون، وسهولة، هضم بعضها بعضاً، وبذلك علت سمعته وعظم صيته وتمكن من سلوك طريقة في التأليف والبحث والعرض وانفرد بها،

وأفاد منها كل فن من خصائص الفن الآخر، فأصبحت طريقته المنهج الثقافي التعليمي الذي عم أقطار الإسلام، وسرى في لغات الثقافة الإسلامية كلها، على توالي العصور. ومن هنالك أصبح معروفاً بلقب «الإمام» إذا أطلق عند المتكلمين والأصوليين انصرف إليه.وعلى تلك الطريقة البديعة صدرت كتبه الكثيرة الجليلة المفننة في التفسير والكلام والأصول والفقه والنحو والأدب والفلسفة والطب والهندسة والفلك.

فكان بدروسه ومواعظه ومناظراته وكتبه مظهراً لرقي الثقافة الإسلامية ومتانة أسسها، وحجة قاطعة على انتصار المبادئ الإسلامية في كل ناحية من نواحي المعرفة، اعتز الناس في حياته شرقاً وغرباً بعجيب عبقريته وشدت إليه الرحال، وتفنن في مديحه الشعراء واختص من بينهم بذلك شاعر الشام والرحالة شرف الدين بن عنين، وقد كان من تلاميذه بمدرسة خوارزم، وهو الذي يقول في رثائه:

ماتت به بدع تمادى عمرها.. دهراً وكان ظلامها لا ينجلي

وعلابه الإسلام أرفع هضبة.. ورسا سواه في الحضيض الأسفل

وقد جعل الإمام الرازي غايته من تلك المنزلة العلمية العليا، المتساوية الدرجات بين موارد الثقافة والمعرفة: أن يضع القرآن العظيم موضع الدراسة والبحث والتحليل على منهج يرى تفوق الحكمة القرآنية على سائر الطرائق الفلسفية، وانفرادها بهداية العقول البشرية إلى غايات الحكمة، من طريق العصمة..

ولقد كتب في وصيته التي أملاها عند احتضاره: «لقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك الحقائق العميقة، والمناهج الخفية.

وعلى هذا الأساس من إبراز حكمة القرآن والبرهان على سموها وأمن مسلكها أقام فخر الدين الرازي تفسيره الكبير..كانت الطريقة المثلى في نظره، لإدراك ما في القرآن من أسرار حكيمة، وبث ما تضمنه من مطالب فلسفية وعلوم طبيعية، وإنما هي طريقته الكلامية المختارة المتبعة لمنهج الغزالي، وإمام الحرمين والباقلاني وأبي اسحق الإسفراييني، والإمام أبي الحسن الأشعري،

فلذلك كان يرى: أن الطريقة الأخرى، وهي طريقة المعتزلة هي التي عطلت القرآن عن أن يفيض على الناس غيوثه الحكيمة وأن المعتزلة لما آمنوا بالحكمة اليونانية حجبوا عن الوصول إلى أسرار القرآن، فأصبح مبلغهم من التفسير، تحقيق أعاريبه، وتحليل تراكيبه، وبيان ما اشتمل عليه: من بديع النكت، وبليغ الأساليب، على نحو أبرز عليه الزمخشري تفسيره الكشاف وقبله أبو اسحاق الزجاج ثم الشريف المرتضي،

فاستقر حكمه أخيراً على أنه: ما دام المعتزلة مستحوزين على طريقة التفسير النظري، وما دام أسلوبهم مسيطراً عليه، فإن القرآن لا يزال محجوباً عن أفكار أهل المدارك الحكيمة، تحول بينهم وبين لبه بحوث في القشور النحوية، وتقارير للقوالب البلاغية، هنالك ناشد نفسه وناشد الناس، أن يغوصوا على منابع القرآن ليفجروا منها سيولاً فياضة يستطيعون أن يغترفوا منها حكمة صافية: هي روح الهداية التي جاء القرآن ينير بها العقول، ويشرح لها الصدور.

ولبيان أن شغل الناس بقضايا إعرابية أو بلاغية أو كلامية حجب الناس فعلاً عن حسن تدبر القرآن والاستنباط من كنوزه، أقدم على تصنيف كتاب في تفسير الفاتحة، وأخذ مثلاً لاثبات ما قال من قوله تعالى: (رب العالمين) فبين أن العالم الذي ضبطت أحواله المعارف الإنسانية ليس هو كل الوجود، لأن الخلاء الذي لا نهاية له خارج هذا العالم، صالح لأن يشتمل على الآلاف من العوالم الأخرى وأن يحصل في كل واحد من تلك العوالم،

مثل ما حصل في عالمنا هذا وأعظم وأجسم من ذلك وإن الإنسان لو ترك تلك العوالم واقتصر على أن يحيط علمه من هذا العالم فقط، بعجائب المعادن، واقتصر على أن عجائب أحوال النبات، وعجائب أقسام الحيوانات لنفذ عمره في أقل القليل من هذه المطالب، فلا ينتهي إلى غورها، مع أن ذلك كله بعض قليل مما يندرج تحت قوله: «رب العالمين» وانتهى من هذه البراهين التمهيدية إلى أن سورة الفاتحة مشتملة على مباحث لا نهاية لها،

وأن القول بأن تلك المباحث عشرة آلاف، ليس إلا من قبيل التقريب لأفهام السامعين، لأنها فوق ذلك بكثير.. وبعد تأصيل تلك القواعد المبدئية، تناول سورة الفاتحة، مبتدئاً بتفسير الاستعاذة والبسملة. ومتتبعاً السورة بالتحليل وتقليب الأوجه، وبيان معاقد المعاني وطرق استنباطها، حتى أخرج في تفسير سورة الفاتحة وحدها كتاباً جليلاً.

وبالانتهاء من هذا الكتاب المخصوص بسورة الفاتحة، شرع في تأليف كتاب آخر في تفسير سورة البقرة، على تلك الطريقة نفسها، ثم اطرد ينتقل من سورة إلى سورة على ترتيب المصحف الشريف جاعلاً تفسير كل سورة كتاباً مستقلاً، وسائراً في تفسير السور كلها على المنهج الذي وضعه في تفسير سورة الفاتحة، وكأنه استغنى بالمقدمات التي مهد بها لتفسير سورة الفاتحة عن العود إلى بيان منهجي فكان يتناول كل سورة افتراعاً،

مبتدئاً ببيان الفوائد المستنبطة من أول كلام فيها، غير أنه في أثناء سورة الأعراف، لما بين تفسير قوله تعالى: «يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره» (الأعراف 54) لما تكلم على حركة الأفلاك وصورها ومدى حركات الكواكب الثابتة، واستشعر استغراب المطالع جلب تلك المسائل المغرقة في علم الهيئة والفلك،

فوقع له أن عاد إلى التنويه بمنهجه، والتعريض بأصحاب التفاسير الآخرين، بكلام لو وضع في أول الكتاب لكان أبلغ مقدمة له، ببيان منهجه وغايته، حيث قال: «ربما جاء بعض الجهال والحمقى، وقال: إنك أكثرت في تفسير كتاب الله تعالى من علم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد فيقال لهذا المسكين: «إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته».!

علي عيد

Email